لماذا نهتم بمستقبل اليسار؟
ملاحظات فكرية للحوار:
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
ملاحظة تمهيدية
نشهد في وسطنا العربي داخل إسرائيل أحزابا تدعي القومية واليسارية والعلمانية، لكن لا شيء يردها عن ارتكاب حماقات سياسية بالتحالف مع العباءات الطائفية ضد تيار يساري تاريخي بظن انها الطريق لإحراز مكاسب بجوهرها شخصية، المؤسف ان قيادات صلب عودها السياسي داخل اليسار الماركسي، قبل ان تنضوي تحت هيكلية سياسية قومية يسارية بظاهرها، لا تجد غرابة أو ترددا من الانخراط بلعبة سياسية طائفية قذرة تشكل في النهاية تهديدا لكيان تنظيمها القومي أيضا.. واليوم بعد "هجرة" الزعيم المؤسس نشاهد تعمق الانشقاقات، بعد ان تبين ان الزعيم لم يكن أكثر من تاجر يبيع بضاعته لمن يزيد بالثمن.
من هنا رؤيتي ان مستقبل اليسار واستعادته ل "صحته" هو الطريق لإخراج مجتمعاتنا من الضياع الذي نندفع إليه، للأسف نجد أن الحوار بين اليساريين من تنظيماتهم المختلفة يتخذ أشكالا تتجاوز أخلاقيات الحوار وضرورة إيجاد المشترك قبل جعل العداء قاعدة للحوار والتحريض وبالتالي لن يكسب أي طرف من استمرار هذه الحال.. والثمن سيدفعه الشعب.
*****
لم يعرف تاريخ الفكر الحديث نظرية اجتماعية، فلسفية،
اقتصادية وسياسية بمثل قوة واتساع الفكر الماركسي. ولم يعرف عالمنا تيارا فكريا
ثوريا عاصفا بمثل التيار الماركسي. لم يؤثر أي فكر سابق، بالقوة الهائلة التي ميزت
الفكر الماركسي منذ أواسط القرن التاسع عشر. الماركسية عصفت بكل الفكر الفلسفي
السابق، بكل النظريات الاجتماعية التي سبقتها،بكل الفكر الاقتصادي والسياسي الذي
سبقها. الماركسية لم ينحصر تأثيرها في بقعة جغرافية محددة، بل شملت عالمنا كله، بكل
قاراته، بكل مجتمعاته، بكل طبقاته وفئاته الاجتماعية.لم تظل بقعة جغرافية ومجتمع
إنساني لم يطوله تأثير الفكر الماركسي. إن دور الماركسية الفكري والفلسفي في
الانقلاب الذي أحدثته في الحياة الإنسانية الحديثة هو شبيه بالدور الذي لعبه
العالمين الشهيرين كوبرنيكس وغاليلو في الأبحاث والاكتشافات في علم الفلك
والفيزياء.
أقول بقناعة، لا يبدو أن قوة جذب الماركسية في تراجع أو ضمور، ما زال الفكر الماركسي يشكل عنصرا مركزيا في حياة عالمنا. لا فرق بين مؤيد أو رافض لهذا الفكر.
طبعا ليس كل ما طرحه ماركس يجب أن يؤخذ بالمفهوم المطلق.. بل بنسبيته للظروف التي نشأت فيها الماركسية وانتشرت.
الماركسية كأيديولوجيا ثورية انتفاضية
الماركسية شملت في أطروحاتها مختلف المواضيع، من الاقتصاد إلى الفلسفة إلى الثقافة إلى علم الاجتماع إلى التاريخ إلى السياسة. الماركسية لم تتوقف على التنظير فقط، بل كانت إيديولوجيا ثورية انتفاضية، وهذا ما عناه ماركس بقوله:" ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره". إذن الماركسية تطورت كفلسفة للتغيير الثوري في جميع مجالات الحياة.
التجاوزات الخطيرة للقواعد الماركسية ميزت حقبة ستالين، رغم ما جرى من إعادة تقييم ونقد لتلك المرحلة إلا ان الظاهرة الستالينية ظلت سائدة بأشكال مختلفة، عمليا شكل استمرار الظواهر الستالينية عالة على الفكر الماركسي وعلى الحركة الشيوعية ومقياسا سلبيا لهذا التيار. يبدو أن بعض المتحدثين باسم الماركسية يكررون بشكل ببغاوي مقولات تجاوز التطور التاريخي الكثير من ثوابتها، دون أن يعوا بشكل علمي دقيق اختلاف الواقع اليوم عن منتصف القرن التاسع عشر وما قبله.
بعض ما كان صحيحا في فترة ماركس، لم يعد يشكل معيارا سليما في تطبيقه (وليس في مفهومه النظري) في وقتنا الراهن بحيث يمكن البناء عليه بنفس الأسلوب..
لا أقول ذلك نفيا لصحة تشخيص ماركس في فترته الزمنية، إنما بعض ما كان صحيحا في وقته، وبنيت عليه نظريات أساسية في فلسفته، بات منذ زمن بعيد، يحتاج إلى إعادة نظر شاملة وتطويرية وطرح بدائل أو تطوير النظرية نفسها. سرعة الضوء مثلا تبين انها غير مطلقة وان هناك جزيئات أسرع من الضوء مما فرض تطويرا للقاعدة العلمية، فهل يجوز ان تبقى قياسات عالمنا مبنية على جوانب خاطئة في فلسفة من الأكثر شمولا في التاريخ البشري؟
ما اكتبه ليس اختلافا حول صحة ما كان في الفترة التي صاغ فيها ماركس رؤيته، إنما لأن التطور التاريخي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات البشرية، قادنا إلى واقع جديد مختلف. ان من يتعامل مع الماركسية كمقولات دينية، يعيش في إشكالية صعبة، تتميز بجمود عقائدي وانقطاع عن الواقع الاجتماعي والسياسي. هذا مع الأسف يميز بعض العناصر التي لا شك لدي في إخلاصها، لكن الإخلاص يحتاج إلى فكر يقظ ومراجعات دائمة لمجرى التطورات بكل اتساعها، ان لا نرى بأي مقولة ظاهرة مقدسة، بل اجتهاد فكري ينطلق من رؤية إنسانية شاملة وصادقة، ما هو صحيح أمس يجب تطويره اليوم.
في العلوم تجري انقلابات. قوانين فيزيائية كانت حتى وقت قريب تعتبر نهائية، تبين انها نُقضت وتتطور نظريات جديدة مكانها. ليس نفيا لها إنما تطويرا وتجديدا. إن تطور العلوم يجري عبر نقدها ومحاولة نقضها أيضا. في الفكر يجب ان نفهم ان النقض والنقد هما ميزة للتطور والتطوير وليس للنفي والإلغاء.
الماركسية بكل عظمتها الفكرية، لم تطرح نفسها كرؤية إلهية، إنما كفكر إنساني محدد بعوامل اجتماعية، اقتصادية، تاريخية ومعرفية.
نظرية الصراع الطبقي
تطرح الماركسية مسألة الاستقطاب الاجتماعي المتزايد لدرجة التضاد والتناحر بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع البرجوازي (الطبقة العاملة من جهة والبرجوازية من الجهة الأخرى)، وصولا إلى الصدام ألتناحري، أي بقضاء طبقة على أخرى، الماركسية في رؤيتها التاريخية تطرح بان التناحر سيقود إلى استلام الطبقة العاملة السلطة والقضاء على البرجوازية.
إلى جانب ذلك وارتباطا بنفس الموضوع طرح ماركس نظرية الأممية، أي ان الصراع الطبقي يوحد بين عمال العالم، يقوي التضامن ألأممي بينهم، الطبقة العاملة تساعد بعضها البعض وينسقون نضالاتهم ضد برجوازيتهم.أي نقل المفهوم الطبقي من إطاره المحلي إلى إطاره الدولي. بناء على ذلك الطبقة العاملة ( البروليتاريا) لا تناضل ضد برجوازية بلدها فقط، بل ضد برجوازية البلدان الأخرى أيضا.
لم تثبت صحة هاتين النظريتين. في عصرنا لم يحدث أي صراع طبقي يقود إلى نظام اشتراكي. لم نشهد وحدة طبقية عمالية عالمية ضد برجوازية بلدان مختلفة. للأسف الانتماء ألاثني والانتماءات الدينية برزتا بقوة أكبر في جميع أحداث عالمنا. كل النضالات الطبقية لم تتجاوز المطالب المعيشية والاجتماعية والعدالة والحقوق المدنية المختلفة .
الطرح كان حلما إنسانيا .. بناء على تجربة كومونة باريس، لكن الحلم ظل حلما!!
من الواضح ان ماركس في نظرته الطبقية اعتمد على معرفته الجيدة للتاريخ الفرنسي ومنها الثورة الفرنسية (1789-1799م). التي أحدثت تغييرات كبيرة في المجتمع الغربي بشكلٍ عام وفي نظام الحكم الفرنسي بشكل خاص وكانت لها آثارا بعيدة المدى على بقية أوروبا أيضًا.
أدخلت الثورة الفرنسية المُثُل الديمقراطية إلى فرنسا لكنها لم تجعل الدولة ديمقراطية. مع ذلك فقد أنهت الحكم المطلق للملوك الفرنسيين وجعلت الطبقة المتوسطة قوية.
أدت الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتردية في فرنسا إلى الثورة. بدأت الثورة بأزمة اقتصادية حكومية ولكنها سرعان ما أصبحت حركة للتغيير العنيف.
ثم كانت تجربة ثورة 1848 التي قام بها العمال والطلبة وكانت أول ثورة عمالية.
عندما صاغ ماركس مع زميله انجلز «بيان الحزب الشيوعي» (1848) وضع البيان كما كتب لينين لاحقا "الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم، وخاصة طرحهما لنظرية صراع الطبقات ونظرية الدور الثوري التاريخي العالمي للبروليتاريا – خالقة المجتمع الشيوعي الجديد".
ماركس اعتمد على ظاهرة عايشها، فيما بعد جاءت كومونة باريس (1871) وهي حركة نقابية وعمالية يسارية قامت بثورة تعتبر أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث ، استولت على السلطة في فرنسا لمدة شهرين. كل هذا عزز مفاهيم ماركس النظرية حول الصراع الطبقي ألتناحري. أي اقتبس حالة تاريخية في فرنسا، اعتبرها مقياسا دوليا لا مناص منه حيث تنشا طبقة عاملة مقابل الطبقة ألبرجوازية، والصراع ألتناحري بينهما هو حتمية تاريخية.
مثلا ثورة اكتوبر (1917) لم تكن انتفاضة عمالية فقط، بل انتفاضة ساهم فيها الجنود والفلاحين، روسيا كانت اضعف حلقة رأسمالية، أي أن تطور الطبقة العاملة فيها كان ضعيفا وللثورة أسباب بعيدة عن الصراع الطبقي ألتناحري. بلا شك يمكن تحليل المجتمع بالمفاهيم الطبقية، لكن ليس بمفاهيم الصراع الطبقي ألتناحري، إنما بمفاهيم العدالة الاجتماعية والنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمطالب الاجتماعية والخدماتية العامة.
كل الصراعات الطبقية اللاحقة لم تكن تناحرية، بل تميزت بقاعدتها الاجتماعية الواسعة من اجل مطالب اجتماعية عامة لجميع فئات المجتمع ، لم تتخذ طابعا طبقيا أو طابع صراع ضد سلطة البرجوازية ، بل طابعا اجتماعيا مدنيا سلميا عاما.
مفهوم البروليتاريا
البروليتاريا (-proletarius- حسب الماركسية البروليتاريا هي الطبقة التي لا تملك أي وسائل إنتاج وتعيش من بيع مجهودها العضلي أو الفكري وهو مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر ضمن "البيان الشيوعي" وهي طبقة ستظهر نتيجة تحول اقتصاد العالم من اقتصاد تنافسي إلى اقتصاد احتكاري). الثابت اليوم ان البروليتاريا لم تظهر خارج القارة الأوروبية. مثلا لم تنشأ البروليتاريا في الولايات المتحدة. بالطبع لم تنشأ بروليتاريا في دول الرمال، من أسباب نشوء هذه الظاهرة (البروليتاريا) إقرار الدول الأوروبية لقوانين حول الأرض جردت الفلاحين من المراعي والحقول لحساب التطور الصناعي، تحولوا إلى عمال ملحقين بالصناعة، لا يملكون إلا بيع قوة عملهم. ظهرت في عدة دول أوروبية: بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا وغيرها.. هذه الظاهرة ظلت أوروبية.. نشأت هناك وانتهت هناك.
اعتقد ان الموضوع يحتاج إلى جهود مشتركة ، لتطوير الأطروحات وليس إسقاطها. لا اكتب لأقلل من قيمة الفكر الماركسي وقوته.
لا شك ان الشيوعية هي أنقى فكر للعدالة الاجتماعية والتغيير لما فيه مصلحة الإنسان ورفاهيته وحريته وفتح المجال أمام إبداعه وانطلاقه دون حدود في عالم الإنتاج المادي والفكري لخير المجتمع كله.. ولخير تقدم البشرية.
ضمن الإشكاليات التي بتُّ على ثقة انها تحتاج إلى إعادة تفكير وضبط فلسفي وفكري، موضوع الصراع الطبقي الذي يعتمد عليه الكثيرين في تحليلاتهم، ربما يسهل ذلك فهم الواقع الاجتماعي ولكنه بعيد عن إمكانية التنفيذ الفعلي في المجتمعات الحديثة.
معظم المطالب الطبقية اليوم (أو ما يسمى النضال الطبقي) هي مطالب نقابية غير ثورية. الصراع ينحو نحو المطالب المكسبية وليس الانتفاضية الثورية ومواقف سياسية تتعلّق بقلب النظام.
لا أرى بذلك انحرافاً، إنما تحول المجتمعات الرأسمالية إلى مجتمعات رفاه اجتماعي تجاوزت النظم ألاشتراكية السابقة بخطوات هائلة أبقت النموذج الاشتراكي متخلفاً في مستوى الحياة والرفاهية والحريات الاجتماعية، مما غير الكثير من الثوابت الفكرية وبات من الضروري تطوير فكرة جديدة تعتمد على مفهوم التغيير الديمقراطي والرفاهية الاجتماعية وليس الثورة الاشتراكية.
هل كانت نظرية ماركس للمجتمع العادل مثلاً غير قابلة للتطبيق إلا بالأسلوب الذي عرفناه؟
رؤيتي الشخصية ان الماركسية مشكلتها كانت في التطبيق وليس في الفكر.. في الجمود العقائدي الذي أصاب الحركات الماركسية وجوهر الماركسية كما ساد في فترة ستالين.
الفيلسوف كارل بوبر (كتاب: "أعداء المجتمع المنفتح) يعتقد ان نظرية ماركس لم تقع بعيدا عن فكر أفلاطون في فهمها لهندسة الدولة العتيدة، بالخطوط الرئيسية على الأقل.. وبالتطبيق نفذ الفكر الأفلاطوني بقوة أكثر، حيث تحول الحزب الحاكم إلى الطبقة الحاكمة، العسكر إلى حماة الطبقة (النظام) الحاكمة وصيانة السلطة المطلقة للحزب، وتحول المنتجين (الشغيلة) إلى مصدر تمويل للدولة – الحزب – الطبقة الحاكمة.
أؤمن بشكل مطلق ان أفلاطون حركته أفكار إنسانية بالأساس، كيف يمكن بناء دولة ذات صفات أخلاقية في وقته. ومن المؤكد اليوم ان كل الدول التي سارت على هندسة أفلاطون لبناء دولة، أسقطت الجانب الجوهري الإنساني الأخلاقي. هنا يجب ان ننتبه ان الفكر الماركسي لم يطرح أي مفهوم للدولة الاشتراكية... عمليا الثورة الاشتراكية السوفييتية وسائر دول المعسكر الاشتراكي والصين اليوم حافظوا على نفس جهاز الدولة البرجوازي. اعتقد ان موضوع الدولة لم يدرس بشكل جاد، ولم تطرح الماركسية أي نظرية جديدة لمفهوم الدولة، الدولة الاشتراكية حافظت على نفس تركيبة الدولة البرجوازية.
هناك أربعة أقانيم مركزية مشتركة بين أيديولوجيات الأنظمة التوتاليتيرية الحديثة، رغم بعض الاختلاف بينها ، وقد طرحت هذه الأقانيم الأربعة في فلسفة أفلاطون، هي: أولا، النظرة التاريخانية – الحتمية التاريخية ( هيغل وماركس آمنوا بوجود حتمية تاريخية ( وهي عقيدة تؤمن أنه يوجد سبب موجه لكل الأحداث في الطبيعة والمجتمع البشري وإرادة ألإنسان ، هيغل رأى ذلك بالفكرة المطلقة .. وماركس فسرها بالمادية التاريخية) ثانيا ، ألإيمان بوجود خواص أبدية ثابتة ، ثالثا ، المجتمع المنغلق ومنع النقد والبحث العلني- المنفتح بهدف الدفاع عن الشيء الجيد، رابعا، حكم طبقة معينة ووجودها أعلى من سائر الطبقات من أجل ان تهتم لكل المجتمع او للدولة بفضل نوعيتها أو حكمتها المتفوقة على الآخرين ..
ما زلت أرى في الحركة الشيوعية، رغم كل الكوارث، الحركة المؤهلة (فكرياً على الأقل) لإنقاذ العالم من العولمة المتوحشة للرأسمالية.غير أن هذا الأمر يحتاج إلى شروط متعددة، لا أرى ان الأحزاب الشيوعية جاهزة لها، خاصة في العالم العربي، حيث نشهد غياب الدور الرائد للأحزاب الشيوعية، نتيجة سيطرة أنظمة الاستبداد السياسي والديني وضعف التطور الصناعي، العلمي والتقني!!