النداء الثاني والخمسون
[لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ]
[لا تصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ]
[لا تكْنِزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ]
رضوان سلمان حمدان
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
التوبة34المعاني المفردة
()الأَحْبَارِ:
(الحبر) العالم (ج) أحبار وحبور. قال الأَزْهَرِيُّ: وسأَلَ عبدُ اللّهِ بنُ سَلام كَعْباً عن الحِبْرِ فقال: هو الرجُلُ الصّالحُ. قال أَبو عُبَيْد: وأَمّا الأَحبارُ والرُّهْبَانُ فإِن الفُقَهاءَ قد اختلفوا فيهم، فبعضُهم يقولُ: حَبْرٌ، وبعضُهُم يقول: حِبْرٌ بالكسر وهو أَفصحُ؛ لأَنه يُجْمَعُ على أَفعالٍ، دُونَ فَعْلٍ ويُقَال ذلك للعالِم بتَحْبِيرِ الكلامِ والعِلْمِ وتَحْسِينه. والأحبار علماء اليهود.الرُّهْبَانِ:
الرَّاهِبُ: واحِدُ رُهْبَانِ النَّصارَى، ومَصْدَرُهُ: الرَّهْبَةُ والرَّهْبَانِيَّةُ() أو الرُّهْبَانُ بالضم قد يكونُ واحِداً() ج: رَهابِينُ ورَهابِنَةٌ ورَهْبانُونَ. ولا رَهْبانِيَّةَ في الإسْلامِ: هي كالاخْتِصاءِ واعْتِناقِ السَّلاسِلِ ولُبْسِ المُسوحِ وتَرْكِ اللَّحْمِ ونَحْوِها. والرَّاهِبُ: المتعبد في الصومعة، والجمع الرُّهْبانُ.بِالْبَاطِلِ:
الباطل: ضد الحق، والجمع أباطيل. وقد بطل الشئ يبطل بطلا وبطولا وبطلانا، ويقال: بطل الشئ: ذهب ضَياعا وخُسْراً.وَيَصُدُّونَ:
[ صدد ] صد عنه يصد صدودا: أعرض. وصده عن الأمر صدا. منعه وصرفه عنه. وأصده لغة.يَكْنِزُونَ:
[ كنز ] الكنز(): المال المدفون. وقد كنزته أكنزه. وفى الحديث: "كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز". واكتنز الشئ: اجتمع وامتلأ. وقد كنزت التمر. الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة.الإعراب
()المناسبة
()سبب النزول
()في ظلال النداء
()هداية وتدبر
()يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيرًا من العلماء والقُرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى يأخذون الرشى في أحكامهم، ويحرّفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبًا ثم يقولون: "هذه من عند الله"، ويأخذون بها ثمنًا قليلاً من سِفلتهم ويمنعون من أرادَ الدخول في الإسلام الدخولَ فيه، بنهيهم إياهم عنه. وبشّر الكثيرَ من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، بعذابٍ أليم لهم يوم القيامة، مُوجع من الله.
عن ثوبان قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تبا للذهب والفضة"، قالوا: يا رسول الله فأي المال نكنز؟ قال: "قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة صالحة".
تنبيه للمؤمنين حتى لا يحوموا حول ذلك الحمى ولذا وجه الخطاب إليهم.
في الباطل أربعة اقوال: أحدها- أنه الظلم. والثاني- الرشا في الحكم. والثالث- الكذب. والرابع- أخذه من الجهة المحظورة.
المراد بسبيل الله هاهنا قولان: أحدهما- الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني- أنه الحق والحكم.
في الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة اقوال: أحدها- أنه ما لم تؤد زكاته قال ابن عمر: كل مال أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض. وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور فعلى هذا معنى الإنفاق إخراج الزكاة. والثاني- أنه ما زاد على أربعة آلاف روي عن علي بن أبي طالب أنه قال أربعة آلاف نفقة وما فوقها كنز. والثالث- ما فضل عن الحاجة وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالزكاة.
أراد الحق سبحانه وتعالى بذلك أن يلفتنا إلى أنهم لا يأخذون المال على قدر حاجتهم من الطعام والشراب، ولكنهم يأخذون أكثر من حاجتهم ليكنزوه.
الحق سبحانه وتعالى أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس التعامل في تسيير حركة العالم الاقتصادية، وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال؛ لأن وظيفة المال هي الانتفاع به في عمارة الأرض، ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمناً، فإنه ينقص كل عام بنسبة 2,5% وهي قيمة الزكاة. ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة.. ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة، فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به؛ لأن الذي يستثمر أمواله مثلاً في بناء عمارة ليس في باله إلا ما سيحققه من ربح لذاته، ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم؛ فمن وضع الأساس يأخذ أجراً، ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه، ومن أحضر أسمنتاً أخذ، ومن جاء بالحديد أخذ، والمعامل التي صنعت مواد البناء أخذت، وأخذ العمال أجورهم؛ في مصانع الأدوات الصحية وأسلاك الكهرباء وغيرها، والذين قاموا بتركيب هذه الأشياء أخذوا، إذن: فقد انتفع عدد كبير في المجتمع من صاحب العمارة، وإن لم يقصد هو أن ينفعهم.
التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: "لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن ؟". وفي رواية : فارس والروم ؟ قال: "وَمَن الناس إلا هؤلاء ؟".
والمعنى العام لأكل أموال الناس بالباطل هو أخذها بغير وجه شرعي من الوجوه التي يبذل الناس فيها هذه الأموال بحق يرضاه الله عز وجل وهو أنواع: (منها) ما يبذله كثير من الناس لمن يعتقدون أنه عابد قانت لله زاهد في الدنيا; ليدعو لهم ويشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم. (ومنها) ما يأخذه سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم من الهدايا والنذور، التي يحملها إلى تلك المواضع فتحبس عليها الأراضي والعقارات، وتقدم لها النذور والهدايا تقرباً إلى تلك الأسماء أو المسميات. (ومنها) ما هو خاص بالنصارى بل ببعض فرقهم كالأرثوذكس والكاثوليك، وهو ما يأخذونه جُعلاً على مغفرة الذنوب أو ثمنا لها، ويتوسلون إليها بما يسمونه سر الاعتراف.. إذ ترتب عليه فساد كبير في استباحة الفواحش وكبائر المعاصي. (ومنها) ما يؤخذ على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال، فأولو المطامع والأهواء يفتون الملوك والأمراء وكبار الأغنياء بما يساعدهم على إرضاء شهواتهم، والانتقام من أعدائهم، أو ظلم رعاياهم ومعامليهم، بضروب من الحيل والتأويل يصورون به النوازل بغير صورها، ويلبسون به المسائل أثواباً من الزور تلتبس بحقيقتها.
قال أبو بكر الجزائري هداية الآيتين في تفسيره: "بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام. وحرمة أكل أموال الناس بالباطل. وحرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه. المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض. بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة."
لطائف
يريد نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ذكر القولين الزجاج.
عبر تعالى عن أخذ الأموال بالأكل على سبيل الاستعارة لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل ، فسمي الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده.