هرَّبتُ الحشيش من بحيرة المنزلة
هرَّبتُ الحشيش من بحيرة المنزلة !!!
أ.د/
جابر قميحةإن حياة الإنسان يشكل نسيجها مجموعة من الوقائع والمواقف ، وهي تختلف نوعا وكما ، وتأثرا وتأثيرا . والمجال لا يتسع لعرض كل ما يشدنا من وقائع ومواقف ؛ لذلك سنكتفي بواقعتين أنا أعتبرهما أغرب الوقائع التى مرت بي في حياتي :
الواقعة الأولى :
قيامي بتهريب الحشيش عن طريق مدينة المطرية !!! ، وقد مضى على هذه الواقعة قرابة أربعين عاما ، كنت مدرسا بمعهد المعلمين بمدينة الإسماعيلية ، وفيها تعيش عمتي وأبناؤها من عشرات السنين ، وفي عطلة صيفية كنت أقضيها في مدينة المنزلة مسقط رأسي أوصتني عمتي بإحضار كمية من الأرز ؛ فمدينة المنزلة أشهر بلد في هذه المنطقة بزراعة الأرز ، كما أن مصر بصفة عامة ومنطقة القنال بصفة خاصة كانت تعاني أزمة في الأرز .
حملت لعمتي جوالا من الأرز ، وكان معي ابن عمي ماهر ـ رحمه الله ـ كان الجوال ممتلئا لنصفه ( بداخله ما لا يقل عن ثمانين كيلو جرام ) ، ومربوطا ربطا جيدا من النصف ، ركبنا من المنزلة إلى المطرية ، ولم نقاس معاناة في الوصول إلى السفينة البخارية ( ويطلقون عليها اللنش ) ... واللنش يقطع المسافة من المطرية إلى بورسعيد في ثلاث ساعات ، والقطار الذي حملنا من المنزلة ( ويطلقون عليه مجازا الديزل ) لا يبعد عن مرساة اللنش أكثر من عشرين مترا ، وهو يقطع المسافة من المنزلة إلى المطرية في عشرين دقيقة .
ولم يكن هناك وسيلة للسفر إلى بورسعيد إلا " اللنش " والسفن الشراعية . وفوجئنا برجل لا نعرفه يقف على سطح اللنش ، متظاهرا بأنه ذو صفة رسمية وجه كلامه إلينا بصوت عال : إن كان معكم أرز فسلموني إياه . وسلمناه حمولتنا من الأرز لتأخذ مكانتها مع أشياء أخرى يرصها هذا الرجل .
وصلنا إلى بورسعيد ظهر اليوم نفسه ، فرأينا على بوابة المرسَى عشرات من رجال الأمن يفتشونا كل حمولة تفتيشا دقيقا . وسألني الضابط ماذا معك ؟ أجبت إنه أرز كما ترى ، هل تحب أن أفك لك رباط الجوال حتى تفتشه ؟ أجاب الرجل بذوق رفيع : لا لا لا ، اتفضل يابيه . وتخطينا عقبة بوابة المرساة ووجدنا حمالا طيب القلب ـ على ما يبدو ـ ، حمل لنا الأرز إلى التاكسي ليوصلنا التاكسي إلى موقف الأتوبيس المتجه إلى الإسماعيلية ، وبيننا وبينه قرابة ميل .
وفي منتصف الطريق أشار رجل فارع القامة للتاكسي ليقف ، وطلب منه أن يفتح له " شنطة السيارة " ، ففتحها السائق وهو في مكانه في السيارة ، وكان الوقت يمر بطيئا ، فطلبت من ابن عمي أن ينزل من السيارة ، ليرى ماذا يفعل الرجل في شنطة السيارة ، وغاب ابن عمي ، فأخذت أناديه فلا يرد ، وكررت النداء بصوت عال ... ولا رد ، وفجأة صرخ ابن عمي : حشيش حشيش ... الأرز كان موضوع فيه 3 طرب حشيش . فسالته أين وكيف قال : هددني الرجل بخنجر حتى حصل على الحشيش المدفون في الأرز ، وأخذه وجرى .
وهنا ربطت بين جزئيات الواقعة : الشخص الذي تسلم منا الأرز في المطرية ... والحمال الطيب الذي حمل الجوال ... والتاكسي الذي كان ينتظر.
أي أنني وقعت ضحية جريمة كاملة . وقد يسأل السائل عن مفهوم " طربة الحشيش " فأقول : هي عبوة من مخدر الحشيش ، ملفوفة لفا جيدا بقماش أبيض وهي في ضعف الكف حجما . أما سر التسمية فلا أدري له أصل .
وصلنا إلى الإسماعيلية ، وقصصت كل ما حدث ... بكل تفاصيله لأحد الزملاء الواعين فقال : كل من مر بك أو ـ مررت عليهم ـ يمثلون عصابة متواطئة متكاملة .
ـ طيب لو فرضنا أنني أفلتُّ بالحشيش ... أعتقد أنني بذلك أكون قد انتصرت على العصابة ؟ .
ـ قلبك أبيض ؟ !!! ستجد بعضهم ينتظرون وصولك على باب مسكنك وهم يحملون السلاح ، ليستردوا بضاعتهم .
إنني أهدي هذه الواقعة بعد أربعين عاما من حدوثها ... أهديها للإخوة في المنزلة ، وأهديها للإخوة في المطرية ، لأقول لهم جميعا : على كل منا أن يكون حذرا... يقظا... واعيا لكل ما يدور حوله ، وأن يبني حياته على الحذر الشديد ؛ فالحذر وقاية ، والحذر حماية .
**********
الواقعة الثانية :
وخدعني أستاذ ذكي .
أما هذه الواقعة فقد مضى عليها قرابة خمسة وخمسين عاما !!! كنت طالبا بكلية دار العلوم ، وكان اليوم يوم خميس ، فجهزت حقيبتي وتوجهت إلى موقف محطة أتوبيس ( القاهرة ـ المنزلة ) القريب من محطة باب الحديد بالقاهرة. ولكن يظهر أن آخر أتوبيس قد غادر المحطة ، وانتظرت على مقعد من مقاعد المحطة ، التى كانت خالية تماما ، وفوجئت برجل أنيق الملبس يسألني عن وجهتي فأخبرته بأنني أنوي السفر إلبى المنزلة لقضاء عطلة الأسبوع ، فقال وعلى فمه ابتسامة هادئة عريضة :
ـ وأنا أنوي السفر إلى مدينة " دكرنس " ، وهي لا تبعد عن بلدكم أكثر من 30 كيلومتر .
ـ وهل هدفك قضاء عطلة الأسبوع بين الأهل والخلان ؟
ـ لا ... لا ، أنا ذاهب لأخطب الجمعة في المسجد الجامع بدكرنس ، على عادتي كل أسبوع . وإذا تخلفت مرة واحدة يغمر الحزن كل سكان دكرنس .
**********
وأخذنا نقطع في أحاديث دينية ، وأسمعته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله ، أهذا هو القاتل ، فما بال المقتول ؟ فأجاب قائلا : لأنه كان أحرص على قتل صاحبه " .
وصاح الرجل : الله ... حديث شريف ... قيم فعلا . وأخرج ورقة من جيبه وطلب مني أن أملي عليه الحديث .
وفجأة قال : أستاذ جابر ... واضح إن مفيش عربيات بعد كده ، فتعال معي في سيارتي ، أنا أذهب إلى دكرنس وأوصلك إلى المنزلة وأعود إلى بلدي مرة أخرى .
وأمام إلحاحه الكريم أستجبت وأخذ بيدي ، وأنا أحمل حقيبتي باليد الأخرى ، وذهب بي إلى مقهى في شارع فرعي ، وجلسنا ونادى " الجرسون " :
ـ يا بهاء هات قهوة للبيه وهات لي أنا شاي .
وبعدها أخرجت ورقة من فئة الجنيهات الخمسة لأدفع ثمن المشروبات ، فضحك وقال : عيب دا انت في بيتي ، ونادي : يا بهاء هل تقبل أن يدفع البيه ثمن المشروبات ؟
ـ طبعا لا يابيه ... دا ضيف سيادتك .
ولف الرجل الورقة النقدية على أصبعين من أصابع يده وتناول حقيبتي ، وقال : أنا ذاهب لأحضر السيارة الآن ، وأضع حقيبتك فيها ، علشان نمشي على طول .
وانتظرت أكثر من ساعة ، ولم يحضر الأستاذ المحترم جدا . فناديت بهاء :
ـ الأستاذ اللي كان معايا راح فين يا بهاء ؟
ـ معرفش والله يابيه .
ـ إزاي متعرفشي ، وهو عارف اسمك ، وكان يتبسط معك .
ـ أولا ... أنا اسمي حسن مش بهاء يابيه .
ـ طيب وازاي وافقت على حكاية بهاء دي ؟
ـ وده يضرني في إيه يابيه ، والله لو سماني ريا ، أو سكينة ، أو زعبلاوي المفشّ...لقبلت كل اسم من هذه الأسماء . هو أنا خسران حاجة ؟ !!!
وانتظرت ساعة أخرى إلى أن خلا المقهى من كل زبائنه،وأشعرني " بهاء " أو " حسن " بأنهم في حاجة إلى إغلاق المقهى .
**********
وغادرت المقهى وأنا منكسر النفس ، بعد أن خدعني هذا الرجل ، فسرق مالي ، وسرق حقيبتي ، وسرق كرامتي . لقد اعتقد هذا اللص المخادع أن حقيبتي عامرة بالنقود ، ولكنه قد يشعر بصدمة حينما يجدها لا تحمل إلا بعض الكتب ، وبعض ملابسي الخاصة .
وكما نبهت الإخوة ـ في الواقعة السابقة ـ إلى ضرورة التحلي بالوعي والحذر الشديد ، أنبه المسلمين جميعا إلى التحلي بهذه القيم النفسية ، حتى لا يقع فريسة لمثل هذا اللص المخادع .
وكأن الشاعر العربي يعنيه بقوله :
يعطيك من طرفِ اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ