عوامل النصر الحقيقية

رضوان سلمان حمدان

النداء التاسع والأربعون

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) }الأنفال

المعاني المفردة([1])

لَقِيتُمْ: أي قاتلتم لأن اللقاء اسم للقتال غالب.

فِئَةً: فِرْقة وجماعة من الناس. والفئة: الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض في التعاضد.

فَاثْبُتُواْ: الثبات ضد الزوال، يقال: ثبت يثبت ثباتا.

الإعراب([2])

"إِذَا" ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه. "لَقِيتُمْ" فعل ماض، والتاء فاعل والميم لجمع الذكور. "فِئَةً" مفعول به والجملة في محل جر بالإضافة. "فَاثْبُتُواْ" فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، الفاء رابطة لجواب الشرط، والجملة لا محل لها جواب شرط غير جازم. "وَاذْكُرُوا اللَّهَ" الجملة معطوفة. "كَثِيرًا" نائب مفعول مطلق. "لَعَلَّكُمْ" لعل والكاف اسمها وجملة "تُفْلِحُونَ" في محل رفع خبرها وجملة لعلكم .. تعليلية لا محل لها من الإعراب.

في ظلال النداء([3])

هذه هي عوامل النصر الحقيقية : الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .

فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون ، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين : الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها ، ولا حياة له سواها؟!

وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة ، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى : إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها ، فهي معركة لله ، لتقرير ألوهيته في الأرض ، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية؛ وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا؛ لا للسيطرة ، ولا للمغنم ، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة؛ يحققها هذا التعليم الرباني .

هداية وتدبر([4])

1.  اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب : الأول : الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي. والثاني : أن يذكروا الله كثيراً ، وفي تفسير هذا الذكر قولان : القول الأول : أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله. قال ابن عباس : أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم ، تنبيهاً على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله ، ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء ، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله ، كان الذاكر لله أعظم أجراً. والقول الثاني : أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر ، لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى.

2.  هذه طائفة من الإرشادات والوصايا الإلهية تعدّ من ركائز قواعد القتال وأسسه الضرورية النابعة أصالة من وعاء الإيمان، لذا افتتحت بخطاب المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، حتى وإن كانوا قلائل ضعفاء، والإيمان يمنح القوة ويرفع المعنويات، أما الكفر فشأن أهله الجبن وضعف المعنويات، حتى وإن انتصروا أحيانا.

3.  هذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحلَّ بنا! بل لم يبق من الإسلام إلى ذكره ، ولا من الدِّين إلاّ رَسْمُه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدوّ شرقاً وغرباً براً وبحراً ، وعَمّت الفتن وعظُمت المحَن ولا عاصم إلا من رحِم!. رحم الله الإمام القرطبى فكأنه كان ينظر من شرفات الغيب بهذا الكلام الذى يجسد واقعنا المر وما آلت إليه أحوال الأمة الممزقة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

4.  الثبات حين البأس يتطلب نفسا مفعمة باليقين والتضحية ويعجبنى قول الشاعر: وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر...!! وقد كان عبد الله بن رواحة نموذجا نبيلاً وهو يكبح نوازع الحياة فى دمه ويرغم النفس على شرف الفداء وملاقاة الردى قائلا: يا نفس إلا تقتلى تموتى هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلى فعلهما هديت..! يقصد زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وقد استشهدا قبله، وكانا أميرى الجيش فى مواجهة الرومان. فلحق بهما ثابتاً كريماً واجتمع الثلاثة فى ديار النعيم فى الجوار الكريم!! وذكر الله الشعور بقرب لقائه وأن المصير إليه والكفاح من أجله. وإذا كان المرء قلقا على فراق أحبة يغادرهم فإن الله من بعده هو متوليهم وكافلهم...

5.  للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال: الأول: أُذكروا الله عند جزع قلوبكم،فإنّ ذكره يُعين على الثبات في الشدائد. الثاني: اثبتوا بقلوبكم واذكروه بألسنتكم، فإنّ القلب لايسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان، فأُمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ماقاله أصحاب طالوت: ''ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين''، وهذه الحالة لاتكون إلا عن قوة المعرفة واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس. الثالث: اذكروا ماعندكم من وعد الله لكم في اتباعه أنفسكم ومثامنته لكم. قلت: والأظهر أنهّ ذكر اللسان الموافق للجنان. ولهذا قالوا: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، يقول الله عز وجل: ''ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا''، ولرخص للرجل في الحرب، يقول الله عز وجل: ''إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا'').

6.  إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم ، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا ، وتفسير اللقاء بالحرب لغلبته عليه ، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة ، لأنه معلوم غير محتاج إليه .

7.  أول هذه القواعد الحربية: الثبات أمام الأعداء، فإذا حاربتم أيها المؤمنون أعداءكم والتقيتم معهم في ميدان القتال، فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم، وتصمدوا للقائهم، وإياكم والفرار من الزحف، فالثبات فضيلة وركيزة أساسية، والفرار كبيرة موجبة للعقاب. ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه، التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: "يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". ثم قال: "اللهم منزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم".

8.  في الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتُر عن ذكر ربه، أشغل ما يكون قلباً، وأكثر ما يكون هماً، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال . . .

9.  ساعة تسمع كلمة " فئة " فاعلم أن معناها جماعة اختصت بخوض المعارك في ميدان القتال، فليست مطلق جماعة، بل هي جماعة مترابطة من المقاتلين؛ لأن كل مقاتل يفيء لغيره من زملائه، أي جماعة أخرى غير مترابطة تستطيع تفريقهم بصرخة أو عصا، أما المقاتلون فأنت لا تصرفهم إلا بقوة أكبر منهم، ويحاول كل منهم أن يحمي زميله، إذن فكل منهم يفيء إلى الآخرين. والحق تبارك يقول:{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ }[البقرة: 249]. ويقول الحق سبحانه وتعالى:{ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىا كَافِرَةٌ }[آل عمران: 13]. إذن فالفئة هي جماعة في الحرب.

10.    إن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جارياً مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى ، وهذا هو أعظم مقامات العبودية ، فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة ، وإن صار مغلوباً فاز بالشهادة والدرجات العالية ، أما إن كانت المقاتلة لا لله بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح.

لطائف

11.    قال الشيخ الشنقيطي: أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو، وذكر الله كثيراً مشيراً إلى أن ذلك سبب للفلاح، والأمر بالشيء نهي عن ضده، أو مستلزم للنهي عن ضده، كما علم في الأصول، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات أمام الكفار، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) إلى قوله (وبئس المصير). وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات؛ وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال، ولاسيما في وقت الضيق، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد.

12.    إن قيل: فهذه الآية توجب الثبات على كل حال، وهذا يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز. قلنا: هذه الآية توجب الثبات في الجملة، والمراد من الثبات الجد في المحاربة. وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود، لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز.

13.    قال قتادة: افترض الله جل وعز ذكره على عباده، أشغلَ ما يكونون عند الضّراب بالسيوف. وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً ؛ لأن رفع الصوت في مواطن القتال رديء مكروه إذا كان الذاكر واحداً. فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن؛ لأنه يَفُتّ في أعضاد العدوّ. وروى أبو داود عن قيس بن عُباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال. وروى أبو بُرْدة عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. قال ابن عباس: يكره التلثمّ عند القتال. قال ابن عطية: وبهذا والله أعلم استنّ المرابطون بطَرْحه عند القتال على صيانتهم به.

               

[1] . جامع لطائف التفسير. الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ. مفردات ألفاظ القرآن.

[2] . الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.

[3] . في ظلال القرآن.

[4] . الجامع لأحكام القرآن. جامع لطائف التفسير. محاسن التأويل. تفسير الشعراوي. التفسير الوسيط للزحيلي. الحَاوِى فى تَفْسِيرِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ.