الطاهر وطار المتظاهر بالموت
الطاهر وطار المتظاهر بالموت
(إذا مات وطّار فمن الحي إذن؟)
ياسين سليماني
أعترف أني مشتّت ومضطرب، بل وحائر فيما سأكتب، وأنا الذي أعتبر الكتابة خبزي اليومي الذي أقتات منه.
فما معنى أن أكتب هذه الكلمات اليوم، وأنا أعرف أن الطاهر وطار لن يقرأها، كما لم يقرأ مئات "الخطب العصماء" التي قيلت في فاجعة رحيله، وأشهد أني نأيت بنفسي عن الكتابة في هذا الموضوع بالضبط طوال الفترة الماضية، لأني ضد مزاحمة الناس في الكتابة عنه لملأ أعمدة الصفحات الثقافية...
كنت فقط أبكيه، بكل حفنات الدموع التي في عيني، بل وبحرقة المفجوع سال الدمع، وأنا أُبَلَّغُ بما يشبه رحيله... أنا الذي بكيت على نجيب محفوظ، ومن بعده درويش، رغم المسافات، كيف لا أبكي رجلا عرفته عن كثب، وعرفت كم كان "رجلا" في وقت أصبحت الرجولة موضة قديمة وبضاعة كاسدة عند الـذين لا يصح ذكر نعوتهم في مقام الحديث عن الأيقونات !!
بل أكثر من هذا، لم أذهب لحضور ما يسمى "جنازته" فأنا أصغر من أن أراه والناس يهيلون عليه التراب، فقد عرفته دائما شامخا، وما كان لي أن أراه إلا شامخا...
كان الطاهر وطار أبا لعدد غير معلوم من الكتاب، منهم من استظل بفيء جاحظيته حينا من الوقت وأخذ حقائبه وارتحل، ومنهم من عشش وأفرخ فيها فصار ذا قدم راسخة في عالم الأدب.
وكان وطار يحنو على هذا ويحنو على ذاك حتى لا يكاد يفرق بين كبير الأدب وصغيره، تواضعا منه يزيد القلوب اجتماعا على حبه وعلى تعظيم قدره...
أجل، لكل مبدع أب، وكان وطار مثالا لهذه الأبوة، يكفي أنه حين يلتقيك يسلم عليك أربعا،فتتشمم منه رائحة قرابة وثيقة، ممزوجة بعطر التراب الذي ظل يحبه، ثم يجلسك إلى جانبه في وكره الثقافي، وينادي على صاحب الكافيتريا ليأتي بالشاي للجميع، حتى وأن شربوا من قبل، ثم ينشئ في الحديث عن كامل القضايا الآنية التي يمكن أن يطرحها الضيف أو يسأل عنها هو، وتسأله عن صاحبة "ذاكرة الجسد" فلا يستحيي من إبداء رأيه وبكل صراحة، حتى وإن كان رأيا صادما، و تستفسره عن تطورات قضيته(أو قضاياه) مع بوجدرة أو غيره فيحيلك إلى مستندات ضخمة في موقعه الرسمي... هكذا بدون عقد... وبدون تكلف، ويمازحك مزاحه الخفيف اللطيف، ويُضحِك الجميع، دون أن يفسد هذا مقامَ الأدب الرفيع الذي بلغه...
أي سعادة لكاتب ناشئ- كنته ذات يوم- حين تصله في ليلة صيفية رسالة من كبير مثل وطار، بعد أن أرسلت له صفحات أولى من رواية اعتزمت نشرها في ذلك الوقت، قبل أن تمضي الأيام، وتتبدد سحائب الفكرة، فلا يتنزّل إلا الفراغ !!
"مساء الخير يا سي ياسين..."
هل تعتبر سبع صفحات رواية ؟؟؟؟ آسف إذا لم أرد عنك في الوقت المناسب فقد كنت في شغل كبير... ومن اليوم حتى فاتح سبتمبر أنا في عطلة. تحياتي !!
لم أكن أعلم يومها أن الرسائل ستتعدد، واللقاءات كذلك، وفي غير ما مكان، وأنا الذي التقيته أول مرة في جامعة قسنطينة، حين كنت طالبا في السنة الثانية، وجاء هو في زيارة لإلقاء محاضرة، لم أسمع عنها إلاّ ذلك اليوم، ولم أخرج منها حتّى تحدثت إليه وأخذت منه إجابات عديدة حول مواضيع شتى في الأدب والثقافة، وصورة كبيرة تزين غرفتي تجمعني به، وعلى يمينه طالبة جامعية لا أعرف كيف فضّت بكارة صورتنا العذراء فدخلتها دون استئذان !!
في إحدى لقاءاتي بوطار، سألني إن كنت قرأت لإبراهيم الكوني، أنا الذي تخيلت نفسي لوقت طويل بأني أمتلك ثقافة أدبية واسعة وألتهم الأعمال الأدبية التهاما، وجدتني في حضرته أخجل من نفيي حتى معرفتي بالاسم !!! و في أول فرصة سنحت، جمعت العديد من كتابات "الكوني" وأولها رواية "التبر" ولكني للأسف لم أقرأها إلى اليوم رغم يقيني بأن الوصفة الأدبية التي يكتبها وطار في دماغك لا يرقى إليها الشك في صدقها وأهميتها...
أنا لا أعترف بوطار ميتا... فهو مثل القديسين، لا يموت، أو هو مثل العنقاء، يمكن أن تصل إلى ما يشبه الموت، ولكنها لا تموت، فإذا مات وطار فمن الحي إذن؟
مؤمن أنا أنه يتظاهر بالموت ليختبر حبّنا له، ولربّما يخرج علينا في أية لحظة برواية جديدة، أو برأي جديد، يحرك المياه الراكدة، ويشغل الدنيا طويلا...
كم تمنيت أن يكون حاضرا ليعرف كم نحبه... ليقرأ اليوم بنفسه ما خطته قلوب اللذين أحبوه مخلصين، من مثقفين، أو عابري سبيل في الثقافة...
عمي الطاهر، بل أبي الطاهر أية كلمة تناسب مقام الكتابة لك أو عنك؟ رحلتَ؟ غبتَ؟ متَّ؟ وهل تموت الجبال؟
هل نرثيك؟ وماذا نقول في رثائك؟ لا لن نرثيك، بل سنعيش معك، في بستانك الذي تركته لنا، واسعا خصبا...
بين "اللاز"، و "رمانة"، و "الهارب"، وكل الهزّات الكتابية التي كان المشهد الثقافي يقيس بها مستواه... وسنظل نحبك...أجل عهدا نقطعه على أنفسنا أننا سنظل نحبك... بكل ما تعنيه كلمة الحب من مسؤولية...