كلمات في القرآن (5)

الذوق

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

في الصحاح للجوهري : ذُقتُ ما عند فلان : خَبِرتـُه .

وفي القاموس المحيط : تذوّقته : ذقتـُه مرة بعد مرة .

وفي المعجم الوسيط  : ذاق الطعام : اختبر طعمه . ما ذقت نوماً : لم أجَرِّبه . وذاقتـْه يدي : أحَسّتـْه . والذوق : الحاسة التي تُمَيّز بها خواصّ الأجسام الطعمية بوساطة الجهاز الحسّيّ في الفم

وفي لسان العرب : ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه . وفي الحديث : " إن الله لا يحب الذوّاقين والذوّاقات " يعني السريعي النكاح السريعي الطلاق . قال : وتفسيره أن لا يطمئنّ ولا تطمئنّ ، كلما تزوّج أو تزوّجَتْ كـَرِها ، ومدّا أعينهما لغيرهما .

وقال ابن منظور صاحب اللسان : الذوّاق : الملول . واستذقـْتُ فلاناً إذا خبرتَه ، فلم تحمد مَخبَرَتـَه . وقال : الذوق فيما يكره ويحمد . قال تعالى : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " أي ابتلاها بسوء ما خُبِرَتْ من عقاب الجوع والخوف .

وفي الحديث : " كانوا إذا خرجوا من عنده لا يتفرّقون إلا عن ذواق" ضرب الذواق مثلاً لما ينالون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخيرالكثير ، فلا يتفرّقون إلا عن علم وأدب يتعلمونه ، فيقوم مقام الطعام والشراب لأجسامهم . ويُقال : ذُقْ هذه القوس : أي انزع لِتـَخبُر لينَها وشدّتها ، قال الشمّاخ :

فذاق ، فأعطَتـْه من اللين جانباً     كفى ، ولها أن يُغرق النبلَ حاجزُ

فلا حاجز يمنع من إغراقٍ ، ففيها لين وشدة .

وقال ابن منظور- كذلك -  في لسان العرب : الذوق يكون بالفم وبغير الفم . ذاقت وبال أمرها : خبرتـْه . وذاق الرجل عُسيلة المرأة : أولج فيها حتى ذاق خبر طيب جماعها . وذاقت عسيلته لمـّا خالطها . انتهى .

فالذوق : العلم والمعرفة والخبرة عن تجربة . وأُحِسّ – من هذا السرد - أن كلمة" ذاق" تعني المعرفة الدقيقة التي يشارك فيها الحواس المادية والمعنوية في الإنسان حتى درجة الاستغراق - وإن كان المُتناول قليلاً أو كثيراً -   فكان فيها التلذذ والسرور  ، أو الألم والعذاب ، وكلاهما ناتج عن تجربة واندماج مرغوب أو غير مرغوب .

فأما مثال الأول  في القرآن ، وهو قليل ، ولعله جاء في آيتين أو ثلاث( التلذذ والسرور ) فمنه :

قوله تعالى : في سورة الأعراف " ...فلما ذاقا الشجرة .. "  ومن جميل ما يُروى عن نتيجة الذوق هذا الحديث الموقوف : " عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ كَانَتْ الشَّجَرَة الَّتِي نَهَى اللَّه عَنْهَا آدَم وَزَوْجَته السُّنْبُلَة فَلَمَّا أَكَلَا مِنْهَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا وَكَانَ الَّذِي وَارَى عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتهمَا أَظْفَارهمَا " وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَق الْجَنَّة " وَرَق التِّين يُلْزِقَانِ بَعْضه إِلَى بَعْض فَانْطَلَقَ آدَم عَلَيْهِ السلام مُوَلِّيًا فِي الْجَنَّة فَعَلِقَتْ بِرَأْسِهِ شَجَرَة مِنْ الْجَنَّة فَنادَاهُ اللَّه يَا آدَم أَمِنِّي تَفِرّ ؟ قَالَ لا ، وَلَكِنِّي اِسْتَحَيْتـُك يَا رَبّ قَالَ : أَمَا كَانَ لَك فِيمَا مَنَحْتـُك مِنْ الْجَنَّة وَأَبَحْتـُك مِنْهَا مَنْدُوحَة عَمَّا حَرَّمْت عَلَيك قَالَ : بَلَى رَبّ ، وَلَكِنْ وَعِزَّتك مَا حَسِبْت أَنَّ أَحدًا يَحْلِف بِك كَاذِبًا قَالَ وَهُوَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ " . قَالَ فَبِعِزَّتِي لأُهبِطَنـّك إِلَى الأرض ، ثم لا تَنَال العيش إلآّ كَدًّا . قَال : فَأُهْبِطَ مِن الْجَنة وَكَانَا يأكلان مِنْهَا رَغَدًا فأُهبِط إِلَى غَيْر رَغَد مِنْ طَعَام وَشَرَاب فعـُلـٍّم صَنْعَة الْحَدِيد وَأُمِرَ بِالْحَرْثِ فَحَرَثَ وَزَرَعَ ثُمَّ سَقَى حَتَّى إِذَا بَلَغَ حَصَدَ ثُمَّ دَاسَهُ ثُمَّ ذرَاهُ ثُمَّ طَحَنَهُ ثُمَّ عَجَنَهُ ثُمَّ خَبَزَهُ ثُمَّ أَكَلَهُ فَلَمْ يَبْلُغـْهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَبْلُغ- من التعب -  .

ومنها قوله تعالى في سورة الروم " ... ثم إذا أذاقهم منه رحمة ... "  فأسبغ عليهم النعم  - كما يقول ابن كثير – فتذوّقوها ونسوا ما كانوا عليه من البؤس والنقمة .

كما أن من يدخل الجنة لا يذوق طعم الموت ثانية بل هناك خلود ونعيم لقوله تعالى في سورة الدخان " لا يذوقون فيه الموت إلا الموتة الآولى ، ووقاهم عذاب الجحيم " . ومن لطيف ما يروى في معنى هذه الآية الكريمة قوله صلى الله عليه وسلم "  يُؤتَى بِالْمَوْتِ فِي صُورَة كَبش أَملَح فَيُوقَف بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار ثمَّ يُذْبَح ثمَّ يُقَال يَا أَهل الْجَنَّة خُلود فلا موت وَيَا أَهل النَّار خُلود فلا موت " وقوله صلى الله عليه وسلم " يُقَال لأهل الْجَنَّة إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فلا تَسقَموا أَبدًا وَإِنَّ لَكم أَنْ تعيشوا فلا تَموتوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكم أَنْ تَنعَمُوا فَلَا تَبأَسُوا أَبدًا وَإِنَّ لَكم أَن تَشِبُّوا فَلَا تَهرَمُوا أَبدًا " رَوَاهُ مُسْلِم وبهذا يذوقون النعيم ويتلذذون به خالدين في جنات الله ونعيمه سبحانه .

وأما المثال الثاني – ذوق الألم والعذاب - وهو في القرآن كثير، فمنه :

قوله تعالى  " ذقْ ؛ إنك أنت العزيز الكريم ! " ، والتذوق هنا عذاب شديد يستغرقه أبد الآبدين َقَالَ عِكرِمَة :التقى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبو جَهل فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقُول لَك أَوْلَى لَك فَأَوْلَى ) فَقَالَ : بِأَيِّ شَيْء تُهَدِّدنِي ! وَاَللَّه مَا تَسْتَطِيع أَنْتَ ولا رَبّك أَنْ تفعلا بِي شَيئا , إِنِّي لَمِنْ أَعَزّ هَذَا الْوَادِي وَأَكرَمه عَلَى قَومه ; فَقَتَلَهُ اللَّه يَوْم بَدْر وأذله وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية . ويقول له الملك الموكل بتعذيبه  : ذُقْ إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْكَرِيم بِزَعْمِك . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى مَعْنَى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء والإهانة والتنقيص ; فيُقال له : إِنَّك أَنتَ الذَّلِيل المُهَان . وَهُوَ كَمَا قَال قَوم شعيب له : " إِنَّك لأنت الْحَلِيم الرَّشِيد " يَعنونَ السفيه الجاهل .ويُروى أن أبا سفيان لما رأى حمزة مقتولاً في أُحد قال : ذق عَقَقُ ؛ أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك دينك الذي كنت عليه : يا عاقّ قومه ، فجعل إسلامه عقوقاً! .

وقوله تعالى " فليذوقوه حميمٌ وغساق ، وآخر من شكله أزواج ..." هذا طعامهم وشرابهم اللذين يملؤون بهما البطون " فإنهم لآكلون من شجر من زقّوم ، فمالئون منه البطون فشاربون عليه من الحميم ، فشاربون شرب الهيم  "  وملء البطون - عادة-  قمة التذوّق : أَمَّا الْحَمِيم فَهو الْحَارّ الذي قَد اِنتهى حرّه وَأَمَّا الْغَسَّاق فَهُوَ ضِدّه وَهو البارد الَّذِي لا يُستطاع مِنْ شِدَّة بَرْدِهِ الْمُؤْلِم وَلِهَذَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ " وَآخَر مِنْ شَكْله أَزْوَاج " أَيْ وَأَشياء من هَذَا الْقَبِيل : الشَّيْء وَضِدّه يُعَاقَبُونَ بِهَا ، وعَنْ أَبِي سَعِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيه وَسَلَّمَ أَنَّه قَالَ " لَوْ أَنَّ دَلوًا مِنْ غَسَّاق يُهْرَاق فِي الدُّنيَا لأنتن أهل الدنيا " وَرَوَاهُ الترمذِيّ .

وقوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت " فالجن والإنس والملائكة والحيوانات ومن به روح يستغرقه الموت ، ولا يبقى سوى الواحد الأحد الفرد الصمد . ألم يقل تعالى " كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام "  فهذا الذوق الشديد الذي لا ينجو منه أحد . وقد قال صلى الله عليه وسلم في تذوق الموت وشدته " إن للموت لسكرات " وكانت حرارته صلى الله عليه وسلم مرتفعة ، وكانوا يمسحون وجهه الشريف بالماء ليخففوا من شدته .

ومن تتبّع آيات الذوق في القرآن يجد فيها الإحساس بالشديد بالتذوق ، والاختبار الدقيق للشيء المُتناول ، والتجربة الواسعة له . نسأل الله تعالى أن نتذوق نعيم الجنة في فردوس الله الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا " ، ولننشد مع ابن رواحة رضي الله عنه :

يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وبارداً شرابها

ومع المنشد المسلم طامعين في الجنة هاربين من النار :

أن تدخلني ربي الجنة       هذا أقصى ما أتمنى