إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً 44
إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً
44
رضوان سلمان حمدان
{ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } الأنفال15- 16
المعاني المفردة[1]
زَحْفاً: زحف الرجل إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده كالصبي، وشبّه به هنا مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف زحفاً. الزحف الدنوّ قليلاً قليلاً.
ٱلأَدْبَارَ: جمع دُبُر وهو الخَلْف ويقابله (القُبُل) وهو الأمام، ويطلق القُبُل والدّبُر على سوأتي الإنسان، وأمّا إطلاقه على الأمام والخلف فمشهور في اللغة قال تعالى: { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [يوسف: 25].
مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ: يقال: تحرّف وانحرف إذا مال وعدل من طَرَف إلى طرف، مأخوذ من الحَرْف وهو الطرف أي الجانب، والتحرف للقتال الفرّ للكرّ أي يتظاهر بالفرار ليغرّ عدوه حتّى يُخيّل له أنه انهزم، ثم يكر عليه فيقتله، وهذا من باب مكايد الحرب (والحرب خدعة).
مُتَحَيِّزاً: أي منضماً، والفئة: الجماعة قال تعالى: { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ } [الأنفال: 45] والمراد أن ينهزم لينضمّ إلى جماعة أُخرى يعينهم أو يستعين بهم.
فِئَةٍ: جماعة
بَآءَ بِغَضَبٍ: أي رجع بغضب وسخط من الله.
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ: أي مسكنه وملجأه جهنم وبئس هذا الملجأ والمصير.
الإعراب[2]
زَحْفاً: أي متزاحفين نصب على الحال، ويجوز أن يكون حالاً للكفار، ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون.
في ظلال النداء[3]
يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا { زحفاً } أي متدانين متقاربين متواجهين؛ فلا تفروا عنهم، إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب، حيث تختارون موقعاً أحسن، أو تدبرون خطة أحكم؛ أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين، أو إلى قواعد المسلمين، لتعاودوا القتال.. وأن من تولى، وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب: غضباً من الله ومأوى في جهنم..
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصاً بأهل بدر، أو بالقتال الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضره. ولكن الجمهور على أنها عامة، وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات. كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ".
هداية وتدبر[4]
1. يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذَا لَقِـيتُـمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فـي القِتالِ زَحْفـا بعضكم إلـى بعض، فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم فإن الله معكم علـيهم. ومن يولهم منكم ظهره إلا مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له يـمكنه إصابتها فـيكرّ علـيه أو إلا أن يولـيهم ظهره متـحيزاً إلـى فئة، صائراً إلـى حيز الـمؤمنـين الذين يفـيئون به معهم إلـيهم لقتالهم ويرجعون به معهم إلـيهم.
2. يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِالثَّبَاتِ فِي المَعْرَكَةِ، وَبِمُوَاجَهَةِ الكَافِرِينَ بِقُلُوبٍ مُؤْمِنَةٍ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى عَدَمِ الفِرَارِ وَتَوْلِيَةِ الظُّهُورِ لِلأعْدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الكَافِرُونَ أَكْثَرَ مِنَ المُؤْمِنينَ عَدداً، لأنَّ الفِرَارَ يُحْدِثُ الوَهَنَ فِي الجَيْشِ الإِسْلاَمِيِّ المُقَاتِلِ.
3. الفرار من الزحف من الكبائر.. تدل ظواهر النصوص الشرعية على حرمة الفرار من الزحف إلا في حالتين اثنتين وهما: حالة الفر من أجل الكرّ خدعة للعدو - وحالة الالتحاق إلى جماعة المسلمين والانضمام إلى صفوفهم ليتقوى بهم وقد بينت السنة النبوية أن الفرار من الزحف من الكبائر فقد قال صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبِقات. قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ".
4. عدد العدو الذي يحرم الفرار منه بينته الآية في آخر سورة الأنفال وهي قوله تعالى: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [الأنفال: 66] فقد أوجبت هذه الآية على المسلمين أن يثبتوا أمام أعدائهم إذا كان العدو ضِعفهم وقد كانوا من قبل مكلفين بملاقاة العدو والصمود حتى ولو كانوا عشرة أضعافهم فنسخ الله ذلك وخفف عن عباده رحمة بهم وتيسيراً عليهم، فإذا كان جيش الكفار يزيد أضعافاً مضاعفة على جيش المسلمين فإنه لا يجب عليهم ملاقاته إلا إذا كان هناك خطر جسيم كهجوم المشركين على ديار المسلمين فإنه يجب حينئذٍ الدفاع عليهم، ويفترض القتال على الرجل والمرأة والصغير والكبير. وأما المغامرة في الحرب فقد قال بعض العلماء: لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير لأن في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة... والصحيح كما قال (ابن العربي): إنه تجوز المغامرة لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فإنهم إذا رأوا هذه الشجاعة النادرة من شخص واحد دبّ الرعب في قلوبهم وأيقنوا بعدم قدرتهم على مقاومة المسلمين وفي ذلك إعزاز لدين الله وقهر للمشركين والله أعلم.
5. يجوز الفرار عند الضرورة في غير الحالتين السابقتين التي أشارت إليهما الآية وذلك كأن يحيط العدو بالجيش أو يقطعوا على المجاهدين طريق المؤنة والغذاء فقد " روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " كنا في غزاة فحاص الناس حيَصةً " أي " فروا أمام العدو " قلنا كيف نلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرّارون. فقال: لا بل أنتم العكّارون فقبلنا يده. فقال: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين " ثم قرأ { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ }. وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس؛ لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيز إلي، لكنت له فئة.
6. هذه الآية حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت فـي جميع المؤمنين، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدوّ أن يولوهم الدبر منهزمين، إلاَّ لتحرّف القتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزماً بغير نـية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده إلاَّ أن يتفضل عليه بعفوه.
7. لا يحل عند الجمهور فِرار مائة إلا مما زاد على المائتين؛ فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من ٱثنين فيجوز الانهزام، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مُؤْتَة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لَخْم وجُذَام.
ووقع في تاريخ فتح الأندلس، أن طارقاً مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة؛ فالتقى ومِلك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عِنان؛ فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح. قال ابن وهب: سمعت مالكاً يسأل عن القوم يلقون العدوّ أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدوّ وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.
لطائف[5]
8. لماذا لم يقل هًرْولوا إلى القتال بدل "زحفاً" ؟. الجواب: إن الزحف هو انتقال كتلته لا ترى الناقل فيها، فمن يراها يظن أن الكتلة كلها تتحرك. وكأن الحق تعالى يقصد: أريد منكم أن تتحركوا إلى الحرب كتلة واحدة متلاصقين تماماً فيظهر الأمر وكأنكم تزحفون.
9. قوله تعالى: { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ }. يريد الله أن يعطي صورة بشعة في أذن القوم؛ لأن " الأدبار " جمع " دبر " والدبر مفهوم أنه الخلف ويقابله القُبُل، وهذا تحذير لك من أن تمكن عدوك من ظهرك أي دبرك، لأن هذا أمر مستهجن، ولذلك نجد الإمام عليا - كرّم الله وجهه - يرد على من قالوا له إن درعك له صدار وليس له ظِهار، أي مغطى من الصدر، وليس له ظهر. وهنا يقول الإمام على رضي الله عنه: " ثكلتني أمي إن مكّنت عدوي من ظهري " ، وكأن شهامة وشجاعة الإمام تحمله على أنه يترك ظهره من غير وقاية.
[1] . تفسير آيات الأحكام/ الصابوني.
[2] . تفسير الرازي.
[3] . في ظلال القرآن.
[4] . أيسر التفاسير. تفسير آيات الأحكام/ الصابوني. تفسير الطبري. تفسير القرطبي. تفسير ابن كثير. خواطر محمد متولي الشعراوي.
[5] . خواطر محمد متولي الشعراوي.