من أسرار الحياة.. 43
من أسرار الحياة.. 43
ترجمة: د خالد السيفي
قل لي ما الفرق بينك وبين الصخرة؟ أو بينك وبين الشجرة؟ أو ما الفرق بينك وبين البقرة؟
الفرق هو الوعي....
لكن لماذا لم تفكّر بـ ما هي درجة الوعي لديك!؟؟ وأين تقف منه؟
أقول لك: ما لديك منه .... فقط بعضٌ مِن ومضات.. هنا... وهناك.
حقيقة الامر: نادرا ما تأتيك لحظات وعي، وسرعان ما ترجع بعدها إلى الغيبوبة.
نعم، قد يحصل أنك تكون واعيا للحظات، ولكن هذا بسبب حقيقة أن لديك فرصة كامنة للوعي. وهي تحصل رغما عنك.
ربما في يوم من الأيام ستشرق الشمس وتصبح منسجما مع الوجود...ومع ذاتك ...وفجأة تتذوق جمال الوعي، وتعرف بركته وتتنفس رحيقه وتنعم بنوره.
لكن للأسف، قد يكون هذا متأخرا؛ ففي اللحظة التي تدرك فيها انك وُلدت من جديد _ أي أصبحت واعيا _ يكون قد حان وقت رحيلك...لقد أضعت العمر.
في هذه اللحظات المتبقية لا يسعك إلا استرجاع بعض الذكريات الجميلة التي عايشتها بزيارة الوعي لك، لحظات راقبت فيها طلّة قمر، أو إشراقة شمس، أو ضحكة طفل، أو قضيت لحظة سكون كنت فيها متحررا من عجلتك، فنظرت فيها للأفق من قمة جبل، أو طربْت لنغمة موسيقى....لكن للأسف للحظات.
لو حقق احدهم، من الذين يدعون أنفسهم ب "الإنسان" بعض لحظات من الوعي في حياته، لكان هذا انجازا رائعا.
نعم، قد يدخلك شعاع وعي للحظات، لكن سرعان ما ترجع لنمطية حياتك العادية التافهة والخاملة والميتة.
ربما تظن انني اقصد الناس العاديين، هنا تكون واهما، وتُثبِت انك غير واعٍ مرة اخرى، انا لا اخص الناس العاديين فقط، بل اقصد النخب والمثقفين والعلماء أيضا، الذين قد يُعتبرون مميزين من قبل العامة.
منذ أيام فقط كنت اقرأ عن كارل يونغ، عالم النفس الشهير، الذي يُعتَبَر احد ابرز العلماء الاطباء لهذا العصر. لكنني أتردّد في دعوة أمثاله بالأطباء النفسيين. لقد كان هو نفسه متوترا ولم يعرف الراحة أبدا.
هذا العالِم، لم يكن بإمكانه الهدوء للحظة واحدة، كان دائم الحديث. لم يكن يصمت لبرهة واحدة. كان يقضي وقته مشغولا إما جيئة وذهابا، او دائرا حول مكتبه. وان لم يكن لديه ما يفعله، انشغل بغليونه. لم يستطع الجلوس ولو للحظة واحدة، كان يجب ان يبقى مشغولا.
كان مدخنا شرها حتى أُصيب بجلطة قلبية، فمنعه الأطباء من التدخين منعا باتا. هذا ما زاد طينَه بِلّة، وجعله في وضع حرج وفاقم من قلقه. لقد جُنّ جنونه.
خرج الى الشارع ثم رجع الى الغرفة....جلس على هذا المقعد ...ثم على ذاك الكرسي...دار حول المكتب، لكن لا لسبب....ولم يحقق راحة بال.
أدرك بعد حين أن غليونه كان يحل له بعض مشاكل التّوتر.لقد كان متنفس لقلقه. لذا طلب من أطباءه " هل استطيع وضع غليونا فارغا في فمي". وسمح له بذلك. كان يقول " غليون فارغ يساعدني". لقد واظب على هذه العادة عدة سنوات. كان يخدع نفسه بانه ما زال يدخن، كان تارة يلعب به، وتارة يتأمّله. كان يُدلِّعه وينقِّله من هنا لهناك.
هذا هو شأن طبيبنا النفساني العظيم. هذا هو ما اعتبره الجميع أحسن عالم نفس على وجه المعمورة.
يا للسخافة ، انه انسب مثال للاّوعي والجهل. انه أوضح مثال على الوقوع في أسر العادة، انه أروع ما قيل عن عدم الرزانة وقلة الوعي. لقد كان صبيانيا، وبالمعنى السلبي للكلمة.
ومن ثم يذهب هو للبحث عن مبررات، ونذهب نحن لنقنع أنفسنا بعاداتنا المشينة ، لندافع عن ذواتنا بشرح لماذا عملنا هذا وذاك.
وقع هذا اليونغ في سن الخامسة والأربعين في حب فتاة، مع انه كان متزوجا من امرأة لطيفة وحنونة. لم يكن هناك شيء يعكر صفوَ هذا الزواج عدا قلقه وعدم ثباته.
على أية حال، ما حدث له ينسحب قانونا؛ أن يشعر الرجل او المرأة في هذا السن ان العمر قد قارب على الانتهاء. وان شفق الموت أمسى يهدد شمس الحياة.
وكرد فعل غريزي، يصبح المرء متدينا روحانيا او متشببا جنسيا. خياران لا ثالث لهما. إما أن تتحول للبحث عن الحقيقة الأبدية والخلود السرمدي وإما أن تغرق بالشهوانية الجنسية.
المثقفون - الذين قضوا عمرهم وشبابهم داخل دماغهم - أكثر من غيرهم مرشحون للوقوع في فخ الشهوانية عند تلك النقطة الحرجة.
السبب هو: أنهم يستدركون ضياع العمر بعد أن يكون قد مضى منه أكثر مما تبقى. غرقهم في عقولهم فوَّت عليهم متعة الجنس، لقد كانوا متجاهلين لجنسانيّتهم. فتثور هذه الأخيرة عليهم منتقمة لذاتها، وكأنها تقول" مضى الوقت ولمّا أُستنفذ بَعْد، ولست متأكدة كم بقي من الشباب على الباب".