بصقة على سجاد قصر الرئاسة
عبدالرحمن يوسف القرضاوي
في يوم من الأيام، وفي عهد الرئيس المنتخب المخلوع بانقلاب عسكري الدكتور محمد مرسي، دخلت سيدة من عتاة الفلول لحضور إحدى اللقاءات، وبعد اللقاء تحدثت مع بعض أعضاء الفريق الرئاسي قائلة (حافظوا على السجاد اللي في القصر ... ده غالي جدا).
كان حديثا متعجرفا، يوضح دناءة المتحدث، وحقده على هذا الأستاذ الجامعي، الفلاح، الذي أصبح رئيسا للجمهورية بانتخابات فرضتها ثورة عظيمة.
كان حديثا طبقيا، عنصريا، صفيقا، يفترض في الطرف الآخر (وهم أساتذة جامعيون مرموقون) الجهل بقيمة مقتنيات قصور الرئاسة، كان غمزا ولمزا في أصولهم البسيطة التي يفخرون بها، ويعرفها الجميع.
هذه الحادثة توضح لماذا حدث الانقلاب، وكيف ينظر الحكم العسكري المستبد للشعب المصري، إنها دولة الأسياد والعبيد، دولة الأسياد "المزعومين"، و"العبيد" الخانعين.
حين ثار "العبيد" في يناير 2011 كانت النتيجة أن وصل شخص من خارج دائرة الحكم إلى أعلى منصب في الدولة لأول مرة في التاريخ، في التاريخ الحديث على الأقل، وهو أمر أزعج العصابة التي تحكم ...!
يا للكارثة !
سجاد قصور الرئاسة في خطر عظيم !
قالتها مذيعة ذات تاريخ أسود، قالت بكل صفاقة إن هؤلاء لا يعرفون قيمة هذه المقتنيات العظيمة، وإنهم يأكلون "الفتة" و"الكبسة" بأيديهم ثم يمسحونها في السجاد والستائر.
من أهم صفات هؤلاء الإعلاميين أنهم يتنكرون لأصولهم !
الغريب أن هذا النوع من فلول الحزب الوطني لا يعرف قيمة التحف، ولا يعرف قيمة السجاد، ربما يعرفون "سعر" السجادة، ولكنهم لا يعرفون "قيمتها" !
أما السادة العساكر الذين يحكموننا منذ ستة عقود فلا يعرفون قيمة السجاد، ولا حتى سعره، فكل شيء على حساب الدولة، ورئيسهم اللص المخلوع ثبتت عليه جريمة السرقة في قضية قصور الرئاسة التي أظهرت دناءته، واستحلاله لأموال الدولة المصرية في كل شؤون حياته، حتى في مدفن حفيده، شيَّده بمال حرام من المال العام.
سجاد قصور الرئاسة عجمي "يدوي"، وبعضه سجاد قديم، يتجاوز عمره مائة عام، فيه قطع لا تقدر بثمن، من موروثات أسرة محمد علي، وهذا أمر لا يدركه قيادات الحزب الوطني من أثرياء اتفاقيات السلام مع إسرائيل، ولا يدركه العساكر الذين وصلوا للسلطة في يوم أسود.
هل تظنني أتحامل عليهم؟ حسنا ... اسمع هذه الحكاية ...
في يوم من الأيام (في تسعينيات القرن العشرين)، أي بعد أن قضى السيد المخلوع حسني مبارك أكثر من فترتين رئاسيتين في قصر الرئاسة، ذهب لزيارة أحد مصانع السجاد اليدوي، ونُقلت الزيارة في نشرات الأخبار، وأظهر الرئيس جهله الفاضح وهو يقول على الهواء مباشرة للعاملين الجالسين على أنوالهم : "شدوا حيلكم ... السنة الجاية عايز آجي ألاقيكم شغالين على مَكَنْ" !
هذا الجاهل الجهول، لا يعرف أن قيمة هذا المنتج تتلخص في كونه منتجا يدويا، يجلس عليه العمال يغزلونه عقدة عقدة، شهورا طويلة، بعض السجاد يجلس على النول عشرات السنين.
رأيت في أحد معارض السجاد الإيراني سجادة لا نظير لها، قال لي صانعها فخورا : "لقد بدأ جدي العمل في هذه التحفة الفنية وهو في الثلاثين واستمر يعمل فيها حتى مات، وتابع أبي العمل فيها طوال عمره حتى مات، وأكملت أنا العمل فيها حتى أنهيتها، وها أنا أبيعها اليوم"، سجادة بدأها الجد لكي يبيعها الحفيد !
كيف يفهم هؤلاء قيمة السجاد؟
رأيت في كثير من دول العالم تحفا من السجاد يتوارثها أثرياء العرب، الأحفاد من الأجداد، وحين سألت بعضهم "من أين حصل جدك يا فلان على هذه التحفة؟" كانت الإجابة "من مصر" !
ألححت في السؤال : "كيف خرجت هذه التحف من مصر؟"
كانت الإجابة بسيطة جدا : "لقد سرقت محتويات قصور الأسرة العلوية وبيعت في العالم كله بأبخس الأثمان طوال فترة حكم عبدالناصر بفضل القائمين على هذا الأمر".
تم ذلك دون رقابة تذكر من خلال لجان الجرد والمصادرة التي رعاها مجلس قيادة الثورة (الانقلاب)، ومن يريد أن يتوسع في الموضوع فليقرأ كتاب "مجوهرات أسرة محمد على والأربعين حرامي" لمؤلفه السيد الأستاذ حسين الرملي.
كانت اللجان تدخل قصر الباشا الذي ستحجز عليه، فيستولي هؤلاء المماليك الجدد على المجوهرات، والثريات، والسجاد، والتحف، وبعد أن انتهائهم من ذلك، يبدأون عملية الجرد المزعومة !
تريد أن تعرف المزيد عن سلوك عصابة الحكم العسكري في مصر؟
كانت أسرة محمد علي يوم ألغيت الملكية تتكون من حوالي أربعمائة أسرة، تملك من القصور والعزب والعقارات ما يمثل ربع ثروة مصر، فالملك والأمراء والأميرات كانوا يملكون مليونا وربع المليون تقريبا من الفدادين الزراعية، وهو ما يمثل خمس أراضي مصر الزراعية في ذلك الوقت.
كانت عزب الباشوات تدار إدارة ممتازة، فهم يملكون خمس الأرض، ولكن بسبب حسن الإدارة كانوا ينتجون نصف إنتاج مصر الزراعي.
يقول الدكتور حسين مؤنس رحمه الله في كتابه القيم (باشوات وسوبر باشوات) :
"خلال 150 عاما من تاريخ مصر (1805 – 1952) حكم الباشوات بلادنا وملكوا كل شيء فيها: السياسة، والجاه، وصدارة المجتمع، والقصور والأموال والضياع، وفي يوليو 1952 انتزعت منهم الثورة السياسة وصدارة المجتمع، ولكن: من الذي استولى على القصور والأموال والضياع ؟
السوبر باشوات: باشوات بلا ألقاب، وأشراف بلا شرف، وناس بلا إنسانية ومواطنون بلا وطنية".
هذا كلام حسين مؤنس رحمه ... وليس كلامي !
هؤلاء الذين يوصوننا بالحفاظ على سجاد القصور الرئاسية هم من سرق وباع سجاد وتحف ومجوهرات ومقتنيات الأسرة العلوية، وباعوها لحسابهم الخاص في كل مكان، بل لا أبالغ إذا قلت إن بعض هؤلاء السادة ما زال سجاد بيته (حتى اليوم) مجرد مسروقات من الأسرة المالكة والقصور الملكية !
ثم يقولون للذين انتخبهم الناس، وللأساتذة الجامعيين (حافظوا على السجاد اللي في القصر ... ده غالي جدا)!!!
كان هتلر يجلس بشكل شبه يومي يتأمل في السجاد اليدوي، وحين سأله السائلون عن سر جلوسه وتأمله في السجاد، أجاب : "أَتَعَلَّمُ الصبر من النظر للسجاد، فكما صبر الذي صنعها عقدة عقدة حتى انتهت، لا بد أن أصبر لأحقق أهداف ألمانيا".
هذا هتلر ... وفي عصرنا يحكمنا فاشيون حتى ثقافة هتلر لم يبلغوها، فرئيس الحزب الوطني الديمقراطي الرئيس المخلوع عاش في قصر الرئاسة ثلاثين عاما دون أن يفهم أو يدرك قيمة سجاد قصر الرئاسة، وكان يتمنى أن يرى العاملين في صناعته يعملون على ماكينات، ولكن أحدا لم يتجرأ أن يقول له (حافظ على السجاد اللي في القصر ... ده غالي جدا) !
كنت أجلس أمام النول، وأغزل بيدي بجوار العمال، تعلمت العقدة "الجوز"، والعقدة "الفرد"، اشتغل أحيانا في الصوف، وأحيانا في "الكازاك"، وأحيانا قليلة في الحرير، فالحرير لا يغزله إلا الأطفال، شغل دقيق، يحتاج لأصابع صغيرة، (سيعترض مناهضو عمالة الأطفال، ولهم الحق).
من يدخل مصنعا للسجاد اليدوي سيشعر برهبة في المكان، وسبحان من يعطي هذه الأماكن رهبة، إنها رهبة الجمال، هذا الجمال الذي تقضي عليه الدولة اليوم، فصناعة السجاد اليدوي في مصر على وشك الانقراض، بفضل سياسات مبارك ومن بعده، (وربما أفرد مقالة خاصة عن الموضوع).
لقد صنعت مصر سجادا يدويا على أعلى مستوى من الجودة، ولكن للأسف بيع أجود السجاد المصري على أنه سجاد إيراني، أو تركي، ولم تصبر مصر على منتجها لكي يصبح علامة تجارية مسجلة.
الأتراك فعلوا ذلك، وأصبح السجاد التركي منتجا عالميا مطلوبا، سواء السجاد الصوف، أو السجاد الحرير (الهيريكا).
كان بإمكان مصر أن تطور منسوجاتها القديمة، كالسجاد المملوكي مثلا، ولكن للأسف ... لكي يحدث ذلك لا بد من وجود مشروع ترعاه دولة، دولة على رأسها رجل يفرق بين المنتج اليدوي، وبين منتج "المكن"، رجل لا ينحدر من نوعيات من البشر تسرق القصور الملكية وتبيعها في سوق النخاسة الدولية، دون أن يقول لها أحد (حافظوا على السجاد اللي في القصر ... ده غالي جدا)!
مصر اليوم أمام عصابة، يدافعون دفاعا مباشرا عن مكتسباتهم وثرواتهم من المال الحرام التي راكموها منذ عشرات السنين، يتظاهرون بأنهم متحضرين، وهم برابرة، همج، قتلة، مجرمون، وحسابهم قريب.
يظنون أن الإنسان المتحضر هو من يشتري أغلى أنوا السجاد، وينسون أن جوهر الإنسان هو ما يرتقي إليه من معان، لا ما يدوس عليه من سجاد.
تكملة القصة التي ذكرتها في بداية المقالة تقول إن أعضاء الفريق الرئاسي تصرفوا بحكمة مع السيدة، لقد انصرفت شبه مطرودة، وهذا أقل ما يمكن أن يُفعل مع مثل هؤلاء، فهم يتصرفون وكأنهم أحفاد "بيبرس"، ويظنون أن "بيبرس" كان ملكا، والحقيقة أنه مملوك !!!
وكما قال الفيلسوف الفرنسي "تيري إيجلتون" : "أن يكون المرء متحضرا يعني من بين أمور أخرى ألا يبصق على السجادة، وأيضا ... ألا يقطع رأس أسير أو يعذبه" !
هل يفهم هؤلاء مثل هذا الكلام؟
لقد ضاعت الإنسانية من حكام هذا البلد ونخبته، فأصبحوا قتلة يستحلون دماء أبناء وطنهم، لأنهم في نظرهم "عبيد"، لا أكثر، ولكنهم بحمد الله، ما زالوا يحافظون على سجاد القصور الرئاسية.
يا سادة ... حكمكم الممتد منذ عشرات السنين بصقة على كل سجاد القصور الرئاسية !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...