القنوات الفضائية العربية
القنوات الفضائية العربية
وإشكالية الهوية والمال الضائع
محمود خلوف
صحفي وطالب دكتوراه إعلام
اعتبر كثيرون من المراقبين إطلاق قنوات فضائية عربية في نهاية القرن العشرين تجربة ريادية جديرة بالاحترام، لإيمانهم بإمكانية أن تلعب دورا كبيرا في المجتمعات، أو أن تكون عامل تأثير على الرأي العام الدولي والإقليمي والمحلي، ولا يقل أهمية عن القوة العسكرية والسياسية.
وتباينت الاجتهادات حول الجدوى من إطلاق كم هائل من هذه القنوات، ولكن بالمجمل الغالبية العظمى دعمت هذه الفكرة.
ومر أكثر من عقد على إطلاق أول قناة فضائية عربية ليصل عدد هذه القنوات لأكثر من 350 قناة متعددة الخلفية والرؤى والملكية والأهداف، وفي ضوء الكم الهائل من هذه القنوات ومرور أكثر من عشر سنوات على إطلاق أول واحدة منها بات بإمكان الفرد أن يقيم التجربة بسلبياتها وإيجابياتها، لعل وعسى بأن يلفت نظر المخططين إلى نقاط الضعف والقوة.
وحتى نمنح الموضوع عمقا أفضل نشير إلى أن القنوات العربية يتراوح تخصصها ما بين إخبارية وثقافية وتعليمية، وأخرى خاصة بالأسرة، ودينية مع أن غالبيتها العظمى غنائية ترفيهية.
وقبل الخوض في التفاصيل لا بد من تعريف القارئ أن الاستثمارات العربية في مجال القنوات الفضائية بلغت منذ إطلاق أول قناة وحتى سبتمبر 2002 ستة بلايين دولار حينما كان عددها لا يتجاوز 140 قناة.
وفي السابق عندما أثير الجدل حول الاختراق الإعلامي ومشكلة التغريب كان الحديث ينصب على عدد من التلفزيونات الرسمية في الدول العربية، وكان مقصودا في ذلك الرسوم المتحركة والأفلام الأجنبية المترجمة لعدم دخول القنوات الفضائية العربية، ولم يكن دارجا هذا الكم الكبير من المسلسلات المدبلجة، والأفلام الأجنبية "غير المفلترة" في وسائل الإعلام العربية، كما هو الآن حال عدد من القنوات العربية التي تبث الأفلام على علتها دون أي تدخل، ما جعل الحديث عن القنوات وإشكالية التغريب أمر في غاية الأهمية.
وفي سياق الحديث عن القنوات الفضائية والاختراق الإعلامي، ربما يتساءل الفرد هل يختلف الأمر كثيرا عما يدور في الأفلام المصرية، وبعض الأفلام السورية، فبلا شك أن الأمر مختلف، فدخول القنوات الفضائية في تنافس كبير وبثها على مدار الـ24 ساعة جعلها تغوص في الأسواق العالمية للبحث عن أفلام جذابة، وجعلها تعتمد أكثر على الإثارة والتشويق، دون التنبه إلى خطورة ترويج نمط الحياة الغربية، والتركيز على قشور الحضارة الغربية دون الخوض في أعماقها.
والمقلق أنه لم تبذل أي جهود تذكر في مجال تحصين الجمهور المتلقي بما يخص الحفاظ على العادات والتقاليد ونمط الحياة، فالاختراق الهائل للفكر العربي وتشبع الجمهور للأفكار الغربية جعله إلى حد ما كالتائه وبلا هوية حضارية وثقافية واضحة، وهذا الأمر أكثر وضوحا إذا ما تحدثنا عن فئة الشباب وطلبة الجامعات، وما نراه من الإقبال غير المسبوق على آخر الموضات وقصات الشعر، وطبيعة اللباس وحتى المشي، وكذلك المصطلحات ما هي إلا مظاهر لمدى تفشي الاختراق.
وما يسمع من مصطلحات غريبة بين طلبة الجامعات والمدارس كـ"الصحوبية"، وكذلك التحرر من كل القيود والقيم بما يتعلق بتعامل الشاب مع الفتاة، وحتى الفتاة مع الفتاة والشاب مع الشاب، جاء بالتأكيد بفعل ما تبثه القنوات الفضائية وبقية وسائل الإعلام الأخرى دون مراعاة المسؤولية الاجتماعية.
وعندما نتحدث عن آخر الموضات لا يعني أننا ضد لبس الجديد وضد مواكبة التقدم، ولكن أردنا تذكير الفرد بضرورة الحفاظ على عادات وتقاليد مجتمعه الحميدة وكذلك تمايزه عن المجتمعات والأمم الأخرى، دون أن ينحرف بسلوكه ولباسه تحت مسميات الحضارة والتقدم.
ومن أراد التقدم بالفعل لا يركض وراء القشور والشكليات، بل وراء التقدم العلمي ومحاكاة الغرب في البحث العلمي واحترام الوقت وقيمة الإنسان وحقوقه في المجتمعات الغربية، وليس اللهث وراء أمور "لا تسمن ولا تغني من جوع".
إن الكم الهائل من القنوات الفضائية العربية يتطلب الاهتمام بتعزيز الإنتاج العربي، دون التركيز فقط على الجانب الترفيهي، فالشعوب العربية بحاجة لأفلام وثائقية وبرامج تثقيفية، وأفلام هادفة تدعم الخطط والاستراتيجيات التنموية في البلاد النامية من خلال محاربة بعض الظواهر السلبية والحد من قيود التنمية.
وبلا شك أن الدول العربية لم تكن بحاجة لبضعة مئات من القنوات الفضائية تتسابق غالبيتها في إنتاج الفن الهابط وليس الهادف، وانحصرت غالبيتها في تقديم أغاني راقصة مكررة تشاهدها في نفس الوقت على أكثر من قناة، بقدر ما هي بحاجة لتنظيم عمل هذه القنوات وإقامة دور إنتاج قادرة على المنافسة وتلبية احتياجات القنوات الفضائية التي تبث على مدار الساعة، كي لا نضطر للمبالغة في بث المواد الأجنبية التي غالبها لا تتناسب وهموم وعادات وتقاليد وخصوصية مجتمعاتنا وذوق المتلقي العربي.
ولا بد من تساؤل أمن العقلانية بأن تستثمر بهذا الحجم في مجال إطلاق القنوات دون أن نوازن بين هذا الجانب وبين إنشاء دور إنتاج قادرة على المنافسة على المستويين الإقليمي والدولي!!، ولماذا لم نسخر طاقاتنا لإنتاج مواد بلغات عدة تمكننا كعرب من توصيل معاناة الشعوب المحتلة والمقهورة بسبب الاحتلال، وكذلك إظهار سماحة الإسلام المتهم بالإرهاب.
وفي ضوء الفلتان الذي نشهده من قبل عدد لا يستهان به من القنوات وبخاصة المتخصصة بالأفلام والغناء والترفيه بات الأمر ملحا لتشكيل مرجعية مهنية لهذه القنوات بعيدة عن سيطرة الحكومات وقريبة من هموم المواطن العربي وعاداته وتقاليده واحتياجاته، فلم يكن مبررا أن نرى على شاشة القنوات العربية ما منعت الرقابة بثه لأسباب أخلاقية أو دينية، ولم يعد مبررا أن نسمع أناس يشتمون الذات الإلهية ويتهجمون على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خلال استضافتهم كضيوف في برامج تبثها هذه القنوات على الهواء مباشرة، ولم يعد مقبولا المبالغة في بث لقطات ساخنة وغنج بهذا الشكل تحت مسميات "مسابقة فنية"، أو برامج تقلد الغرب تماما كـ"استار أكاديمي" وغيرها، أو برامج تروج الشعوذة، وتعلم السحر، لأن بقاء الفوضى القائمة يصب في هدفين أساسيين يتمثلان بإفساد الذوق العام للجمهور العربي، ومحاربة العادات والتقاليد الأصيلة في المجتمع.
وفي سياق النقد البناء للقنوات الفضائية العربية إذا ما استثنينا "الجزيرة" بالانجليزية وعدد من القنوات الفضائية المصرية يمكن القول أن القنوات العربية تخاطب جمهورا واحدا فقط يتمثل بالجمهور العربي، دون التنبه لأهمية الإعلام الفضائي الموجه للغرب في ضوء ما نشهده من هجمة شرسة تستهدف تشويه الإسلام وربطه بالإرهاب، وكذلك المس بالصورة ناصعة البياض للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك يجب أن تتجه أهداف هذه القنوات لمواجهة الإعلام المضاد والضار الذي يشوه سمعتنا وقيمنا ويسئ لديننا الحنيف.
وبعد الإسهاب في نقد القنوات الفضائية من الضرورة إبراز جوانب مشرقة برزت منذ ظهور هذه القنوات وفي مقدمتها التعددية الفكرية والمنافسة والسرعة في نقل الأحداث، ووجود الرأي والرأي الآخر، والإفلات من رقابة الحكومات المشددة، وإظهار حقيقية الانتصارات التي تتغنى بها الدول الكبرى، وبخاصة بما يتعلق بالحرب في العراق وأفغانستان، فقناة "الجزيرة" القطرية رغم بعض التحفظ على أدائها وعلى مدى التطبيع الذي وصلت إليه تبقى أداة إعلامية متميزة فاقت في قدرتها ووصولها للحدث شبكة CNN الأميركية، وكثير من القنوات الغربية.
وبقي أن ذكر أن أكبر التحديات التي تواجهها القنوات العربية حاليا هي خدمة قضايا الأمة العربية، ولعب دور بارز وبناء في مجال تطوير واستنارة الفكر العربي بدلا من ترويج المسلكيات الخاطئة والإفراط في إظهار نمط الحياة الغربية، والفكر المشوه.
وفي الختام أضم صوتي لدعوة الكاتب فاروق جويدة الذي دعا منذ سنوات القائمين على القنوات الفضائية بالجلوس على مائدة واحدة بلا صراع وبعيدا عن الحساسيات والأهداف المشبوهة لكي يناقشوا بأمانة مستقبل هذه الفضائيات "لأنها سلاح خطير في وقت عز فيه السلاح الحقيقي، لأنها بما تقدمه الآن تدخل في نطاق المال الضائع".