لحظة الحقيقة.. أو "الفضيحة"

لحظة الحقيقة.. أو "الفضيحة"!

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

"إذا ابتُليتُم بالمعاصي فاستتِروا".. قولٌ مأثورٌ فيه حكمةٌ ووعي.. ولكن بالتأكيد لم يخطر ببال قائله أنه سيأتي زمان يصبح فيه فضح الأسرار والمعاصي وحتى الوسوسات الداخلية مجلبة للآلاف من الدولارات!

"لحظة الحقيقة" برنامج ينتجه هوارد شالتز وتبثّه شبكة فوكس الأميركية ويتابعه ملايين الأميركيين كل أسبوع وقد أكرمتنا نحن العرب قناة الـmbc فبدأت ببثه هي الأُخرى رغبة منها بتسلية مشاهديها!

ولِمَن لم يتابع هذا البرنامج فليسمح لي أن أشنِّف آذانه بماهيته.. فالبرنامج يتيح للمشترك ربح نصف مليون دولار إن هو أجاب "بصدق" عن أحد وعشرين سؤالاً.. ولا يعتقدنّ أحد منكم أن الأسئلة هي في الثقافة العامة أو في الشعر والأدب.. أبداً فالأسئلة شخصيّة تلج إلى عمق الحياة الخاصة والعلاقات الأسريّة والزوجيّة وحتى الخواطر التي لم يترجمها المشترك أفعالاً.. وغالباً ما تكون سيئة ومخزية!.. وهذه الأسئلة غالباً ما تكون محرجة جداً للمشترك خاصة إن كانت تخصّ أحد أفراد عائلته.. وكمثال عليها: هل أقمتِ علاقات جنسيّة مع غير زوجك؟ هل شعرتَ بميل تجاه صديقات زوجتك؟ هل خنت زوجتك مع إحدى صديقاتها؟ هل تعتقد أن زوجتك تخونك؟ هل زوجك هو أفضل حبيب حصلتِ عليه؟ هل ندمتِ على زواجك من زوجك؟ هل أقمتِ علاقات جنسيّة مع رجل متزوج؟ هل سرقتِ من عملك؟ هل تملكين أسراراً قد تُنهي زواجك؟ هل تعتقدين أن أمّك هي أمّ جيّدة؟ هل تحب النظر إلى نفسك عارياً؟ وغيرها من الأسئلة التي تثير في النفس مشاعر القرف والإشمئزاز!

والجدير بالذكر أن هذا البرنامج يُبَث في حوالي ثلاث وعشرين دولة إلا أنه تم ايقاف بثه في كولومبيا - الحاضن الأول للبرنامج - بعد أن اعترفت فيه امراة باستئجار قاتل لقتل زوجها..

وبالعودة إلى طبيعة البرنامج.. يخضع المشترك قبل العرض على الهواء لخمسين سؤالاً وهو موصول بآلة كشف الكذب.. وبعدها يأتي دور البرنامج على الهواء حيث يتم اختيار أحد وعشرين سؤالاً من تلك الخمسين وبعد كل إجابة ينتظر المشترك الآلة لتخبر إن كان كاذباً أو صادقاً.. فإن كان صادقاً - على ذمّة الآلة - فينتقل إلى السؤال الذي يليه وهو عادة ما يكون محرجاً وصعباً أكثر حتى إذا ما وصل للأسئلة الأخيرة كانت الفضائح "بجلاجل"! ولتزيد الأمور تعقيداً للمشترك فقد يستضيف المقدِّم مارك والبرغ شخصاً مقرَّباً من المشترك كحبيب سابق أو صديق فيُحرِجه بسؤال قد يُنهي حياة المشترِك الزوجية كما حصل مع المشترِكة لورين كليري التي حاولت أمها وأختها ايقافها دون جدوى - يحق لأهل المشترك الموجودين رفض السؤال مرة واحدة خلال البرنامج - فالطمع وحب المال يعميان بصيرة أيّ مشترك خاصة إن كانت الفضائح قد وصلت لذروتها فماذا يمكن أن يخسر بعد؟! وهكذا انتهى زواج لورين فخرجت من البرنامج بخفَي حُنَين بدون مال ولا زوج!

والمُلفِت هنا اعتبار آلة كشف الكذب "معصومة" عن الخطأ.. ولا أدري حقيقةً كيف تستطيع الآلة تمييز مشاعر العصبية التي يمكن أن تنتاب المشترك عن تلبّكه بسبب الكذب! وإن كانت هذه الآلة بهذه الدقة فلِم لا يتم اعتمادها في المحاكم لمعرفة إذا ما كان الجاني بريئاً أم لا.. وفي هذا السياق يقول البعض أن دقة هذه الآلة تتراوح بين 61 و 90%.. وبذلك يكون اعتماد نتيجتها وحدها في تحديد ما إذا كان المشترك صادقاً أو كاذباً هو خطأ فادح وظالم.. ومن الواضح تماماً أن المسألة هي مسألة حظ أكثر منها مسألة صدق كما يدّعون!

هذا البرنامج أثار ضجة حين عرضه في بلاد العرب فلم يعتد المشاهدون على هذا النوع من الفضائح والوقاحة في الاعتراف بالأعمال السيئة التي يحاول الإنسان اخفاءها عن الناس وحتى عن نفسه! ولا أدري ما غاية القنوات التي تبثها غير إثارة الفضول، والاعتياد على سماع كلمات وأسئلة تقشعر منها الأبدان، والاندماج ببعض عادات وتقاليد الغرب المنفتِحة منها خاصة في العلاقات بين الجنسين، وتمييع الشباب وإشغالهم بالشهوات وتقزيم الأجيال خُلُقياً وتشويهها فكرياً!
وما يصدم أكثر خبر مفاده أن قناة عربية تنوي تطبيق فكرة البرنامج في البلاد العربية! ويكأنّه لا يكفينا جحور الضب التي دخلناها حتى الآن بعد تطبيق جملة من أفكار برامج غريبة لا تناسب مجتمعاتنا الشرقية ولا عاداتنا الإسلامية!

يعلِّق البعض باستهزاء أن البرنامج إن عُرِّب فمحكومٌ عليه بالفشل لأن الكذب أصبح سِمَة متأصِّلة ولن تستطيع أية آلة اكتشافه! وبغض النظر عن هذه النقطة فإن البرنامج حتماً سيفشل لأنه يصعب على الإنسان العربي الكلام عن علاقاته الأسرية والزوجيّة وإخراج مكنونات نفسه بسهولة حتى لو كان المردود المالي كبير جداً! ولئن استفحل الغرب بالعلاقات الشاذة والفضائح الجنسيّة والممارسات اللاأخلاقيّة فإن بلاد المسلمين مع كل ما فيها من تسيّب وجهل إلا أنها لا زالت محافِظة بأغلبها على الحد الأدنى من الأخلاق والطهارة الأسرية.. ومفردات فقدها الغرب منذ زمن سحيق!

ولا أظنّ هذا المال يستحق أن يجد المرء نفسه مخلّداً في كتاب يسرد فضائح مشتركي هذا البرنامج كما هو حاصلٌ الآن حيث أصدرت كريستين بك كتاباً أسمته "لحظة الحقيقة: أكثر الكوارث الرومانسية النسائية تسلية"..

ولئن أثار هذا البرنامج كل هذه الضجة والرفض في بلاد العرب فهذا شيء طبيعي ولكن ما فاجأني هو إثارته للضجة في أميركا نفسها.. وقد تتبّعتُ بعض الآراء حوله نُشِرَت في مواقع واشنطن بوست ونيويورك تايمز وبعض المدونات الغربية فلاحظت رفضاً كبيراً لهذا البرنامج الذي نعته البعض بالبرنامج "القمامة" ومُحطِّم العلاقات!

وتساءلت بدورها الصحفية كلير هوفمان: "هل لورين كلير هي من أولئك الكاثوليك السابقين ولم تجد من تعترِف له حتى الآن فلجأت إلى هذا البرنامج؟ أم أن الناس يذهبون إلى التلفزيون الوطني للإعتراف بأسرارهم السوداء لأنهم من الشريحة المتزايدة لأولئك غير المنتمين للدين؟ وهل آلة كشف الكذب والجماهير يتركون المعترِف في حالة من القبول النفسي ويتحررون بعدها من ذنوبهم؟"

ويعقِّب بعض الأميركيين في الواشنطن بوست بتعليقات تفوح منها رائحة الضيق والإشمئزاز.. فبينما يجد البعض الأمر مهيناً ومخجلاً ومقرفاً وغير لائقاً يؤكِّد البعض الآخر أن أميركا تتجه نحو التدمير الذاتي حيث لم يعد يجد الناس هناك التسلية إلا بالنظر إلى الجانب السلبي للطبيعة البشرية ونشر "الغسيل الوسخ" والتجريح!

وتضيف أليساندرا ستانلي في مقال لها في النيويورك تايمز أن "هذا البرنامج هو محاكمة نفسية للمحنة حيث يتاجر المشتركون بالصراحة مقابل الدولارات.. وهو مثير للعداء بين المشترك وأقاربه وأصدقائه والأسئلة تصل درجة الإذلال.. ومَن يخسر في هذا البرنامج لا يعود إلى البيت صفر اليدين.. فإن لم يحصل على المال سيعود وقد ملأت الكراهية القلوب.."

وبعد كل ما نراه ونشاهده كل يوم.. نزداد إعجاباً بهذا الدين الذي يحثُّ على الفضائل ويحفظ على الناس أسرارهم وحياتهم.. بل ويدعوهم إلى ستر العيوب والمعاصي.. يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام "كل أمّتي معافى إلا المجاهرين وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" ..

كما ويدعونا إلى قول الصدق دائماً إلا في مواطن "لا يحِلّ الكذب إلا في ثلاث: يحدِّثُ الرجل امرأته ليرضيها.. والكذب في الحرب.. والكذب ليصلح بين الناس"

الإسلام يريد حفظ العائلة والعلاقة الزوجية بين الرجل وزوجته.. وهؤلاء يريدون الفضيحة ويروِّجون للخبائث.. فشتّان بين مصلح ومفسد.. شتّان!