بصمات شيخ المربين السوريين

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

سمة للمخبتين، وعلامة لمن وصلوا عين اليقين،  بعض سادتنا العلماء من القدماء والمعاصرين يؤثرون الظل، فيطلّقون الدنيا طلاقاً بائناً بينونة كبرى،  ويرضى يقينهم بالمولى سبحانه، باحتساب الأجر عنده وحده .

 والظن أن من حقهم علينا إذاعةَ جهدهم ليقتدى بهم،  وعلماؤنا الأحياء لا يروق لأكثرهم مثل هذا الفعل، ويفضلون ذلك بعد أن تطوى صحائف أعمالهم  ويوفيهم ربهم أجرهم كاملاً غير منقوص، بيد أن ظروف الدعوة تضطر أمثالي لتجشم نوع مـن المخالفة لرغباتهم،  ولفت أنظار الدعاة لمنهل عـذب رقراق. وأستميـح مشايخي عذراً ، فقد علموني هم أنفسهم ألا أقدّم علـى مصلحة الدعوة شيئاً.

قدر الله لي أن أفارق عشاً درجتُ فيه، ونعمت بفيض كرم أهله، إلى الغربة وقسوتها، وعقيدتي التي رُبّيت عليها

أن الله تبارك اسمه رب الخيركله، ولا يقضي لمؤمن إلا خيراً، فخالطتُ مدارس دعوية جمة، كل مدرسة لها من التألق والتميز ما يشرح الصدر. وبقي بين جوانحي شوق لمسقط رأسي الدعوي، وأقارن ما أتذوقه دعوياً، وما اعتدت عليه، فأجد أن بيتي الدعوي الذي نشأت فيه، أميز طعماً، وأكثر فائدة ، وهذا ليس تعصباً والله على ما أقول شهيد.

 هناك في عشي الشامي الذي تعرض لأعتى أعاصير الظلم ، وأُمطرَ بوابل من المكر، حتى سالت الدماء، وغدا الأنين والشكوى صوتاً مألوفاً، تلد دعوتنا التميز، ويظهر رجال لا يقبلون بسقف النجاح فقط، بل ينداح أثرهم على الأمة جمعاء لو قدر لهم ما قدر لغيرهم من الدعاة مــن وسائل الاتصال، وقبـلوا الخروج من حجب الستر.

وفي مقاربات متواضعة أُميط اللثام عن جهبذ من الدعاة العلماء، خط طريقاً لم يسبقه فيه أحد، وهو ما سأبرهن عليه في مقالتي هذه .

مربٍّ أفنى ذبالة عمره في العمل التربوي، مع إمكانات شرعية ترقى به إلى مصاف العلماء، وقراءات وخبرات تربوية تجعله فذاً في ميدانه، كنت قد حبّرت عنه مقالاً بعنوان- مهندس التربية السورية- نشرته على وميض أنوار رابطة أدباء الشام منذ مدة، وذكرت فيه طرفاً من نشأته ومشايخه وعمله في التدريس والدورات الشرعية والتربوية، ونشاطه الإداري، ونوهت في نهاية المقال بمقالاته

فأنا أتابع الحديث حصراً عن مقالاته .

الشيخ الأستاذ أبوعبيدة / محمد عادل فارس، له حظ من اسمه، فهو فارس ما ترجل عن فرسه، كان على رأس الهرم التربوي مدة ناهزت الثلاثة عقود، إما رئيساً أو نائباً للرئيس، وفي كلتا الحالتين يُعَدُّ بنظر الإخوان السوريين المحرك الأساسي للعملية التربوية. كان يصل  ليله بنهاره وهو يعمل، بين إدارة جلسات، وإقامة دورات، ومناقشة مشكلات، وحضور ومتابعـة لمستويات مـن الأسر الإخوانية على اختلاف درجتها.

وفاجأ جميع من حوله منذ أربع سنوات بتقديم استقالته من العمل الاداري وترك منصبه، بينما نرى دعاة لا يتركون مناصبهم إلا بإقالة بسبب الحراك الدعوي، أو موت،  أو مرض مزمن مقعِد .

ومن هنا بدأت فصول جديدة من تميز الشيخ أبي عبيدة وعطائه، رغم من طمهم وعمهم الحزن وأنا منهم، لنكتشف بعد برهة من الزمن، أنه إخلاص الشيخ – ولا نزكي على الله أحداً – دفعه ليرى بأم عينيه لواءً مهماً من ألوية الدعوة، اللواء التربوي تحمله السواعد الفتية .

وكانت تلك خطوة البداية ليس إلا، ليتفرغ لعمل كان يمارسه مشافهة، فيشيم قلمه ليدون مقالات تربوية بنكهة خاصة، وليفي لأمته حقها من علمه وجهده. وفي استطراد له صلة بالموضوع رأيت بعض متقاعدي الدعاة يجنح إلى الكتابة وكأني بهم يريدون قتل الوقت، فيخرجون علينا بكتابة موضوعات قتلها سلفنا بحثاً .

أما الشيخ أبوعبيدة فمن دلائل رضاه بقدر الله الذي اختار له العمل التربوي، بقي في نفس الدائرة، فاستهل رصيده المخطوط بكتابه الموسوم – الذين قالوا لا- ، لم يخرج فيه، برأيي، عن نهجه، حيث دوّن خلجات ولواعج نفوس بعض من رأى من الدعاة في أصعب مواقف الحياة وأشدها ابتلاءً وهو السجن .

ثم التفت إلى الدعاة  عموماً في سجنهم الكبير، سجن الحياة، ليخفف من وطأة جلاديه من الشهوات والشبهات، ويرسل قلمه ليرسم السمت ويهدي من يدفعون بكل جهدهم المغريات والتشكيك، فكانت مقالاته فتحاً تربوياً وطريقاً ما سلكه من قبل مربٍّ مسلم .

وفي مقالاته كما سأوضح، يحصر جهده بالتميز، ذلك المرقى الوعر والهدف الذي يجـاور المستحيل، فما قصة تلك المقالات؟ .

فوجئت منذ عامين على وجه التقريب برسالة خاصة على بريدي الالكتروني مرسلة مباشرة من الشيخ لشخصي الضعيف، قرأتها ثم أعدت قراءتها مراراً!. كان انطباعي الأول أن مقولة سوء وشى بها حاسد، اضطرت الشيخ إلى مراسلتي، فتشت مواقفي وراجعت نفسي فما تبين لي المقصد، فاحتفظت بها على حاسوبي.

وبعدها بأيام وصلت رسالة أخرى فأخرى، وأنا، كلما وصلني شيء، أضمه بعد تمحيص ذاتي، لا أدرك المغزى منه، فهاتفت بعض إخواني ممن حوله لعله نمى لعلمهم شيء، فأخبروني أن الشيخ يرسل إلى أحبابه ما يخطّ، وأنت واحد منهم، فحمدت الله في سري، واستغفرت من إساءة الظن، وكلما وصلتني رسالة ضممتها لأخواتها، بغرض الفائدة الذاتية، والعودة إليها في كتابة أو محاضرة ...  .

أخذ المجلد الذي حوى مقالات الشيخ ينمو ويكبر، وفرض علي عادة تسريح النظر بين أسطره بين الفينة والفينة،

أتلمس فائدة وأقتنص فكرة، وأتعلم أسلوب معالجة، وانثالت في ذهني الخواطر.

 كانت قراءتي الفكرية الأولى أن الشيخ حفظه الله أحيا منهج الإمام البخاري- رحمه الله تعالى - في صحيحه بالتركيز على العنوانات، وهو منهج قرأه غيري بأنه علامة على فقه البخاري، وفهمه العبد الفقير كاتب هذه السطور، منهجاً لتكثيف الفكرة وإيصالها عبر العنوان، وإعطاء الزبدة لتكون من بعدُ عصيةً على النسيان، فتهيأ لي بداية أن الشيخ أبا عبيدة يحيي منهج كبار علماء السلف. قضيت مدة سعيدة بهذا الاكتشاف، بيد أن وصول المقالات تترا، مع تباين في الطرح والشرح، أقنعني أنه مع وجاهة ذلكم الخاطر،  فإنه تبسيط لجهد الشيخ.

حاولت مرة أخرى التفكير بعمق أكثر وربط العنوان بالمحتوى، فأضفت استنتاجاً آخر إلى ما سبق، وهو أن الشيخ يريد إرسال شواخص دعوية تتأرجح بين التذكير والإضافة. لكن عقلي النقدي بطبعه ما ارتاح لهذا الاستنتاج الثاني.

وفي ساعة صفاء، وقلما يجود بها الزمان، عقدت خلوة مع حاسوبي، وفتحت مجلد مقالات الشيخ أبي عبيدة وأمسكت بقلمي، وأخذت أقرأ وأدون ملاحظات،  فاهتديت للتالي:

أولاً: الجِدّة في الأسلوب، والنقلة النوعية في الخطاب الإسلامي الذاتي، حيث يعمد المربي إلى متابعة غرسه وسقيه بماء المعرفة، مع إفساح المجال ضمناً للمناقشة لمن أراد، فيرسل ما يكتب إلى ثلة من تلاميذه قبل أن تنشر.

ثانياً: هي همسة مشفرة من المربي إلى تلامذته، تذكرهم أن الالتزام لا يعني العصمة، فحذار حذار! .

ثالثاً: كأني بالشيخ يرنو من سجف الغيب، ويخترق ببصيرته حجب الواقع، فكثير من تلامذته تبوؤوا مناصب دعوية، أو قد يصلون في يوم من الأيام إلى تلك المناصب، فيذكرهم بلسان الحال والمقال. أما لسان الحال، كما قلت بداية، فإنه لو أراد الكتابة لمجرد الكتابة لأخرجت إمكاناته مجلدات في العلوم الشرعية واللغوية والتربوية، وبين قراءة سطور الحال والمقال يؤكد الشيخ - حفظه الله – أن الأمة بحاجة لعملية استنهاض، والتربية هي الطريق الرئيس لذلك .

رابعاً: وهو برأيي أهم مما سبق، لعموم نفعه، أن العملية التربوية الإسلامية، تعاني من قصور واضح، لا بسبب فقرها بالمفردات ولا بالكوادر، وإنما لإغفال القائمين عليها جانباً مهماً، هو التربية بالمتابعة، فيكتفي المربون الإسلاميون بجزء التنشئة، وأنا أشبّه ذلك بعملية تعلم القراءة والكتابة، فإتقانها فحسب لا يصنع مختصاً أو مثقفاً. وناقشت بعض الإخوة الكرام هنا في أوربة بجهد الشيخ أبي عبيدة، وتميزه في طرح المتمم لعملية التربية، أجاب بعضهم بقولـه: لا تنسَ أن لدينا، نحن المسلمين، شيئاً اسمه الوعظ، يتكفل بعملية التربية بالمتابعة،  فرددت قولهم بأن الوعظ أسلوب تربوي لا غبار عليه ولا يستغني عنه مسلم، لكن الوعظ يقوم أساساً على الترغيب والترهيب، وهذا يعني تربوياً تكوين الدافعية  لإثارة الدوافع، فينحصر دور الوعظ بالتحفيز، ولا يخفى على من عنده أي أنس بقضية التزكية أنه جزء يعنى برقي المسلم في درجات الكمال، لكن نفعه البنائي أضعف من تكوين شخصية إسلامية، وواقعنا المعاصر يعاني أزمةً بعد أن حُجبت شمس الشريعة، وانعدم وازعها السلطاني، فالمسلم المعاصر يتعرض لإرجاف وسيل من ابتذال الشهوات، مما لا عهد لسلفنا من قريب بكمه الكبير ، فيمس طائفهما فئاماً من المسلمين كثيرة، وهنا برأيي يأتي جهد الشيخ محمد عادل فارس بالتميز حيث فطن، أن التربية جزآن متكاملان: جزءُ تنشئة، وجزء متابعة، فكان رائداً بإفراد المتابعة، وهو أمر لم ألحظه عند غيره.

خامساً: نأى بقلمه عن النقول عن علماء غير مسلمين، ويحلو لبعض المهتمين بالتربية الإسلامية، زخرفةُ مقالاتهم أو كتبهم بنقول يظنون أنها حقائق علمية، ما تلبث أن يتخطاها العلم، أما الشيخ  أبو عبيدة- حفظه الله وأمتع به-

فيهتم بالمشكلة ويعالجها من نصوص الوحيين، ولا يحفل بما قاله مختص غربي أو شرقي، مع يقيني بسعة اطلاعه في كل ما يخص التربية، كأني به يريد القول: إن في ديننا الحنيف كل الحلول والمعالجات، وهو برهان على قناعة الشيخ العملية بتمام الشرع، وعلى الأخص في مجال الاعتقاد والتصور، وهو أساس كل عملية تربوية .

سادساً: المسافة بين المربي وتلامذته قديماً كانت ملغاة، فجُلّ علمائنا من المربين السابقين يحيط بهم طلابهم إحاطة السوار بالمعصم،  يقضون معهم سحابة يومهم، والآن زاد رتم الحياة سرعة، وأخذت المصالح تفرض بوناً قسرياً بين الشيوخ والتلاميذ، ومنّ المولى سبحانه، بوسيلة عصرية هي الشبكة العنكبوتية، ما استخدمها الدعاة إلا للتواصل البيني، وانجاز بعض الأعمال، أما أن تستخدم كوسيلة تربوية صرفة، فهذا ما لم أعلمه عن الشيوخ عدا الفتيا، أو إرسال محاضرة... لا يحكمها  انتظام.  وفضيلة الشيخ أبو عبيدة هو أول مربٍّ، فيما أعلم، يستخدمها بصورة مستمرة وفق منهج مدروس .

 سابعاً: التربية عموماً ليست قواعد يتم حفظها ومن ثَمّ تطبيقها، بل هي أشبه بمصدر القياس (المصدر التشريعي الرابع)، لأنها معنية بفكر وسلوك الإنسان المتغيرين  دائماً، هذا الفهم يوجب البحث عن العلة، ثم محاولة تطبيق قاعدة تربوية عامة، وحياة المسلم المعاصر مليء بالمستجدات ، مما يدفع المربي للكتابة والمتابعة بفترات متقاربة، وهو ما قصدته بعملية التربية بالمتابعة. وقد يحلو لمن يتابع الكتابات التربوية، دحض تميز الشيخ بالقول: ثمة بحوث جديدة تنشر بين حين وآخر. فأقول: من يقصد ذلك فاته التمعن بتلك البحوث الجديدة، فهي معالجات لأمور تربوية ارتقت إلى حد الظاهرة، فكان لزاماً على المربين الإسلاميين معالجتها، أما ما قصدته من التربية بالمتابعة فهو نفس المنهج الموضوع في جزء التربية التنشيئية، يعيد المربي طرحه وحشد أمثلة واقعية عليه، وهو عين مـا يفعله شيخنا الجليل أبـو عبيدة – حفظه الله- .

لقد أثلجتْ صدري والله، تلك الاستنتاجات، وقدحتْ في الذهن متابعةَ مدرسة بلاد الشام الدعوية وتميزها، فربما قدمت مدرسة إسلامية أخرى شيئاً مهماً من كتابة أو حركة، أو وهبها المولى داعية على مستوى الأمة، ونراها تمضي العقود من الزمان واقفة عند عتبة هذا الإنجاز، أما مدرستنا في بلاد الشام فهي  ولّادة، ونفعها ينداح أثره إلى الأمة بأسرها، و أنا عازم بإذن الله على تسليط الضوء على دعاة شاميين آخرين، من أتراب الشيخ أفنوا جل أعمارهم في سبيل عودة الشرع الحنيف، لأثبت تجدد عطاء مدرسة بلاد لشام وتميزها، وسأعمد لقراءات في مجهوداتهم بدلاً من تقعيد ملامح تلكم المدرسة، فالانتاج هوالدليل القاطع .

وما يفعله الشيخ الأستاذ محمد عادل فارس أبوعبيدة هو ليس إضافة حركية، وإنما منهج تربوي إسلامي يرتقي بمختلف مشارب الدعاة، فهو رائد التربية بالمتابعة بلا منازع كتابةً وسلوكاً، وإن أذن المولى،  فلي عودة أخرى لقراءة مقالاته وفقاً للنظريات التربوية الحديثة، ودوره في استنهاض الأمة، سواءً في حلبة ميدانه الشامية، أو فيما  يحاول صياغته من الأفكار لتكون نبراساً للمشتغلين بالعملية التربوية .