ومضات من تاريخنا الوطني المشرف
في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين حاولت الولايات المتحدة والدول الغربية جر منطقة الشرق الأوسط إلى أحلاف وتكتلات تهدف إلى جعل دول المنطقة مقيدة في سياستها العسكرية والسياسية، فأصدرت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا ما عرف بـ (الإعلان الثلاثي) في 25 أيار 1950، والذي جاء فيه: (إن هذه الدول تضمن معارضة استخدام القوة في فض النزاعات)، مؤكدة (أن الدول العربية وإسرائيل بحاجة ماسة للاحتفاظ بمستوى معين من القوات المسلحة لضمان الأمن الداخلي، وأن تسليح هذه القوات سيكون وفق ما تحتاج إليه للحفاظ على أمنها الداخلي، وتتكفل الدول الثلاث بتزويد الأطراف المعنية بالتصريح بالسلاح على أن تتعهد بان لا تستخدمه ضد أي دولة مجاورة). كما نص التصريح على (إقرار الحدود المشتركة الدولية بين الدول العربية وإسرائيل وعدم السماح بتغييرها بالقوة).
وتحديداً الدول العربية المجاورة للكيان الصهيوني، فمن خلال البنود التي جاء بها التصريح نجد أن الدول الغربية أوجدت حماية كافية للدولة العبرية، لأنه إذا ما وافقت الدول العربية على بنوده فإن الدول العربية ستتعامل مع الدولة العبرية كدولة جارة صديقة غير معادية، وبالتالي عدم التفكير في تحرير فلسطين والأجزاء العربية المحتلة، التي أقام الصهاينة كيانهم عليها بمؤامرة دولية شارك فيها الغرب والشرق. كما أن الدول الغربية من خلال التصريح تكون قد احتكرت تزويد الدول الموافقة عليه بالسلاح، وسيكون العرب وحدهم هم الخاسرون كون الدول الغربية هي من أوجدت الكيان الصهيوني وبالتالي فإنها ستزوده بالأسلحة التي تكفل له التفوق على كل ما يمكن تزويده للدول العربية، وبالتالي حرمان الدول العربية الموقعة على التصريح من التوجه إلى أسواق السلاح العالمية لتستورد ما تحتاج إليه. وتبقى النقطة الأهم في التصريح والتي تعزز وجود الكيان الصهيوني هي الاعتراف بحدود الدولة العبرية المغتصبة القائمة والتي تحددها الدولة العبرية ذاتها.
وفي 14 تموز 1950 اجتمعت الجمعية التأسيسية السورية لمناقشة الإعلان الثلاثي، فأعلنت الحكومة السورية عن رفضها الرسمي للإعلان، وألقى رئيس الوزراء السوري ناظم القدسي (4 حزيران1950) بيانا أشار فيه إلى أن: (الدول العربية ليست أقل حرصاً من غيرها على استقرار السلام في المنطقة، لكن تأمينه يقع على عاتقها وحدها (أي الدول العربية)، وأن ما تستورده من سلاح يستعمل لا في العدوان على أحد بل في سبيل الدفاع عن نفسها، وهي (تعتبر الإعلان الثلاثي بمثابة توزيع مناطق النفوذ في الشرق الأوسط، وهي ترفض أي تدخل أجنبي في مسائلها الداخلية). ورغم كل المغريات التي قدمتها الدول الغربية للدول العربية ومنها سورية للانضمام لهذا الإعلان أو الموافقة المبدئية عليه، إلا أن المواقف الرسمية والشعبية السورية كانت واضحة وأبدت معارضتها لهذا الإعلان.
وسعت الدول الغربية بعد إخفاقها في تمرير مشروع الإعلان الثلاثي، إلى يجاد مشروع جديد يربط المنطقة العربية سياسياً واقتصادياً بالغرب من خلال بث الدعاية المعادية للشيوعية والتي اتخذتها الدول الغربية وسيلة للضغط على الحكومات العربية بإظهار المخاطر المحتملة من امتداد النفوذ الشيوعي السوفيتي إليها.
فعرضت في 13 تشرين الأول 1951 مشروع (الدفاع عن الشرق الأوسط) رسمياً عندما سلمت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وتركيا مذكرة إلى حكومات مصر والسعودية وسورية والعراق ولبنان والأردن تضمنت الإعلان عن قيام (مشروع القيادة العليا للحلفاء في الشرق الأوسط) للدفاع عن دول المنطقة ضد أي عدوان خارجي محتمل.
وجاء الموقف السوري تجاه مشاريع الأحلاف الغربية واضحاً وضوح الشمس. فمنذ الإعلان عن المشروع من قبل الدول الغربية صرح فيضي الأتاسي وزير الخارجية السوري آنذاك قائلا: (إن اشتراكنا في نظام دفاع مشترك لن يكون إلا بوجود مصلحة وطنية حقيقية واضحة، ولقد بحثت عبثاً عن هذه المصلحة فلم أجدها، فالدفاع المشترك يفترض وجود عدو يقف في وجهه، ولكن بأية طريقة نحن مهددون؟ ومن هذا العدو الذي يهدف إليه هذا المشروع؟ أي سوء اقترفه هذا العدو في حقنا؟).
ولتمهيد الأمور لدخول سورية إلى الحلف، قام عدد من العسكريين الأمريكيين والبريطانيين بزيارة سورية لإقناع الحكومة بفكرة الحلف الجديد ومنافعه بالنسبة لسورية، فعمت موجة من المظاهرات والسخط الشعبي ضد هذه الزيارة. حيث دعت الجبهة الإسلامية الاشتراكية إلى سياسة الحياد الصارمة ضد المعسكرين (الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي سابقا)، وخرج الطلاب في مظاهرات احتجاجية في معظم المدن السورية، وقدم طلاب جامعة دمشق التماساً إلى رئيس الوزراء السوري حسن الحكيم يطلبون فيه منع العسكريين الغربيين من دخول سورية.
وأمام هذه المواقف الرافضة وغير المرحبة اضطر المبعوثين الغربيين إلى الإعلان بأنهم جاؤوا إلى سورية لإبلاغ الحكومة السورية بما يجري، ولم يطلبوا انضمام سورية إلى الحلف. إلا أن هذه التصريحات لم تهدئ الرأي العام في سورية، إذ قام آلاف المتظاهرين عقب صلاة الجمعة في دمشق يقودهم الشيخ محمد المبارك وزير الزراعة في حكومة رئيس الوزراء حسن الحكيم، شاركت فيها كل الأطياف السياسية والوطنية السورية بكل تنوعاتها، وأعلنوا عن تنديدهم بمشاريع الأحلاف الغربية، كما أن وزير الخارجية في حكومة الحكيم فيضي الأتاسي هاجم المقترحات الغربية في البرلمان السوري.
وفي 16 تشرين الثاني 1951 أعلن فارس الخوري (ممثل سورية في الأمم المتحدة) في قاعة الأمم المتحدة شجب حكومة بلاده لمقترحات الدول الغربية قائلا: (لعل الدول الغربية اهتدت بميثاق هيئة الأمم على ما يبدو لإنشاء حلف شمالي الأطلسي، أما قيادة الشرق الأوسط فليس هنالك ما يبررها في أي قانون أو ميثاق دولي).
وجراء الإصرار الشعبي والرسمي من قبل الشعب السوري والسياسيين السوريين الوطنيين المعارضين للمشروع وبسبب الانقسام داخل الحكومة اضطر حسن الحكيم للاستقالة، وشكل معروف ألدواليبي حكومة جديدة في (28 تشرين الثاني 1951)، وقد بدأها بالهجوم على المشروع، وجاء في كلمته لطرح الثقة بحكومته: (إذا أردنا الاهتمام بالأهم فيجب المبادرة بالقضاء على الخطر الصهيوني الذي ذاق منه العرب الأمرين، أما الخطر السوفيتي آنذاك فهو بعيد، فإذا كان هذا المشروع المعروض علينا لا يساعدنا على القضاء على إسرائيل، فأي فائدة يمكن أن نجنيها منه).
لم تيأس الدول الغربية من مواقف الشعب السوري وحكومته الوطنية الرافضة لكل ما قدمه الغرب من مغريات لجر سورية إلى فخ أحلافها، فراحت تبحث عن أسلوب جديد تستطيع به اقتناص سورية وجرها إلى منظومة أحلافها في منطقة الشرق الأوسط التي تؤمن سيطرتها على مقدرات الوطن العربي السياسية والاقتصادية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لذلك لجأت إلى البحث عن مشروع جديد يحقق لها ما تريد بعد فشل مشروعيها السابقين. فجاءت بفكرة إنشاء (منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط) والتي لا تختلف عن المشاريع السابقة. وكان الرفض السوري حازماً تجاه هذا المشروع أيضاً سواء على المستوى الشعبي أو المستوى الحكومي، وبالتالي أخفقت الولايات المتحدة والغرب في إقامة تحالف يربطها ويربط الغرب بالدول العربية التي تحازي الدولة العبرية المغتصبة لفلسطين، تحقيقاً لأمن وسلامة الدولة العبرية وديمومة بقائها.
وسوم: العدد 836