مفاهيم تربوية 21

الحادي والعشرون: التربية التي نريد

د. موسى الإبراهيم

[email protected]

إن التربية التي نريد الحديث عنها وتأصيل مفاهيمها وأسسها هي التربية الصالحة التي تحقق للإنسان السعادة والراحة والكرامة وتجعله إنساناً يبني ولا يهدم ويصلح ولا يفسد وينفع ولا يضر.

ومثل هذه التربية لن تكون ـ من منظرونا الإسلامي ـ إلا التربية الإسلامية تلك التي صنعت عبر التاريخ أجيالاً تحققت على أيديهم المثل العليا في واقع الحياة وبنوا للتاريخ أمجاداً وحضارة لم تشهد البشرية لها مثالاً من قبل. ولئن كانت التربية الإسلامية لا يتكلم عنها بصفحات وإنما تحتاج إلى دراسات متخصصة وشاملة فلا يمنع ذلك من أن نشير إلى عناوين رئيسة من سمات المنهج التربوي الإسلامي.

وسأكتفي في هذه المفاهيم التربوية بالإشارة إلى ثلاثة معالم للمنهج التربوي الإسلامي وهي: 

أولاً: الفطرية

التربية الإسلامية تربية فطرية تحيط بالإنسان من جميع جوانبه وتحفه وترتقي به نحو الكمال، مهتدية بتوجيهات ربانية من خالق هذا الإنسان الذي يعلم كنه نفسه وفيض مشاعره ووجدانه وميوله وأحاسيسه الخفية {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها. إنها مطالب الروح والعقل والجسد التي تحققها التربية الإسلامية بتوازن عجيب يحفظ للإنسان كيانه ويجعله متوازناً بعيداً عن القلق والتمزق والحيرة والضياع.

الثاني: التوازن والتكامل

التربية الإسلامية متوازنة ومتكاملة وأوضح ذلك بثلاثة أمثلة:

1- التوازن بين الدنيا والآخرة.

فالمسلم لا يهمل دنياه ويتذرع بالتعلق بالآخرة فهذا عجز وسلبية كما أنه لا يهمل آخرته ويهيم على وجهه بين الشهوات فهذا سقوط وإسفاف وانظر إلى التصوير القرآني البديع لهذا المعنى قال الله تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة}.

وقال تعالى: {وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}.

2- التوازن بين الثوابت والمتغيرات.

إن في التصور الإسلامي العام ثوابت لا تقبل التغيير كأصول العقائد والشرائع وأمهات الدين. وفيه جوانب كثيرة قابلة للتغيير بحسب الأعراف والأزمنة والأمكنة والأشخاص.

والتربية الإسلامية تلاحظ ذلك كله وتراعيه أثناء تربية الإنسان وتوجيهه، مما يجعل الخيارات واسعة ومتعددة أمام المربين المسلمين ضمن الساحة الإسلامية الواسعة وينتج عن ذلك استقامة النفس البشرية واعتدالها وتوازنها وفهمها لجميع ما حولها من قيم ومثل ومؤثرات.

3- التوازن بين الأصالة والتجديد.

الأساس في موازين التربية الإسلامية أنها تربية أصيلة نابعة من المنهج الإسلامي الكتاب والسنة والبيئة الإسلامية. غير أن هذه الأصالة لا تعني رفض التجديد والإبداع الحضاري، ولا تعني الجمود على قيم ومعان معينة. بل إن التربية الإسلامية منفتحة ومتسامحة تقبل الخير أياً كان مصدره، وتحترم القيم الفاضلة أياً كان منبعها، وتتقبل التجديد النافع الذي لا يتعارض مع موازين الإسلام وأصوله بغض النظر عن هويته، فالحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق الناس بها. وقد أثنى رسول الله % على حلف الفضول ـ لنصرة المظلوم ـ وهو حلف جاهلي، وأخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببعض النظم الإدارية الفارسية كالديوان وتنظيم الجيوش وغير ذلك.

ولا حرج أن نأخذ اليوم ـ وكل يوم ـ الجديد المفيد من الآخرين ولكن ضمن التمحيص والموازين الإسلامية فلا ننبهر بما عند غيرنا ولا نرفضه بإطلاق. وهذه سيرتنا في بناء حضارتنا الإسلامية قديماً وحديثاً.

الثالث: الواقعية

التربية الإسلامية واقعية لا تعيش في فراغ ولا تحلق في خيال وأوضح ذلك بمثالين:

1- الإنسان في منظور التربية الإسلامية:

ينظر الإسلام إلى الإنسان على انه بشر ليس ملاكاً ولا شيطاناً فهو يخطئ ويصيب ويذنب ويتوب ويعلو ويهبط، ولو أردنا من الإنسان أن يكون ملاكاً وحاسبناه على ذلك لخسرناه ولألغينا دوره في الحياة.

ولو نظرنا إليه على أنه شيطان متمرد لخسرناه كذلك. فالاعتدال مطلوب دائماً.

2- مراعاة الفوارق الفردية.

فالتربية الإسلامية تراعي في الإنسان الفوارق الفردية وتلاحظ الاختلاف في الطاقات والمواهب والاستعدادات بين الناس. وبالتالي فليس مطلوباً من الناس أن يكونوا على مستو واحد بل كل ميسر لما خُلق له مع الحفاظ على الحد الأدنى من القيم والمثل والسلوك الإسلامي، ويبقى التدرج في مقامات الكمال مشرعاً ومفتوحاً لأصحاب الهمم العالية المحلقة وبلا حدود والكمال لله وحده.

وإلا فهل يمكن أن يكون الناس جميعاً قادة ومفكرين وعباقرة؟ أو متعلمون ومثقفون؟ وهل نطالب الناس جميعاً بمستوى واحد من المسؤولية والتكليف؟

إن التربية الإسلامية واقعية ولذلك استطاعت أن تنهض بالأمة كلها، وتأخذ من كل إنسان طاقته وتوجهها للبناء المناسب.

فهل يعي المثقفون والمربون اليوم خصائص التربية الإسلامية وينشّئوا الأجيال عليها من جديد ليعود لهذه الأمة دورها الريادي العالمي؟ نسأل الله تعالى ذلك.