أصول لا تمت إلى الأصول

أبو عمر

شغلت قضية انتماء الشاعر الكبير المتنبي الكثير من الباحثين

والأدباء و النقاد .....

فمنهم من نسبه إلى بلاد فارس , و منهم من اكتفى بالغمز في نسبه , و منهم من جعله قرمطيًا و أدخل أمه أباه إلى معسكرهم بالكوفة ,

 وجعل المتنبي يعيش في كنف جدته التي عدلت به بعيدًا عما شاهداه في المعسكر , و كان هذا سبب رثائه لها , إغفاله لذكر والديه

 وقوله فيها :

و لو لم تكوني بنت أكرم والد        لكان أباك الضخم كونك لي أما

وكذلك جعلوا والده سقّاءً في الكوفة رغم أنّ المتنبي قد درس في إحدى المدارس التي كان يدرس بها أبناء علية القوم .

و آخرون نسبوه إلى كندة القبيلة العربية , و الحمد لله أنهم لم يقفوا عند جده المفترض عمرو بن معاوية لما قيل بأنه سمي كندة لأنه كند أباه أي عقّه و كفر نعمته , و لو تنبهوا لقالوا الكثير في عقوق المتنبي وأنفته و عزته  وكبريائه .....

و موضوع التشكيك في الأنساب له أصول عميقة في تاريخينا العربي يشهد على ذلك جمهرات  الأنساب و ما فيها , و كتب التاريخ و ما تضمه و تخفيه ، ولعلّ عام 334ه كان المفصل الأهم في هذا الموضوع حين جعل معز الدولة البويهي اليزدجردي نسبه و حسبه (سيفه و ذهبه ) و لعل عيون الأمة فقدت نورها لحظة إلقاء هذا المذل للخليفة المستكفي في سرداب بعد أن سمل عينيه و قال جملته الشهيرة : أطعموه كالكلب , و لعل الأنساب قد اكتفت بما لقي المستكفي .

و إلى مرحلة قريبة كنت أرى ما يراه كثير من الباحثين أن تميّز

وتفرد و نبوغ و إبداع و شاعرية المتنبي كانت وراء هذه الاتهامات حسداً من عند أنفس الحاسدين , و لا غرابة فكل المبدعين تعرضوا لمثل ما تعرض له المتنبي و لا سيما في وطننا ( المحب للإبداع بلا أنانية؟!! ) ولكن الأمر ليس كذلك , فانتماء المتنبي فيه شكوك كبيرة، و يبدو لي أن النقاد الذين سبقونا كانوا يعملون بالمثل القائل : ليس كل ما يُعرف يقال ، بأسلوب يختلف عن أسلوبنا ؟!! و قد

 قادني إلى ذلك أعني الشك هو قول المتنبي :

وإني  لمن  قوم   كأن  نفوسنا         بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

فلا عبرتْ بي ساعة لا تعزني         ولا  صحبتني مهجة تقبل الظلما

فليس هذا القول مما ينطبق على العرب لما فيه من أنفة وعزة نفس وكرامة وكراهية للذل والظلم .

وعليه كان المتنبي صريحاً في انتمائه حين يقول :

ما مقامي بأرض نخلة ٍ إلا         كمقام  المسيح  بين  اليهود

أنا  في  أمة  تداركها  الل         هُ  غريبٌ كصالحٍ في ثمود

فقالوا إنه يدَّعي النبوة ، رغم أنه صريحٌ في تحديد انتمائه بأنه غريب لا يمت لهذه الأمة بصلة ، ولو بقي المتنبي على قوله في وصف العرب :

من يهن يسهل الهوان عليه        ما لجرح بميّت إيلامُ

لقلنا إنه عربي لأن هذا القول ينطبق على العرب ، لكن الرجل نفى ذلك وأكد حالة الانفصام عن المكان الذي يعيش به .

وربما يكون موقف المتنبي من الأعاجم هو الباعث لبعض الباحثين للتقرير بأنه عربي قح بل إن لديه  شعوراً عالياً بالعروبة ، وإلاّ كيف يقول :

وإنما  الناس بالملوك وما         تفلح عرْبٌ ملوكها عجمُ

لا أدب عندهم ولا حسبُ         ولا  عهودُ  لهم ولا ذممُ

والذي زاد الطين  بِلَّة أن الرواة أكدوا أن المتنبي كان يحرّض سيف الدولة للقضاء على البويهيين ، وأن طمعه بالسلطة كان لإقامة دولة عربية قوية تعيد للعرب عزهم وأن مدحه لسيف الدولة هو من باب البحث عن (القائد المثال) ، وأن قبوله الذهاب إلى كافور كان تحت خداع عماله في الشام بمنحه ولاية جبل لبنان ، ولكنه حين وقف أمامه لم يستطع أن يخفي مشاعره، فشبه هذا اللقاء بالموت حين قال:

 كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا          *  وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا

لا بل إن بعضهم تحدى أن يثار أدنى شك حول نسب المتنبي، لقوله في شعب بوان:

ولكن الفتى العربيَّ فيها        غريب الوجه واليد واللسانِ*

بيد أن المعروف عن العرب حب التفاخر بالأنساب ، وكندة من أرفع قبائل العرب شرفاً فلماذا يقول المتنبي :

لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي        وبنفسي فخرتُ لا بجدوي

أليس هذا مما يدعو للعجب ، ثم ماذا نقول عن قوله:

ودهرٌ ناسه ناسُ صغارٌ        وإن كانت لهم جثث ضخامُ

وحتى لا نعقد الأمور نظن أن الجواب في قوله :

وإذا كانت النفوس كباراً          تعبت في مرادها الأجسامُ

لكن الثابت أن قاتل المتنبي عربي، ومن اسمه يستدل على عروبته ومن طريقة قتله للمتنبي والمكان الذي قتل فيه نتعرف على انتمائه، فاسمه (فاتك) ، وأبوه (الجهل)، ولا يهم بعد ذلك أن يكون من بني أسد أو من حمير مادام المكان هو العراق .

وكان ثابت بن هارون صريحاً في رثائه للمتنبي بقوله:

الدهر أخبث والليالي أنكدُ          من أن تعيش لأهلها يا أحمدُ

ولعل المتنبي شعر بما ينتظره فقال في آخر قصيدة له :

فدىً لك منْ يقصِّر عن مداكا         فلا ملك إذاً إلا فداكا

ولعلنا جميعاً حائرون في صحة انتماء المتنبي فنذكرّ أنفسنا بقوله :

كدعواك كل يدّعي صحة العقل         ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهلٍ

وفي رثاء أبي القاسم مظفر بن علي الطبسي إجابة لنا جميعاً:

لا رعى اللهُ سربَ هذا iiالزمان
مـا  رأى الناسُ ثانيَ iiالمتنبي
كان من نفسه الكبيرةِ في جيشٍ
هـو  فـي شـعره نبيٌّ iiولكنْ



إذ  دهـانا في مثل ذاك اللسانِ
أيُّ ثـان ٍ يـرى لبكر iiالزمان
وفـي  كـبـرياء ذي iiسلطان
ظـهرتْ معجزاتُه في iiالمعاني

فهل نستطيع الآن أن نقول استناداً إلى كل ما تقدم : إن المتنبي من قبيلة اسمها ( الكرامة العربية ) وهي من القبائل البائدة مثل طسم وجديس ، ولم يأتِ الباحثون على ذكرها لأمر ما لا يُصرح به حتى لا يُحرج الناس في أصولهم.