عن الحوار بين الحضارات والأديان والثقافات

عن الحوار بين الحضارات والأديان والثقافات

كبريال حبيب*

فيننا، فرجينيا ، الولايات المتحدة الأميركية

أود أولاً أن أقول لكم انني لست خبيراً في قضايا الحضارات والاديان والثقافات المعروفة. ان الامور التي اعرفها هي ما اقتبست فقط من خبرتي للحركة المسكونية في الشرق الأوسط. لذلك ارجو ان تساعدوني على توضيح هذه القضايا واهمية الحوار حولها.

ماذا عن الحضارات؟

عالمياً:  يبدو ان هناك تفاعلاً بين الحضارة والدين والثقافة، مما يجعلني اعتقد انه من الصعب التفرقة بينها وبحثها كلاً على حدة. كما يجعلني ذلك اعتقد انه من الطبيعي التقليل من اهمية فكرة الصراع بين الحضارات التي اطلقها السيد صاميوءل هنتنجتون في كتابه المشهور عن صراع الحضارات. وذلك بسبب اكتشافي الامرين التاليين:

1.  ان الظواهر الحضارية الحالية تبدو انها تتفاعل او تتكامل مع التي حصلت في الماضي. هذا  ما  تشير إليه الاديان السماوية بقبولها ان اله ابراهيم هو ذاته امس واليوم وغداً.

2.  ان لا حضارة قامت في التاريخ دون ان تكون قد تغذت من حضارات اخرى. الحضارة المشرقية مثلاً هي نتيجة التفاعل بين حضارات الصين واندونيسيا وبلاد فارس والعربية والاسلامية وغيرها.

في الشرق الأوسط:  اريد هنا ان اركز على مسألة علاقة ما يسمى بالحضارة الغربية مع العالم العربي والاسلامي واذكركم بالامرين التاليين:

1.  ان النهضة في الغرب لم تنشأ من الفراغ ولم تحصل فجأة من لا شيء دون التواصل بشكل مباشر مع حضارات سبقتها، كالحضارة العربية والاسلامية التي اقتبس منها الغرب ايام الاندلس. ان ما اخذه الغرب من العرب لم يكن فقط مجرد اعمال مترجمة بل ايضاً اعمالاً مشروحة ومضافة إلى ما كان عنده.

2.  كان الشرق الأوسط دائماً بسبب وضعه الجغرافي مزيجاً من الاعراف والحضارات والاديان والثقافات، مما جعل الناس يعيشون في هذه المنطقة اليوم نتائج ومظاهر الحضارة العربية المعاصرة، وفي الوقت ذاته ما جعلهم يعيشون القيم الحضارية والدينية الماضية التي مازالوا يقدرونها مثل الامور التالية:

أ.  الإنسان هو ذات هوية وطنية او قومية وفي الوقت ذاته دينية.

ب.  الانسان ليس فرداً مستقلاً بل هو ايضاً ذو هوية جماعية. كانت الجماعة في الماضي      تسمى القبيلة، وتسمى اليوم العائلة، اوعند اليهود "شعب اللّه المختار"، وعند المسيحيين "الكنيسة"،  و"الامة" عند المسلمين.

ج.   الماضي مهم، وليس فقط الحاضر والمستقبل، كما هو الحال في الحضارة الأميركية.

الحوار المطلوب يعني رفض الصراع والتقاتل بين ما يسمى بالحضارات ولا سيما بين الحضارة الغربية الممثلة بأوروبة والولايات المتحدة ،وما يسمى بالحضارة العربية او الاسلامية. وبالتالي فإن اقامة الحوار بين هاتين الحضارتين يهدف إلى احياء التفاعل والتفاهم بينهما من أجل السلام في الشرق الاوسط وفي العالم اجمع.

ماذا عن الإديان؟

عالمياً: يبدو لي انه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبروز فكرة "النظام العالمي الجديد"  ً  The New World Order، تهمشت بصورة عامة الايديولوجيات المادية والعلمانية، واصبح الناس يعودون إلى الهوية الدينية التي كانت الايديولوجيات المعاصرة قد تخطتها. و نتيجة لذلك اصبح الدين مصدر القوة السياسية والعنف. ففي الغرب تزايد العنف ضد أديان العالم الثالث، ولا سيما الاسلام. وفي الشرق الاسلامي تزايد ايضاً عنف الاسلام المتطرفين كردة فعل ضد الغرب المتمثل اليوم بامريكا التي اصبحت تفرض ذاتها كحضارة مثالية، وذلك على الاسس التالية: - مبدأ فصل الدين عن الدولة - مثالية الديمقراطية الغربية - منافع المجتمع الاستهلاكي - وأهمية تدويل السوق الحرة.

في الشرق الاوسط: إن أسرائيل الصهيونية قد استغلت الوضع العالمي واصبحت كدولة يهودية تعمل على تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات دينية وعرقية من اجل تبرير ذاتها. هذا ما حاول رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، ان يفعله في لبنان في الثمانينات، وما يحصل اليوم في العراق، استغلالاً او تأييداً لتصرف الولايات المتحدة في المنطقة العربية.

 من جهة اخرى وبسبب تعدي الغرب، ولاسيما امريكا، على الشرق العربي والاسلام، ازدادت قوة التيار الاسلامي المتعصب والمتطرف، فصار من جهة، يسمح للقوى الكبرى ان تستغله من اجل تحقيق اهدافها، ومن جهة أخرى اصبح هو ايضاً يستغل القوى السياسية بهدف تحقيق اهدافه الدينية المتطرفة، وذلك بواسطة استعمال العنف او قتل "الآخر" باسم اللّه، ناسياً محبة الآخرين التي دعا اليها الرسول محمد، وغير مهتمٍ بمعارضة اكثرية المسلمين ضدّ التيار المتطرف والعنفي. يمكن أن نذكر هنا أن العرب قد سبقوا الغرب في مسألة فصل الزمن عن الروح، لكن الغرب قد ترجم ذلك إلى مبدأ فصل الدين عن الدولة، مما يُسمي "بالعلمنة". اما عند عرب اليوم فان تطبيق "العلمنة" غير كامل، مما يدعو إلى "الإجتهاد" عن الإسلام لتوضيح علاقة الدين بالدولة.

من جهة المسيحيين، اصبح ما يسمى بالمسيحية "الانجيلية المحافظة" او "المسيحية الصهيونية" في امريكا يدعو إلى الايمان بان اسرائيل هي محقِّقة النبؤات، وهي طريق عودة الملكوت السماوي. كما اصبح هذا التيار المحافظ يعتبر ان امريكا هي اليوم الامبراطورية المسيحية الجديدة. كل ذلك يقود ايضاً إلى العنف الذي ترفضه وترفض اسبابه اكثر الكنائس المسيحية في اميركا وفي المشرق العربي. لسوء الحظ، ان ما ذكرته عن تصرف الاديان والسياسات في الشرق الأوسط قد ادى إلى القيم غير الابراهمية التالية: - تثبيت الحق بالقوة - القبول بالواقع -  قتل الآخر بدل الحوار معه.

الحوار : هناك حوارات كثيرة تقوم اليوم في الغرب بين المسيحية واليهودية، وبين المسيحية والاسلام في الشرق الأوسط، حيث إن الحوار بين الإسلام واليهودية مازال صعباً، بسبب الحرب بين اسرائيل  والعرب. على كل حال ان الحوارات القائمة بين الاديان المعنية في الغرب وفي الشرق الأوسط إنما تقوم بهدف تبادل الاراء وليس لاقناع الآخر، وذلك على اساس ان الحقيقة الالهية والانسانية هي جامعة.

1- عالمياً، يمكنني ان اذكركم باقتراح الحوار الذي تضمنته الرسالة التي وجهها عدد كبير من المسلمين إلى القيادات المسيحية بتاريخ 13 تشرين الاول 2008، داعين إلى "ما هو مشترك بيننا " ومركزة على الامور التالية: - حب اللّه -  حب الآخر او الجار- السعي إلى عالم سواء - والإيمان بأن القلب هو الدافع.

اتخذت هذه الرسالة علامة رجاء، وسيقام اجتماع تحضيري في الفاتيكان للقاء مسيحي/ اسلامي واسع يعقد في نيسان 2008.

2- في الشرق الاوسط، عقد في الازهر في آذار 2006 لقاء حوار بين المنتدى الاسلامي ومجلس كنائس الشرق الاوسط، وكان موضوع الحوار: " الدين وحقوق الإنسان وواجباته". ونوه المؤتمر بفكرة أن الاسلام واليهودية والمسيحية اديانٌ ابراهيمية متكاملة،  وان المنطقة هي ارض  الرسالات السماوية، وارضُِِ الثروات الطبيعية والموقعِ الجغرافي الهام. فعلى شعبها ان يساعد العالم على ايجاد الحوار بين هذه الأديان الثلاثة من اجل السلام بين الحضارات والاديان والثقافات.

وفي البيان المشترك، شدد المجتمعون على أمور كثيرة منها:

أ. ان الايمان بحياة الانسان وكرامته هو هدية من اللّه تعالى.

ب. التأكيد أن الواجبات أساس تقرير الحقوق، إذ لا حقوق بدون واجبات، فهما متلازمان. هناك   حقوق انسانية ولكن هناك ايضاً واجبات.

 د. المرأة والرجل شريكان في الحقوق والواجبات على اساس المساواة والتكامل بينهما.

هـ . الاعتماد على ميثاق الامم المتحدة والاتفاقيات المتصلة به .

 و . التأكيد على حق الشعوب بمقاومة الاحتلال الاجنبي.

هناك حوارات أخرى تحصل ايضاً في العالم العربي بواسطة مجلس كنائس الشرق الاوسط وهيئات    دينية آخرى. ان هذه المحاولات تهدف بصورة خاصة إلى الامور التالية:

أ. مساعدة الاديان التوحيدية على التحرر من عقد الماضي مثل اللاسامية ضد اليهود، وعقدة العنف         الصليبي ضد المسيحية، وعقدة الاسلام هو دين العنف ضد المسلمين.

بـ. مساعدة الاديان التوحيدية على اكتشاف قيم روحية مشتركة تفرض مساعدة الفقير واللاجىء، كما تدعو المؤمنين إلى اتمام الحرية والمساواة بين البشر، بصرف النظر عن عرقهم ودينهم   وثقافتهم، وإلى العدالة والسلام في العالم.

ماذا عن الثقافة:

في الشرق الأوسط يعيش الناس نوعاً من الازدواجية الثقافية، وذلك بين ظواهر "العلمنة" الآتية من الغرب والظواهر الناتجة عن الدين او عن الحضارة القديمة. وتظهر الازدواجية الثقافية  اليوم في الأمور التالية: 

أ- استعمال التكنولوجيا وفي الوقت نفسه محاولة تخطيها وفق القيم الدينيّة التي ما زالت مهمة في  الشرع والدين.

ب. اللباس الخارجي على الطريقة الغربية عند البعض وعلى الطريقة القديمة عند البعض الآخر.

ج. الإتكال على القوة البشرية دون اللّه.

 د. التوجه بالواقعية  بدل المثالية .

هـ.التصرف إقتصادياً حسب المتطلبات "الإستهلاكية" على الطريقة الغربية، ولاسيما الأميركية.      

الحوار المطلوب في هذا المجال هو محاولة التفاهم بين البشر المنتمين لثقافات مختلفة بهدف التوصل إلى التفاعل بين ثقافاتهم المختلفة دينياً أو انسانيا، والإغناء المتبادل بهدف تثبيت الوحدة الإنسانية.

الخلاصة

بالنهاية اعتقد ان هدفنا المنشود هو المساعدة على تعميم الحوار بهدف تحقيق السلام بين البشر بصرف النظر عن خصوصية اديانهم وثقافاتهم وحضاراتهم، وذلك من أجل تفادي التصادم والعنف بينهم ومساعدتهم على إغناء بعضهم البعض دينياً وثقافياً وحضارياً بهدف التوصل إلى قيم روحية  وأدبية مشتركة، ذلك يجعلني اشكر "مركز الحوار" في واشنطن، الذي نحن فيه اليوم وغداً، والذي اعتقد انه يساعد على تعميم الحوار المطلوب، وان له اهمية كبرى في زمن تفتته الصراعات والحروب الجارية حالياً. من أهم القضايا على هذا الصعيد هي الآن منع الصراعات بين الأديان والمناهج الحضارية القائمة، وتشجيع العمل من أجل السلام في العالم، وضمان الوحدة الإنسانية بالرغم من الفوارق الحضارية والدينيّة والحضارية والعرقية. هذا يعني انه يجب ان نشدد على احترام الخصوصية الدينيّة أو الثقافية أو الحضارية، وفي الوقت ذاته يجب ان نسعى إلى التفاعل الإيجابي مع الحضارات والثقافات والأديان الأخرى.

               

*كبريال حبيب: الأمين العام السابق لمجلس كنائس الشرق الأوسط

** ندوة في "مركز الحوار العربي" مع الأستاذ غبريال حبيب/الأمين العام السابق لمجلس كنائس الشرق الأوسط، والأستاذ يحيى الهندي/الإمام في جامعة جورجتاون، حول: "خلاصات من تجارب حوار بين ثقافات وأديان وحضارات" - الأربعاء 30 كانون الثاني/يناير 2008 –

تتأكد أهمية تجربة "مركز الحوار" وفوائدها العديدة من خلال تشجيع أسلوب الحوار بين العرب من جهة وبين العرب والمجتمع الأميركي من جهة أخرى، وذلك عبر أنشطة (باللغتين العربية والإنجليزية) ومطبوعات دورية ونشرات إلكترونية على الإنترنت، إضافة إلى ندوات أسبوعية بلغ عددها  أكثر من 700 ندوة حتى الآن (منذ تأسيس المركز في العام 1994)، شملت ميادين الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والعلاقات العربية الأميركية.