عذرا رسول الله
د.صالحة رحوتي
[email protected]
و يكثر اللغط آتيا من كل الأصقاع من المسلمين المرة تلو المرة حين يهان سيد البشر
صلى الله عليه و سلم، و ما تلبث تلك الأصوات أن تلين حتى تغفو و تستكين، و يُتفرغ
لصياح من نوع آخر ما يتخلي عنه حتى حين ذاك اللغط ...سباب و شتم و تقريع للغير...و
تناوش بين الأشقاء في الدين و في الأرومة أو حتى تناحر و تصارع و اقتتال...
مسلسل إهانات لديننا من الغرب، حلقات متواترة و توهن منا القوى، ونحن الواهنون
الضعفاء أصلا ما فعلنا سوى أن اصطرخنا منددين شاجبين حتى بحت منا الحناجر المرات
الأُوَل ،ثم ما عادت حتى الأصوات ترغب في الارتفاع كما السابق الآن،إذ هي شذرات
همهمة و مرشحة للخفوت مع مرور الوقت و تطبيع الإهانة بتناسل الحلقات ...
و يبدو أنهم درسونا و فهموا خبايانا و استبطنوا دواخلنا كما العادة،و فهموا أن حتى
تلكم الأصوات ما هي إلا المزيفة النبرات، و لا تعكس حبا للمُهان و لا غضبة له،بل هي
المزيفة المشحونة بالنفاق، أو حتى في أحسن الحالات بالازدواجية و بسوء الفهم و
بالضبابية حد النخاع.
أدركوا حقيقة إيماننا بدين الحق فتطاولوا مستهترين بذلك الضجيج و تلك الجعجعة
المنبثقَيْن عنا، تمادوا و أصروا...فتنادينا متصايحين، رمنا التصدي للتمادي منهم
...و كذا أوجدنا لهم المهزلة و المسخرة يتلهون بها كلما بدا لهم الجو كئيب، و
أرادوا النحو إلى التفكه و الترويح عن النفس...
هي الحقيقة ساطعة ـ كما فهموا ـ أن العواطف كاذبة في الأغلب الساحق تلك التي تُطلق
منا الحناجر غضبا لرسول الله صلى الله عليه و سلم،و لذا فهي المنتجة لنقع كاذب
عرفوا كنهه،فما يفتأ أن يندثر و صدى المهانة ما زال لم يَنقَضِِ بعد و لم تختف
آثاره.
يجاهرون بازدراء الرسول الأكرم متجاهلين رد الفعل السخيفة منا،و ما يفعلون إلا وهم
المستيقنون بأنهم ما ينتقصون إلا من قدر رجل يستحق الازدراء ـ و حاشاه ـ لأنه في
نظرهم ذاك الذي بعث إلى بدو همج فما غَيَّر من حالهم شيئا، كانوا كذلك في سابق
عهدهم و ما يزالون، تخلف و تفاهة و سوء في الحال وفي المآل...
و أعتقد أنه لا بد من التوقف عند هذه النقطة بالذات و التفكر حولها،إذ أو كنا نحن
سنحترم هذا النبي الخاتم صلوات الله و سلامه عليه لو كنا غير المسلمين، و كنا نرى و
حتى نعايش ما ينبثق من المسلمين من سلوكيات و ما يرتكبونه من مهاترات و انحرافات؟؟؟
تمطرهم وسائل الإعلام بصور التردي منا بادية، و بالكلمات عنا مجلجلة معبرة عن كل
مشين من الأفعال و الأقوال...
فهل هنالك ما يدفعهم إلى احترامنا و يدعوهم إلى نبذ احتقارنا، و كذا كل الرموز
الدالة علينا و المتعلقة بنا؟
يعاينون أحوالنا في بلداننا حين زيارتها، و يطلعون على أحوال من استوطن بلادهم من
بني جلدتنا، فما يرون إلا قمة البعد عن الحضارة و عن أبعادها،
فما من تصرفات تُرضي و ما من مظاهر عيش تقر بها العين.
حتى النظافة التي هي أكثر ما حث عليها النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم سواء في
الجسد أو في اللباس أو في البيوت أو في الطرقات ـ إذ جعل إماطة الأذى صدقة و من شعب
الإيمان ـ ما لنا من حظ فيها، إذ نكتفي في هذا المجال بإبداء الإعجاب حين نرى
فضاءاتهم النظيفة و مدنهم الجميلة الرائعة.
و في موسم الحج ذلك المؤتمر الإسلامي الذي يجتمع فيه فلول المسلمين من كل فج عميق،
تتبدى الحاجة مدقعة إلى مجرد استيعاب مفهوم النظافة بله تجاوز ذلك إلى تطبيق
مبادئها.
هو الجهل عميق بالوشائج تربط بين الوضوء و الغسل و نظافة الثوب و طهارة المكان في
الصلاة ،و بين نظافة البيئة و إلزامية الاحتفاظ بالقمامة و رميها في الأماكن
المخصصة لها ،فحتى في أطهر البقاع مساحات المسجد الحرام و تلك للمسجد النبوي تُرى
أكوام الزبالة و فضلات الطعام ملقاة متناثرة هنا و هناك.
و لقد فكرت مليا و عميقا مرات و أنا في منى، و تحيط بي تلال القاذورات و الزخم من
الروائح الكريهة حول شعور المعتنقين حديثا للإسلام من الأوروبيين الذين يأتون
لأداء فريضة الحج،و تساءلت إن كان لا يعتورهم الإحساس بأنهم أساؤوا الاختيار للدين
المتبع حين حشروا أنفسهم بين أولائك القوم البدائيين المتسخين المتخلفين.
إذ لا بد لهم من معرفة عميقة للفرق بين الإسلام كدين و منهج حياة و بين من يسمون
أنفسهم المسلمين حتى يَثْبُتوا،و حتى لا يدعوهم ما يرونه في "أتباع" محمد صلى الله
عليه و سلم من ترد و انحطاط إلى إعادة النظر حول توجههم الديني و العقدي الجديد.
فلقد ابتعدنا في كل الميادين عن المحجة البيضاء رسمهما لنا الرسول الخاتم صلى الله
عليه و سلم،ذاك الذي هو أكرم من أن نتصدى نحن الحثالة المنحرفون عن الصراط المستقيم
للدفاع الغوغائي عنه.
فلقد نصره الله و أيده،و اعلتى به محبوه و ناصروه حقيقة آنذاك في زمن سابق، و
ارتقوا بإتباعه في سماء الرفعة ،فما كان يستطيع أحد ممن عاصروهم من سائر الأمم أن
يدوسوا لهم كرامة ولا أن يطأطئوا لهم جباها.
لكن و نحن... أو نصرناه؟ و هل كرمناه و مجدناه ؟
أم هي الجعجعة حول حب له و لا دليل و لا برهان؟
احتقرناه و تعالينا على الإقتداء به،نبذنا ما جاءنا به من مكارم الأخلاق و من نبل
المعاملات، و رمنا الاعتداد بأنفسنا و بأهواءنا فهوينا في قعر التردي آسن سحيق ...
ثم و نتجرأ و نواجه الغرب لنحدثهم عن مناقبه صلى الله عليه و سلم، و عن صفاته و عن
سمو شخصه و نحن المندحرون أخلاقا و الغارقون في أتون الضياع و حمأة التيه و غور
الضلال...
تقاتل و تصارع و تخلف و عهر و فساد ...و انحرافات شتى اشتسرت منها النيران فأتت على
الأخضر و اليابس حوالينا، و نتبجح بأننا ننتسب إلى الملة التي بشر بشرائعها ذلك
الرحمة للعالمين صلى الله عليه و سلم،أ فلا نُثبت حين نفعل هذا بأنه المستحق ـ
حاشاه ـ للاحتقار و للامتهان؟؟؟
إذ المُتِّبع على شاكلة المُتبَع منطقا، و المُقتدِي على هيئة المُقتدَى به عقلا...
و لذا فحين السب و الشتم و التحقير لنا و لنبينا مم الشكوى؟و لماذا الضجة؟
أما لنا أبعاد الحثالة و نوحي بتدني و وضاعة المرسل إلينا حاشاه؟
و أما علينا وسم الإمعات، و نبدي عدم نجاعة و حتى تفاهة ما لدينا من شرائع جاءت بها
رسالة سيد الأنبياء؟؟؟
ثم و الغربيون رأوا للهيمنة لهم و للسمو طالهم أنهم من يملكون أن يُسطروا بنود
قوانين التعامل بيننا و بينهم، يرون أنفسهم المتحضرين و لهم أن يستخفوا بالمتخلفين
الماجنين المتهتكين المتردين كمثلنا،من لا يعرفون لهم وجهة و لا رسم هوية ينتحلونها
تعينهم على النأي بأنفسهم من الذوبان أذلاء تابعين منذلقين...
هم الأحرار ـ كما قرروا ـ في أن يفعلوا و يقولوا ما يريدون،لهم الغلبة استحقوها
بالاعتداد بهويتهم و بالعمل الدؤوب من أجل الرقي بمجتمعاتهم،و بالتالي لهم الحق في
أن يملوا و يأمروا و يتصرفوا كيفما يشاءون، وعلينا أن نسمع و أن نطيع و نستكين.
إذ و هم سادة العالم المستكبرون أو هنالك من يملك أن يمنعهم؟؟؟؟
ثم أو صدقنا أن هنالك من إنسانية و من أممية و من توجهات إيديولوجية شتى يمكن أن
تقف بينهم و بين الاستعلاء علينا و من احتقارنا؟
و أو طمعنا في تفعيل تطبيق شرائع دولية يمكن أن يُحتكم إليها و تنصفنا حين يساء من
طرفهم إلينا ؟؟؟
سذج نحن و بسطاء الفكر ،إذ هي شريعة الغاب ما يطبقه الغالب تجاه المخالف في الفكر و
العقيدة المغلوب...
فلا بد من الإقرار إذا بأننا نحن الذين تسببنا في الإساءة إلى رسول الله حين وضعنا
أنفسنا في مؤخرة الركب تائهين ،أسأنا إليه أكثر منهم، إذ جعلنا منه من يستحق اللمز
و اللهمز في ذاته و في سيرته،فما هو بالنسبة للمسيئين إلا رسول من يستحقون الإساءة
للدرجة السفلى وضعوا أنفسهم فيها بين الأمم.
ثم لا بد لنا أن نعلم و نستيقن من أن الخطابة حول مناقبه صلى الله عليه و سلم و
مزايا الدين الذي بشر به أوان الغضب ـ بفعل صفعات الإساءة تُتلقى ـ لا تجعلنا نبدو
إلا كالببغوات ننطق بما لا نفهم،إذ السؤال المنطقي الذي لا بد و يطرحه تبعا لذلك
الغربيون هو لماذا لا نتناول من ذلك الترياق الشافي الذي وُرِّثناه و لو جرعات
بسيطة تنئينا حتى عن قمة التخلف و أوج الهوان.
نحدثهم عن كون الرسول هو الرحمة للعالمين، ثم و لا نُرى نرحم حتى إخواننا في الدين
و نقتلهم من أجل اختلاف في الفكر و في المذهب،و نكلمهم حول التسامح و نرجم بعضنا
بعضا بسبب الحدود الجغرافية و اختلاف الرأي إن بالكلام الجارح أو حتى بالسلاح.
فكيف نُصدَّق؟ و كيف لهم أن يقتنعوا أنه الرحمة صلى الله عليه و سلم؟
فبالنسبة إليهم و نحن المدعين للانتساب إلى دين بشر به لا يمكن له ـ حاشاه ـ أن
يكون إلا سفاك دماء أو مؤجج فتن...
فالأولى إذا من ممارسة الصياح كل مرة أن نعود إلى الجادة ، و أن نكف عن الإعراض عن
الإقتداء بسيد الخلق و عن إتباع منهجه، و أن نستقرئ أسباب التخلف في واقعنا، و أن
نصوب مسارنا وفق منهج الحق بالسير على ما كان عليه ذلك الذي نغضب حين الإساءة إليه
،و أن نتصالح مع هديه صلى الله عليه و سلم.
فمهما فعلنا بصدق ستتحسن أحوالنا، و حتى و لو حاول بعض الغرب حينذاك الإساءة إلينا
بفعل التدافع العقدي، فلن نعدم منهم من يعترف لنا بعدم استحقاق المهانة ،إذ العقل و
المنطق لا بد و سيسمان الآراء منهم ،و سيدفعان بهم إلى إصدار الحكم النزيه علينا و
على رسولنا الأكرم،إذ لا يمكن لخير أمة أخرجت للناس إلا أن تثير الانتباه، و
تستدعي الإعجاب، بل و حتى تُرغِّب في الإقتداء و الإتباع، و ذلك كما كان الأمر
آنذاك حين وقر حب الرسول بحق في نفوس المسلمين،ثم و تُرجم من طرفهم إلى أعمال و
أفعال رفعتهم عاليا ،و تبوأوا بها المكانة المميزة بين الأمم.