سراج الليل يؤذن باقتراب بزوغ الفجر الصادق
سراج الليل يؤذن
باقتراب بزوغ الفجر الصادق
الشيخ خالد مهنا
لا تبكِ غزة ، ودعي البكاءَ لنا ،
واحفظي دموعك ، لعلها تغسل جراحك
أو لعلها تسقي العطاش من أطفالنا ،
في يوم يشح فيه الماء في مستشفياتنا
لا تبكِ غزةَ يا نوراً بظلمتنا
نحن الظلامُ وأنتِ الشّمعُ واللّهبُ
لا تبكِ غزة يا جُرحاً بأمَّتنا
منكِ الدِّماءُ ومنّا الدمعُ ينسكبُ
لا تبكِ غزة أنت الدَّمُ ينهمرُ
نحنُ الكلامُ ومنّا السُّخطُ والغضبُ
لا تبكِ غزةَ يا قمحاً بجُعبتنا
فيكِ الجياعُ وفينا الخيرُ يُنتَهبُ
لا تبكِ غزةَ من شرخٍ يُفرِّقنا
أنتِ الشهيدةُ نحنُ الموسُ يَختضِبُ
لا تبكِ غزةَ يا ذنباً يُؤرِّقنا
أنتِ الضحيةُ نحن الذنبَ نرتكبُ
لا تبكِ غزةَ من حِلْفٍ يُعاهدنا
منه البراءةُ إنْ حاقت بنا النُّوَبُ
لا تبكِ غزةَ من ذئبٍ يُهاجمنا
فهُمُ القطيعُ وأنت الكبشُ قد هربوا
فهُمُ المشاهدُ للتشجيعِ قد طربوا
أنتِ الفريقُ وأنتِ اللاعبُ النَّجِبُ
أنت الدفاعُ وأنتِ الحارسُ الفَطِنُ
لا تركعين لغير الله إن غلبوا
لا تبكِ غزةَ يا حُلْماً يُراوِدُنا
نحنُ الّليالي وأنتِ الصُّبحُ والشهُبُ
لا تبكِ غزةَ يا عِشقاً يُلازمنا
أنتِ الحبيبُ ونحن الهَجرُ يَنتحبُ
لا تبكِ غزةَ يا ذنباً يُؤرِّقنا
نحن الخطيئةُ نحنُ الذنبُ والسببُ
لا تبكِ غزةَ يا نجماً بليلتنا
أنتِ العلوُّ وأنتِ التِّبرُ والذهبُ
لا تبكِ غزةَ يا رمزاً لعزتنا
أنت العصِيُّ فلا شكٌّ ولا عجبُ
يقيناً سيطول بنا المقام ونحن نحصي ونضرب الأمثال لما أصابنا من دمار وحرائق.. وخسف ونسف في غزة والعراق ، فقد أفلحت نيران هولاكو المعاصر على اختلاف ألوانه أن تشعل النار في قيمنا الحضارية وأفلحت في تدمير قلوبنا وعقولنا.
أفلحوا في تدنيس قيمة العفة والشرف وقيم أخلاقية كثيرة في ربوع مشرقنا الذي كان فيما مضى متوهجاً..
أفلحوا في تدمير قيمة الجهاد في نفوس المسلمين بعدما ظهر زعماء الجهاد في أفغانستان وغيرها على النحو الذي ظهروا عليه ، فطأطأنا رؤوسنا خجلاً ولكن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات على اختلاف ألقابهم كانوا كذلك أول المحترقين ، ولا تزال دويلات وإمبراطوريات منهم تنتظر عذاباً أشد من الحريق...
وافلحوا كذلك في اذكاء نار الفتنة بين الاشقاء في دويلاتنا الممزقة
وقديماً ذكر أن الذين أوقدوا النيران في الأخاديد ليلقوا فيها الأطفال والنساء والشيوخ أصابهم عذاب الحريق... أحرقوا بنفس النار التي أضرموها..
"إن بطش ربك لشديد"..
فلقد صحت الرواية أن الاتحاد السوفيتي أوقد النار في أفغانستان، وأحرق النسل والحرث ولكن صحت الرواية كذلك أنها احترقت بها في النهاية حريقاً أتى عليها تماما وأزال هذا الكيان من الوجود ، وليس بخافٍ علينا أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في تلك الفترة قريبة من الأحداث ترى ما يحل بالشعب المنكوب ، وانبسطت أساريرها لانهيار الإتحاد السوفيتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة ، ولكن كل المؤشرات تشير على وجه الجزم والحسم أنها لم تتعظ ولم تعتبر لما حدث لأقرانها، وظنت نفسها أنها المستفردة بالساحة وجوزت لنفسها أن توقد النار في أكثر من موقع، بل أكاد أجزم أنّ كل النار المشتعلة في كل بقاع الأرض وقفت وراءها... أوقدتها في فلسطين ، وأججتها من جديد في أفغانستان ، وأحرقت الأخضر واليابس في العراق ، وهي تستعد اليوم لتوقدها في أماكن أخرى لتصيب الأمم في مقتل، وتحسب أنها بمنأى عن العذاب..
وجاء صمود غزة والعراق وأفغانستان ولبنان واليمن تحت الضربات الموجعة ليؤكد لكل من إصابة الوهن ، وغبشت لديه الرؤية أن موعدنا الصبح.. أليس الصبح بقريب ؟؟ ألم يخبرنا ربنا عزّ وجل قصص أقوام سابقين :
" فكلاً أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا.."
إذا كان ذلك كذلك، فسنة الله ماضيه " وجعلنا لمهلكهم موعداً"
أن الإنسان إذا بلغ أشده وإستوى أخذ خطه البياني بعد ذلك في الانحدار، وكذلك الأمم (ثم جعلنا من بعد قوة ضعفاً وشيبة).
****
غزتي وغزتكم...
بغدادي وبغداديكم..
كابولي وكابولكم...
تضع أيديها على وجهها وتخفي دمعها كي لا تضطر أن تدفع على الدمعة الزائدة ضريبة جديدة..
تخاف أن تقول"آه" كيلاً يعرف القناصة مصدر الصوت فيصيبوه، في مقتل.
مقاهيها طوت مظلاتها وهاجرت طيور البحر...حملت أولادها على أكتافها ورحلت..
عشرات آلاف السكاكين التي تلتمع تحت الشمس تطعنها كل ساعة وألوف جاءوا من خلف البحار والجبال ليرقصوا رقصة(التام – تام) "والأبالاما" حول أجسادنا المحترقة.
كل ما يدور في عالمنا العربي والإسلامي من تشويه وتمثيل يدعو الأمة لتنتسب إلى نادي المحاربين والمدافعين عن الشرف والعزة والكرامة.. وأرجو أن لا يفهم من كلامي أنني أدعو إلى التمثيل بالشعوب والأمم التي أحرقت ديارنا وأهلكت حرثنا وبقرت بطون الحوامل ، واغتصبت ونشرت الفساد ولكنني أدعوها للبس خوذة (الجمال الحربي)، ولبس هذه الخوذة يعطي الحرب الدفاعية صفة الحسن، ويعطي السلام صفة القبح والدمامة . ، تلك الحرب التي لا مجال فيها للدبلوماسية واللين واللطف والمسايرة والعواطف حتى لا تخطف الدبلوماسية الفرح من أيدينا، وتصادر مزاميرنا لأنني على يقين أن تلك الإمبراطوريات التي أشعلت الحرائق في بيوتنا أوشك أجلها وحتفها على الانقضاء،ويقيناً حين تلبس الأمة خوذتها وبدلتها الكاكية سيدنو أجلها وحتفها أكثر فأكثر
إن الأمة التي ذاقت من العذاب أشكالاً وألواناً تنتظر منذ زمن طويل أن تذوق وتتعرف على شكل الفرح فإن أعلنت أمتنا أنها لم تعد تنتمي إلى فصيلة الأحمال الوديعة والحمائم الزاجلة والمطوقة فلتأخذ مجالها ووقتها الذي يكفي لأبنائها لتسجيل انفعالاتهم، وتشكيل كلماتهم- ولا تدعوا الدبلوماسية المرنة أن تسرق منا هذه اللحظات المدهشة، التي قد تحول المليارد ونصف إلى بحار من الكبرياء والعنفوان لا ضفاف لها .
أنّ من يستشرف المستقبل حسب البشارات يحس أنّ الزمن القادم سيمنح غزة وبغداد وكابول وكشمير جمالاً جديداً، لم تعرفه منذ أيام صلاح الدين.. هذا الجمال هو أجمل وردة ستنبت في حديقة وطننا العربي والإسلامي منذ مئات الأعوام.
قد يقول متفلسف إنك تدعو إلى جمال متوحش وشرس ولكن من قال وقد ذبحنا من الوريد إلى الوريد - أن الحمامة أجمل من الفهد الإستوائي، وأن الحمل الوديع أجمل من الأسد؟
أن بعض دول العالم التي ازدرت أمتنا بعد هزائمنا المتتالية أصحت اليوم مأخوذة بجمالنا المقاوم، بعد أن كان الجمال البغدادي واللبناني والأفغاني والفلسطيني متهماً ومطروداً من كل مسابقات الجمال .
أنّ أي مواطن عربي يتأمل المستقبل، بات يتحدث اليوم عن قرب إنجلاء الغمة وبات يتحدث عن الدبلوماسية والمرونة وشفتاه مقلوبتان، كأنه يجبر على إبتلاع برشامة كريهة الطعم، لا يريد إبتلاعها ولا يستسيغ شم ريحها، وهو يتأمل بالمستقبل القريب كما يتأمل العاشق الولهان قرب الوصل..
وهو يدرك بعفوية أن الباطل ساعة والظلم هنيهة، وأن الزمن القادم هو زمنه، فيا ليت الشعب العربي الذي يرى بأم عينيه كيف الباطل بدأ يتفرقع يسمح له أن يلبس البدلة الكاكية، لأن هذا اللون يتناسب مع لون بشرته ولون طموحه.
ليته يبقى يحمل الرفش في يده على أهبة الإستعداد لحفر القبور لغيره بعد أن ملّ وطقّ من دفن موتاه، وليته يحفظ من الآن بطاقة(المحارب الجميل) في جيبه، لأن صورته الملصقة على بطاقة المحارب الجميل هي أجمل وأبهى صورة التقطت له حتى الآن..
لقد أناخ الليل ظله فوق ربوعنا ، وألقى الظُلم فوق رؤوسنا حَمله وهذا الليل البهيم ناء بكلكليه وطال مقامه وطغى محله لكنني أراها اللحظات الحاسمة التي تسبق الميلاد ولسوف يولد النور في ربوعنا، ويصدق قول الشاعر كما صدق على أمم من قيل:
أتى على الكل أمر لا مرّد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار من كان من مُلك ومن ملك كما حكاً عن خيال الطيف وسنان
عن أبي الدر داء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إبغوني ضعفاءكم، فأنما ترزقون وتنتصرون بضعفائكم"
سيأتي زمان يتقدم هؤلاء المستضعصون القافلة. ولا أظن أنهم حين يروا الشعوب التي إستذلتهم يفتشون عن اللقمة في أكوام القمامة سيقفوا متشفين لما آلت إليه أوضاعهم بل أعتقد جازماً أن هؤلاء المستضعفين الذين لبسوا لامة الإنقاذ سيكونون أكثر براً ورحمة ورأفة بمن ساموهم سوء العذاب مِن قادتهم الذين حفروا بأنفسهم أخاديد صلفهم .
قال الله تعالى جل في علاه :
وتَرى الشّمسَ إذا طَلعت تزاورُ عن كَهفِهم ذاتَ اليمينِ وإذا غَرَبت تقرِضُهم ذاتَ الشّمال وهُم في فجوةٍ مٍنهُ"الكهف
"وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
وقد يسال سائل:
لم قال عن الشمس في الآية الأولى: طلعت، وفي الآية الثانية بازغة؟
ما الفرق بين الطلوع والبزوغ؟
وهل يجوز أن يقول في الأولى: (إذا بزغت )؟
وما اختلاف المعنى إن قال بزغت؟ وما فائدة طلعت بالذات؟..
فما من شك ان (الطلوع والبزوغ) لفظان متباينان لا ترادف بينهما ، وجاء كل لفظ منهما في موضعه ليعبّر عن معنى لا يعبّر عنه اللفظ الآخر . وإليك بيان ذلك :
يقول ابن فارس في البزوغ : الباء والزاء والغين أصل واحد ، وهو طلوع الشيء وظهوره . يُقال : بزغت الشمس وبزغ ناب البعير اذا طلع .
ويقول في الطلوع : الطاء واللام والعين أصل واحد صحيح ، يدل على ظهور وبروز .
فالاصلان عنده يدلان على شيء واحد هو الظهور ، وذلك يدلّ على ترادف البزوغ والطلوع عنده .
ويفسّر الراغب قول الله تعالى : " فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا " بقوله : أي طالعاً منتشر الضوء ، وبزغ الناب تشبيهاً به . وبذلك يكون التشبيه عنده دالاً على الطلوع أيضاً . أما الخليل فيقول : وتقول بزغت الشمس بزوغاً اذا بدا منها الطلوع . ونشتمّ من عبارته (بدا منها طلوع) انه يريد ان يقول : البزوغ اول الطلوع ، والى هذا الرأي ذهب أبو هلال العسكري صراحة في التفريق بين اللفظين ، فقال : البزوغ أول الطلوع ، ولهذا قال تعالى : " فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً " ، أي لما رآها في أول أحوال طلوعها تفكّر فيها فوقع له انها ليست بإله . ولهذا سُمّي الشرط تبزيغاً لأنه شقّ خفيّ ، كأنه أول الشقّ ، يُقال بزغ قوائم الدابة إذا شرطها ليبرز الدم .
وإلي هذا الرأي ذهب ايضاً ابو حيان في تفسير البزوغ في قوله تعالى : " فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ " ، مبيّناً سبب اختيار لفظ البزوغ هنا بأن ابراهيم عليه السلام كان يرتقب الأنوار ، والارتقاب يكون لأول الأمور وتباشيرها .
ولهذا فإن الطلوع لا يكون إلا من علوّ ، فلا نظنّ إن إبراهيم عليه السلام كان يرتقب ظهور الشمس فجأة في كبد السماء ، وإنما كان يصوّب ناظريه الى الأفق حيث تظهر الشمس ، والأفق لا علوّ فيه . ولذلك كان التعبير بالبزوغ .
ثم اذا ما ارتفعت الشمس قليلاً سُمّي ذلك طلوعاً ، لأنها تشرف على الأرض من علوّ ، وذلك بدء من وقت الضحى . والدليل على ذلك تعدّي الفعل (طلع) بحرف الاستعلاء (على) وما فيه من علوّ واشراف .
ويؤيّد معنى الارتفاع عن الافق في الطلوع قوله تعالى : " وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا " . يرى ابن عطية ان المراد بذلك : قول سبحان الله وبحمده من بعد صلاة الصبح الى ركعتي الضحى . وهذا ملمح لغوي دقيق في تأويل الآية ، ففي ربط طلوع الشمس بالضحى دليل على ارتفاع الشمس عن الأفق . ومغادرتها أول حالها من البزوغ .
ومستقريء الطلوع والاطلاع في القرآن الكريم يجد اطّراد تعدّيه بحرف الاستعلاء (على) سواء كان مذكوراً ، كقوله تعالى : " وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ " ، أم مقدّراً كقوله تعالى : " أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ " . ويُستثنى من هذا الاطّراد موضعان لحكمة بالغة ، وهما : قوله تعالى على لسان فرعون : " فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى " ، وقوله تعالى ايضاً : " لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى " .
يقول أبو حيان : وأطّلع في معنى أطْلع يُقال طلع إلى الجبل واطّلع بمعنى واحد اي صعد ، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرّد . ولا يخفى على احد ان في هذا التأويل انحراف عن صيغة اللفظ ودلالته .
والذي نميل إليه ان اللفظ على بابه في الصيغة (افتعل) والدلالة على (العلوّ) . ذلك ان فرعون على في الأرض على خلق الله تعالى ، ثم طمعت نفسه الأمارة في العلوّ فوق اله موسى ، فأبى الله - جلّ في علاه - إلا أن يركسه في الدنوّ والخذلان . أراد العلوّ فلم يستطعه قولاً ولا فعلاً ، وارتدّت اليه همّة نفسه تلجلجاً وتلعثماً ، فلم تستقم له العبارة ، وأنطق الله لسانه بدنوّ مكانه ومكانته ، فكان اطّلاعه من الادنى إلى الأعلى ، فخرق المقام قواعد المقال ، وتعدّى الفعل بحرف يناسب فرعون دنوّاً واستفالاً ، ولله المثل الأعلى ، وتبقى كلمة الله هي العليا .
وفيما عدا هذين الموضعين يبقى الفعل متعدّياً بـ(على) ، دالاً على العلوّ والإشراف . والتدبّر في آيات القرآن الكريم يهدي الى هذا المعنى ، فمثلاً آية سورة الكهف : " وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ " ، آثرت لفظ (طلعت) على (بزغت) لان البزوغ اول الطلوع ، ولان الطلوع من فوق والبزوغ من افق . ولو ان الشمس كانت تتزاور عن كهفهم من بزوغها ، لفسد هواء الكهف وأصابهم الأذى بذلك .
ولهذا يكون المعنى أن ضوء الشمس يدخل الكهف من بزوغها إلى طلوعها ، فيصيبهم خيرها ونفعها بما فيه صلاح أجسامهم قبل ان تشتدّ فتمسّهم بحرّها . وبهذا نرى دقّة اختيار اللفظ القرآني في دلالته على المعنى المراد ، ولو عبّرت الآية بالبزوغ بدلاً من الطلوع لاضطرب المعنى واختلّت الدقّة ، ولكنه الإعجاز القرآني أن الظلام لا زال يخيم والسلاسل تجثم وقصف الرعود يجلجل ونار الأسى تتضرم،وفي كل ركن أنات معذب ينوح ...او نازف يتألم في كل.. دموع صغيرة تبكي أباها..او ساخط يشتم
*****
إن الفجر الطريد الذي لا يزال يتلوى وما يواكبه من تحركات وانتفاضات يدل بشكل قاطع أنه ما زال يرمقنا وطلوعه مرهون بالأمواج العرمرمة التي تأتي ثائرة الأنواء لتعلن:
هذي جموعك يا شآم قد إنبرت
تعلي النداء لقبة الجوزاء
ومواكب الأحرار هزّ هديرها
قلب المحيط..وذروة العلياء
في كل شِعَب صلصلت أسيافها
فارتجت الأكمات للأصداء
فيا مواكب الأحرار..إني تائق لطلوع الفجر بعد أن بزع لتضاء سماؤنا..