قراءه موجزه في التغيرات السياسية على الساحة التركية 2
قراءه موجزه في التغيرات السياسية
على الساحة التركية
الحلقة ٢ من ٣
نجم الدين اربكان ...
رجل التحديات الصعبة
م. هشام نجار
اعزائي القراء
تركنا الحلقه الأولى وجنود الجنرال جمال جورسيل تتمركز في شوارع إستنبول وانقره والمدن الرئيسيه الأخرى بينما صورالجنرال الجديد بجانب صور الجنرال القديم اتاتورك قد تم توزيعها على الإدارات والمؤسسات والميادين الرئيسيه . كان هذا الإنقلاب هو اكثر الإنقلابات دموية من بين اربع إنقلابات عسكريه ضربت البلاد فقد تم إعدام السيد عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا في شهر إيلول / سبتمبر ١٩٦١ كما مر ذكره في الحلقه الأولى مع بعض اعضاء وزارته. مما إستدعى المؤرخين الى تسمية هذا الإنقلاب بإنقلاب الدم. لقد كان لتصرف العسكريين وتدخلهم في السياسه إحداث واقعآ جديدآ لم يعد بإمكان العسكريين تجاهله
فلقد شهدت فترة الستينيات تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة في تركيا حيث ارتفعت الدخول وتغيرت بعض أنماط الحياة. أما في المجال السياسي فانتشرت الأحزاب اليسارية في صفوف الطلاب والمثقفين، وظهر في تلك الفترة توجهات سياسية إسلامية على الساحة في تركيا وبرز اسم البروفوسور نجم الدين اربكان كرجل سياسه يتمتع بمقدره سياسيه مرموقه مدعومه بكفاءه اقتصاديه وصناعيه متميزه حيث يُعتبر بجداره ابو الصناعات الثقيله في تركيا .فمن هو نجم الدين اربكان؟
أولآ نشاطه العلمي
ولد أربكان سليل الأمراء السلجوقيين في عام ١٩٢٦ في مدينة سينوب الواقعة في أقصى الشمال على ساحل البحر الأسود، وأنهى دراسته الثانوية في عام ١٩٤٣ ليلتحق بجامعة الهندسة في إستانبول، وليتخرج من كلية الهندسة الميكانيكية في عام ١٩٤٨، وكان الأول في دفعته مما أهله بجدارة لتعيينه معيدا في الكلية ذاتها. أوفد الشاب الطموح في بعثة دراسية إلى ألمانيا في عام ١٩٥١ لينال في عام ١٩٥٣ من جامعة آخن شهادة الدكتوراة في هندسة المحركات
وأثناء وجوده في ألمانيا عمل إلى جانب دراسته رئيسا لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات "كلوفز - هومبولدت - دويتز" بمدينة كولونيا. وقد توصل أثناء عمله إلى ابتكارات جديدة لتطوير صناعة محركات الدبابات، التي تعمل بكل أنواع الوقود
وفي نهاية عام ١٩٦٥ عاد أربكان إلى جامعة الهندسة في إستانبول ليعمل أستاذا مساعدا، وفي العام نفسه حصل على درجة الأستاذية فأصبح بروفوسوراً في اختصاص المحركات إلا أن ذلك لم يكن كل الإنجازات التي حققها هذا الشاب التركي في حياته العملية، فبينما كان في العشرين من عمره؛ أنشأ أربكان أول أعماله الاستثمارية الخاصة، وتحديدا في عام ١٩٥٦، حيث أسس مصنع "المحرك الفضي" هو ونحو ثلاثمائة من زملائه، فتخصصت هذه الشركة في تصنيع محركات الديزل، وبدأت إنتاجها الفعلي عام ١٩٦٠، ولا تزال هذه الشركة تعمل حتى الآن، وتنتج نحو ثلاثين ألف محرك ديزل سنويا
ثانيآ نشاطه السياسي
بدأ أربكان حياته السياسية بعد تخرجه من كلية الهندسة وأصبح رئيسا لاتحاد النقابات التجارية ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قوينة، لكنه منع من المشاركة في الحكومات المختلفة بسبب نشاطه المعادي للعلمانية
أسس عام ١٩٧٠ حزبه والذي يحمل بذور التوجه الإسلامي الا انه لم يستطع الصمود لأكثر من تسعة اشهر حتى تم حله بقرار قضائي من المحكمة الدستورية بعد إنذار من قائد الجيش محسن باتور، فلقد كان الجيش بالمرصاد لكل النشاطات الإسلاميه واليساريه كونه يعتبر نفسه حامي العلمانيه .اما الأحزاب التقليديه فكانت بمثابة المحرك الرئيسي ضده خشية ان تفقد نفوذها على الساحه السياسيه
قام اربكان بعدها بدعم من تحالف إسلامي بتأسيس حزب السلامة الوطني عام ١٩٧٢وأفلت هذه المرة من غضب الجيش ليشارك بالانتخابات العامة ويفوز بخمسين مقعدا كانت كافية له ليشارك في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ليرعى المبادئ العلمانية
تولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة بولند أجاويد في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في نفس العام، بل يُعتبر المهندس الرئيسي لهذا التدخل مغتنمآ وجود بولند أجاويد خارج البلاد فأعطى الجيش والبحريه الأوامر بالتحرك إلى قبرص لحماية القبارصه الأتراك الذين حوصروا في مناطقهم بطريقة تبدو وكأنها عملية تطهير عرقي من قبل القبارصه اليونانيين لإجبارهم على ترك مدنهم وقراهم وترحيلهم لتركيا . لقد حقق أربكان مكاسب كبيرة لتيار الإسلام السياسي من خلال وجوده في الائتلاف أهمها الاعتراف بهذا التيار وأهميته في الساحة السياسية إلى جانب مكاسب اعتبرت تنازلات مؤثرة من قبل حزب الشعب. فمن خلال وجوده في حكومة أجاويد حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعاد لإسرائيل، وافتتح بنفسه محطة تلفزيونية رسمية ناطق بالكردية، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان بسبب ما اعتبر سياسته المؤيدة لإسرائيل فسقطت هذه الوزارة بعد تسعة أشهر ونصف, لم ييأس الرجل فقام بتدعيم حزبه بالإنضمام الى حزب العدالة لتشكيل الائتلاف الوزاري الجديد في عام ١٩٧٧
الاّ ان المدعي العام التركي لاحقه في عام ١٩٧٨ وطالب بفصل أربكان عن حزبه بدعوى أنه يستغل الدين في السياسة وهو أمر مخالف لمبادئ أتاتورك العلمانية . بدأ الجو السياسي بالتوتر من جديد وبدأت ملامح قويه لهزيمة العلمانيه تبدو جليه واضحه للعسكر حتى بعد خروجه من الحكومة فقد قدم حزب أربكان مشروع قانون إلى مجلس النواب في صيف عام ١٩٨٠ يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، كانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاءاً على شعبية الإسلام السياسي بزعامة أربكان مما اضطر الجيش للقيام بإنقلابه العسكري .ففي شهر إيلول / سبتمبر ١٩٨٠ قاد الجنرال كنعان ايفرين انقلاباً تسلم الجيش بموجبه زمام الأمور في البلاد.فأعتقل نجم الدين مع ٣٣ من قادة حزبه ورجالاته البارزين وقدم لمحكمه عسكرية . خرج أربكان من السجن عام ١٩٨٥م ووضع تحت الإقامة الجبرية التي استمرت حتى أواخر العام ذاته، وقد حضر إلى مكة معتمرًا مع بداية عام ١٩٨٦ ولم ييأس الرجل فقد عاود نشاطه من جديد من خلال حزبه الجديد المسمى بحزب الرفاه .وفي أوائل عام ١٩٩٦ استطاع الحزب اكتساح منافسيه في الانتخابات التشريعية في البلاد وبذلك تولى البروفوسور نجم الدين أربكان رئاسة الوزارة للمرة الثانية.الا ان الجنرالات لم تسكت على نجاحاته وإستقطابه لشرائح واسعه من الشعب التركي فتحركوا من جديد ضده
بانقلاب من نوع جديد إذ قدموا إلى أربكان مجموعة طلبات لغرض تنفيذها على الفور تتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسيا كان أم تعليميا أم متعلقا بالعبادات، فأضطرأربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي . وفي عام ١٩٩٨تم حظر حزب الرفاه وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام ٢٠٠٠. ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في عام ٢٠٠٣ حزب السعادة، لكن خصومه من العلمانيين، تربصوا به ليجري اعتقاله ومحاكمته في نفس العام بتهمة اختلاس أموال من حزب الرفاه المنحل، وحكم على الرجل بسنتين سجنا وكان يبلغ من العمر وقتها ٧٧ عاما. أربكان اليوم خارج العمل السياسي الفعلي، وربما يكون تقدم العمر أحد الأسباب، لكن الزعيم الإسلامي كان بإمكانه أن يستمر في العمل السياسي إلى النهاية لولا الضغوط الشديدة والمتكررة التي تعرض لها من قبل التيار العلماني واتخذت أشكالا مختلفة من الانقلابات العسكرية إلى استخدام القضاء والصحافة وشق صفوف أتباعه الذين لم يجرؤ أحد منهم على تكرار ما قام به زعيمهم
اعزائي القراء
هذه قصة كفاح رجل من طراز فريد تهتُ أنا شخصيآ بحفظ تعداد الأحزاب التي اضطر لتأسيسها , فكلما حَلّوا له حزبآ قام بتشكيل حزب جديد اصلب من سابقه. تهتُ بحفظ عدد مرات إعتقاله فكلما خرج من معتقل بدأ بنشاط جديد اكثر تمرسآ وقوة وشعبية مما كان عليه. هذا الرجل اسس رجالآ بعده إختلفت وجهات النظر بينه وبين بعض تلاميذه من حكام تركيا اليوم وعلى رأسهم السيد رجب طيب اوردوغان رئيس الوزراء وكان لهذا الإختلاف مايبرره من الطرفين
فأربكان إنطلق في فترة الحرب البارده حيث كانت الكلمه الأولى والأخيره للعسكر المدعومين من امريكا وحلفائها ولم يكن يسمح بالخروج عن هذه السياسه مما عانى الأمرين من جنرالات تركيا, ورغم ذلك فقد وصل بحنكته الى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ومن بعدها تولى منصب رئاسة الوزراء
اما تلاميذه فقد جاءوا الى الحكم بعد إنتهاء الحرب البارده ضد السوفييت في أواخر القرن العشرين فخفت الحاجه للعسكر من قبل امريكا وحلفائها وبالتالي خفت سطوتهم الى حد ما على رجال السياسه
اربكان جاء الى الحكم في وقت كانت حاجة الغرب الى تركيا قويه لحماية إسرائيل وتوفير الأمن لها مما عانى صعوبات جمه حالت دون تنفيذ رغبته بقطع العلاقات مع إسرائيل
تلاميذه جاءوا الى الحكم في زمن صارت امريكا جارة لتركيا في العراق ومزروعه في قلب العرب وقواعدها العسكريه واساطيلها ملأت دول الخليج العربي فحماية إسرائيل وأمنها وأمانها تكفلت به امريكا وبعض حكام العرب مع الأسف وهذا مؤشر آخر على ضعف دور عسكر تركيا في توجيه السياسيين وفق اهوائهم ولكن هذا لايعني ان طوحهم السياسي قد إضمحل
الإخوه والأخوات
اليوم يقود تركيا رجل قوي إسمه رجب طيب اوردوغان من مدرسة اربكان ولكنها مطعّمه بأفكار جديده, فهل ينجح الرجل في اهم معاركه ضد العلمانيه وهي تغيير دستور ١٩٨٢ العلماني الذي وضعه الإنقلابي الجنرال كنعان إفرين؟ وهل ينجح بمواجهة تحديات هائله اهمها تحدي الصهيونيه والنظام التلمودي في فلسطين
اعزائي القراء
التحديات كبيره والإصرار اكبر من هؤلاء الرجال لتحقيق الإنتصار على هذه التحديات هذا ما سنحلله في الحلقه الثالثه والأخيره من قراءه موجزه في التغيرات السياسيه على الساحه التركيه
مع تحياتي