الخضر بين البحث في شخصيته والعبرة من قصته

الخضر بين البحث في شخصيته

والعبرة من قصته

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

الخضر شخصية تحدث عنها القرآن في سورة الكهف من خلال حوار مع سيدنا موسى عليه السلام، واختلفت آراء العلماء فيها، فثارت حولها أسئلة منها: أصل نشأته وحقيقة اسمه، وهل كان نبيا؟ وهل لا زال حيا إلى اليوم؟.

فأما أصل نشأته وحقيقة اسمه فأورد السهيلي الخلاف حول اسم الخضر، فابن منبه يقول: اسمه أبليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث جلية أمره عرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس، ثم إن الخضر فرّ من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يصح. وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم أبو بكر بن العربي: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام: (إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد) يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة.

ونلاحظ في هذا القول الذي بحث في اسم الخضر ونشأته أنه يعتمد على إسرائيليات لا ندري حقيقتها، وهذه الإسرائيليات لا نطمئن لصحتها فضلا عن أنها ليست مفيدة في آثارها لنا، ومن ثم سكت عنها القرآن الذي يورد القصص لأخذ العبرة والتعلم، وهذه الحكاية التي اعتمدت في نقلها على تفسير القرطبي تكاد تكون في أغلب كتب التفسير والتاريخ، وورودها بهذه الصيغة في أكثر من مكان ليس دليلا بأي حال من الأحوال على صحتها، فكتب التفسير مليئة بالإسرائيليات خاصة في أخبار الأنبياء، وهي تحتاج إلى تنقية من هذه الإسرائيليات، وأذكر في هذا المقام رسالة دكتوراه نوقشت في الثمانينات من القرن الماضي بعنوان (الإسرائيليات في تفسير الطبري) بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة وقد طبعتها وزارة الأوقاف بعد ذلك.

إذا نخلص من هذه المسألة أن اسمه الخضر، وأن أي اسم خلاف ذلك نتوقف عنده دون تكذيب أو تصديق، لأننا لا نملك الدليل القاطع على ذلك.

وأما بالنسبة لنبوته، فإن القرآن الكريم لم يصرح بها إذ قال: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)، وقد عبر عن الأنبياء بلفظ العبد فقال الله عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (سبحان الذي أسرى بعبده). وهذه المسألة لم تنل حظها من درس المفسرين كما نالت مسألة حياته أو موته، أو مسألة تحديد شخصيته في بعض نصوص القرآن مثل قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم، قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه....)

قال بعض المفسرين:  إن الذي مر على القرية هو الخضر عليه السلام، ورده بعض الآخر، انطلاقا من أن الخضر مات وليس حيا، ومنهم ابن عطية في المحرر الوجيز الذي رجح بأن يكون هذا الرجل الذي مر على القرية لو كان اسمه أرمياء وهو اسم الخضر الأصلي فيكون من باب تشابه الأسماء؛"لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما رواه وهب بن منبه".
وعلق القرطبي الذي يعتقد حياة الخضر، مرجحا رأيه بأدلة منها أن سيدنا عيسى وأهل الكهف ما زالوا أحياء، وعارض ابن عطية ومن رأى رأيه فقال: "إن كان الخضر هو إرمياء فلا يبعد أن يكون هو؛ لأن الخضر لم يزل حيا من وقت موسى حتى الآن".

إن مسألة حياة الخضر وحقيقة نشأته نالت دراسة المفسرين، وليس فيها دليل نقلي يمكن الوثوق فيه إلا ما جاءنا من القرآن وما صح من أقوال الرسول، ولم يرد لنا شيء صريح في ذلك ومن ثم فهذه الأسئلة التي ورد الخلاف حولها نحن نتوقف عندها، ولا نصدقها ولا نكذبها، بل نتأمل العبرة فيما ورد إلينا من نصوص حول الخضر عليه السلام، ومنها ما أورده البخاري من قول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: (ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر).

وما نتعلمه من قصة موسى والخضر هو الصبر على طلب العلم، وهذا ما يرشدنا إليه الإمام الشافعي في قوله الشهير:

أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ

سأنييك عن تفاصيلها ببيـان

ذكاء وحرص واجتهاد وبلغه

وصحبة أستاذٍ وطول زمان.

ونستفيد أيضا من قصة الخضر أن يرحل الطالب في سبيل نيل المعلومة، وأن يختار الأستاذ الوقت المناسب لكي يتلقى الطالب منه، وألا يكثر عليه، فكثرة الكلام تنسي بعضه بعضا، وهذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يرسل الحديث إرسالا بل كان كلامه قليلا حتى يفهم عنه، ويحفظ قوله، ولم تكن كثرة الكلام هي سبب تخرج هذا الجيل الذي حمل مشاعل الهداية، بل إن الفهم والوعي لما يقال وحسن تطبيقه سبب في إقامة هذه الحضارة.

 ومن العبرة أيضا في قصة الخضر مع موسى أن المسلمين عند شروطهم فموسى عليه السلام نسي في الأولى والثانية ثم أخذ على نفسه عهدا فقال: (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا) وقد نفذ وعده عندما سأله، ولقد ترحم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على موسى وتمنى أن لو صبر حتى نتعلم من موسى الكثير.

وأهم درس في نظري نتعلمه سيدنا موسى من سيدنا الخضر أن لا نحكم على الأشياء بظاهرها، فالسفينة الظاهر أن الخضر يفسدها، والباطن أنه يحاول نجاتها من الملك الظالم، والولد ظاهر الفساد أنه سيقتل، والباطن محاولة إصلاح أبويه، واستئصال العنصر الفاسد من المجتمع، والجدار بني دون أجر رغم بخل القرية لأنهم لو علموا بالكنز لأخذوه وحرموا الأيتام منه، وما ظنك بمن يبخلون على الضيف الغريب بالطعام ونحوه، وهم عابروا سبيل، فهم بتأكيد سيكونون أشد بخلا مع الفقير الذي يقيم بينهم حينا طويلا من الدهر، فيتيمهم ضائع وفقيرهم جائع.

تلك كانت لمحات عن شخصية الخضر في محاولة لتحقيق في شخصيته ذلك التحقيق الذي يعد من الغيب الذي لن ينفعنا في شيء، وأما النافع فيتمثل في استلهام العبرة؛ ذكرى (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).