الشعر... من أجل التوازن في عالم مختل
الشعر... من أجل التوازن في عالم مختل
(شهادة في الكتابة)
جمال الموساوي
أكتب منذ ثلاث وعشرين سنة.
ليست شيئا كثيرا في عمر الكون، لكنها مع ذلك أكثر من نصف عمري الخاص. وأنا هنا اليوم لأشهد أن النار التي استعرتها من بروميثيوس، كما يقول الشعراء عادة، قد أحرقت أجزاء عزيزة من أصابعي. وصْفَتي الأولى التي منها صنعت البداية لم تكن أكثر من مزيج من القمع العاطفي لبيئة الميلاد (على الأقل كان هذا تصوري للأمور) وبعض الإلمام بالأبجدية ثم تغيير البيئة المذكورة، وأخيرا مصادفة واحد من الشياطين التي تحدثت عنها كتب الشعر العربية. وصْفة وَفَتْ بالغرض، وفتحت لي الأفق على أوهام المراهقة، حيث كنت أراني ذا شأن من الشؤون، والناس تشير إلي بأصبع التقدير، دون أن أتصور، بأي صيغة من الصيغ، أنه سيشار إلي بأصبع آخر غير الذي ذكرت. كان هذا أول الأوهام الجميلة التي راودت رأسي الصغيرة آنذاك، وهو الوهم الذي تضخم أكثر فأكثر مع نشر أول خاطرة في 21 أكتوبر من 1987.في ذلك اليوم أتذكر تماما، كما لو أنني كنت حاضرا(
!) أن الأرض تحملتني على مضض، لأنها ربما لم تجد بدا من ذلك. كانت تعلم أن الحلم وقود الحياة، وأن الحلم هو، كما قيل، "الطريق الملكي نحو اللاوعي". وأعتقد أن في هذا الكلام الكثير من الصحة في ما يتعلق بحالتي. وهنا أشير، مع ما يلزم من الاختصار، إلى أن أكثر ما سكنني وأنا "أنمو وأكبر" هو أن أكون حارس مرمى في فريق لكرة القدم. كان هذا الحلم، بشكل من الأشكال وما يقتضيه التعسف، مشرعا على الشهرة والانتشار وعلى الإشارات المعلومة للأصابع الطيبة. لهذا كان لاوعيي يقظا وحاضرا عندما بدأت حياة في المجاز، فما صرت أصبو إليه الآن، أي وهمي الجديد، ليس سوى وهمي القديم منقحا ومعدلا !ولأن الأسئلة هي الطريق إلى المعرفة، ولأن الشك جميل حين ينتاب الشعر، قادني كل ذلك إلى إدراك خالص مفاده أن الشاعر لا يستطيع تغيير العالم ماديا. لكنه قادر بالمقابل على النظر إليه من الزاوية الت
ي تبدو له أقرب إلى أن تمنحه الصورة التي يريد، تلك التي تمكنه من صياغة العالم الأمثل، ومن إعادة تشكيله عندما يعِنُّ له ذلك، أو عندما لا يعجبه، من أجل أن يجمله أكثر أو من أجل أن يجد لنفسه مسوغا للتعايش معه حين تتضبب أمامه الرؤى.أعترف أن الكثير من الأشياء في العلاقة بالكتابة تبقى ملتبسة ولن يمكنني فهمها ربما قبل أن أبلغ ميناء الشاعر الصيني المذكور، إلا أنه مع ذلك لابد من الإشارة إلى أن أكثر ما يمكن أن يمنحه الشعر للكائن الضئيل هو تلك القدرة على امتلاك الأشياء بالشكل الذي يريد، دون قيد أو رقيب.
تلك القدرة الخارقة على مقاومة التآكل والتلاشي. الشعر ضد الموت، وضد المحو الذي بمعنى الزوال.طيلة هذا الوقت لم أكف عن نسب الأحلام إلي، والخيبات إلي، ومن ذلك كله أقوم بإعادة صياغة المعنى كما يحلو لي، أو ربما هذا ما لا أكف عن ادعائه
!من هذا "الحيص بيص" الوجودي، أخرجت مجموعتي الثانية التي لا تعدو كونها، من خلال عنوانها، اعترافا بأني "مدين للصدفة" الجميل
ة بكل شطحاتي على الورق، وبكل ما أتيح لي من علاقات مع الناس، وأحيانا ببعض سوء الفهم الذي يعتري كل أنواع العلاقات الإنسانية، وبكل خيباتي الصغيرة والكبيرة على السواء. في هذه المجموعة تخليت عن تلك المرأة التي كنت أطاردها في "كتاب الظل": المرأة الأشبه بطيف. المرأة المتعددة التي من لحم ودم ومن خيال في الوقت نفسه. المرأة التي جعلت منها الوطن والكتابة والقصيدة والحلم. المرأة التي لم أكتشف أنها مجرد "خيط دخان" بل حافزا على الحياة، وسببا من أسباب السير قدما نحو نضج عصي !*
ألقيت خلال أمسيات فاس الشعرية لبيت الشعر في المغرب، 22 مايو 2010