تلازم الترجمة والتعريب
تلازم الترجمة والتعريب
وعلاقتهما بالتنمية
أ. د: عبد السلام حامد
أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر
مدخل اصطلاحي ـ تعريف الترجمة والتعريب والتنمية:
“ الترجمة” لغوياً من معانيها نقل الكلام من لغة إلى أخرى؛ فقد ورد في المعجم الوسيط:” ترجم الكلام بينه ووضحه، وترجم كلام غيره وعنه: نقله من لغة إلى أخرى، وترجم لفلان: ذكر ترجمته، والترجمان هو المترجم وجمعه تراجم وتراجمة، وترجمة فلان: سيرة حياته وجمعها: تراجم” . ومن الناحية الاصطلاحية والعلمية أصبح للترجمة نظرية تنبع من علم اللغة المقارن وترتبط بعلم الدلالة بشكل أساسي وبعلم اللغة الاجتماعي ([1])، وقد اقتصرت على معنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى، ومن التعريفات المهمة التي ذكرت لها تعريفها بأنها” حرفة تتكون من محاولة استبدال رسالة و(أو) تصريح مكتوب بلغة ما برسالة و(أو) تصريح بلغة أخرى”. إن هذا التعريف يشير صاحبه إلى شيء مهم هو أننا في كل مرة نترجم فيها يحدث ضياع شيء من المعنى لعوامل عدة، منها كون النص يصف موقفاً يتسم بعناصر خاصة بالبيئة الطبيعية لمنطقة اللغة وثقافتها ونظامها، ووجود أنظمة معجمية ونحوية وصوتية خاصة بكل لغة، واختلاف نظرة كل واحدة منها إلى كثير من المحسوسات وجميع التصورات الذهنية، وعدم توافق استعمالات اللغة الفردية لكاتب النص والمترجم كليهما . والذي يعنينا من ذلك كله أن الترجمة ـ مع كل هذه المحاذير والمعوقات ـ لا تحول دون إيصال خلاصة المعنى ونقله من لغة إلى أخرى، وهذا هو المهم والثمرة المرجوة منها، بل أنه لا يوجد ضياع أساسي للمعنى إذا ما كان الموقف يتسم بالحيادية وعدم الارتباط بقومية محددة، ويكون المشاركون فيه خالين من الملامح المحلية، كما في مجال العلوم التطبيقية كالرياضيات والطبيعة والطب ([2]) .
وأما” التعريب” فهو بصفة عامة يعني إعطاء الصبغة العربية للكلام أو لمظاهر الحياة المختلفة ورد الهوية العربية الأصيلة إلى العربيّ . وله مفهومان: مفهوم مشرقي ومفهوم مغربيّ. فالمفهوم المشرقيّ يتعلق بالألفاظ ويقصد به ـ كما حدد المعجميون القدماء ـ إدخال اللفظ الأعجمي بذاته ومادته في العربية، أي أن يتفوه به العرب على منهاجهم وأن يدرج في أوزانهم، وقد صاغ مكتب تنسيق التعريب بالرباط في تقرير له قدمه في مؤتمر بصنعاء سنة 1972 م هذا المفهوم فقال: إن المقصد من التعريب” صياغة المصطلح الأجنبي على المقاييس الصرفية العربية بحيث يصبح قابلاً للتعريف وأخذ الاسم منه والفعل واسم الفاعل واسم المفعول واسم الآلة ...” . وهذا التعريب المشرقي كان له اتجاهان: اتجاه يتبنى الحلول التخصصية المنعزلة عن الرأي العام والواقع، لاستناده إلى خبرة أعضاء المجامع اللغوية وأدائهم وعملهم الذي ليست له سلطة التنفيذ، واتجاه يتبنى الحلول المطروحة على الجماهير عن طريق وسائل الإعلام بما فيها من صحف سيارة، وقد أدى المد والجزر بين هذين الاتجاهين إلى الفوضى والتنافر في العمل الاصطلاحي، وحال دون استقرار المصطلحات المعرّبة وإدراجها في لغة الاستعمال اليومي ([3]) .
وأما المفهوم المغربي فهو واسع عام يشمل تعريب المصطلحات السابق، كما يشمل: تعميم اللغة العربية في التعليم، وإقصاء اللغة الأجنبية من كل مجال بقدر الإمكان، وقد ورد ذلك في وثيقة رسمية قدمتها وزارة التربية الوطنية بالمغرب لمؤتمر التعريب الأول بالرباط (سنة 1961 م) ونص التعريف هو:” التعريب بالمغرب هو إحلال اللغة العربية في التعليم محل اللغات الأجنبية، وتوسيع اللغة العربية بإدخال مصطلحات جديدة عليها، وإلزام الإدارة بعدم استعمال لغة دون اللغة العربية، والعمل على أن تكون لغة التخاطب اللغة العربية وحدها، والدعاية لها، ومقاومة كل الذين يناهضون لغتهم للتفاهم فيما بينهم بلغة أجنبية . وبالجملة فإن التعريب هو جعل اللغة العربية أداة صالحة للتعبير عن كل ما يقع تحت الحس وعن العواطف والأفكار والمعاني التي تختلج في ضمير الإنسان الذي يعيش في عصر الذرة والصواريخ” ([4]) .
إذن نستطيع أن نحصر المعاني التي وردت للتعريب فيما يأتي:
1 ـ التعريب بمعنى تعريب المصطلحات والألفاظ، أي إضفاء الطابع العربي عليها ودمجها واستيعابها في قوالب الألفاظ العربية .
2 ـ تعريب التعليم .
3 ـ التعريب الشامل لكل شيء .
4 ـ التعريب بمعنى” الترجمة” والنقل إلى العربية ([5])، وقد كان المصطلح بهذا المعنى شائعاً في العصر العباسي، وما زال لاستعماله بهذا الشكل وجود إلى الآن . والمعاني الثلاثة الأولى هي المقصودة معاً في المفهوم المغربي . ومن الجدير بالملاحظة أن بعض الدارسين يسمي التعريب بالمعنيين الثاني والثالث (التعليم وتعريب كل شيء)” عَوْرَبة "، من باب محاولة الدقة وعدم الخلط بين المصطلحات . ومن الممكن أن نقول ـ فيما يتصل بالمعنى الرابع ـ إن استخدام "التعريب”بمعنى "الترجمة”مما يدل على العلاقة الوثيقة بين الاثنين، وهذه صلة اصطلاحية، إلى جانبها صلة ثقافية وفكرية واجتماعية بالتبعية عندما يتبع الترجمةَ صبغُ كل شيء بالصبغة العربية . واستخدامنا لمصطلح "التعريب”سيكون بالمعنى الشامل الواسع .
ومن الناحية التاريخية نلاحظ أن التعريب بدأ في المشرق عملاً فردياً ومفهوماً خاصاً محدداً، ثم تدرج إلى أن أصبح ذا طابع قومي شامل، كما نلاحظ أيضاً أن المشرق ـ بعد انتشار التعليم فيه باللغات الأجنبية واصطباغ كل شيء فيه بطابع التغريب والأمركة ـ صار محتاجاً إلى التعريب بالمفهوم المغربي الشامل .
وإذا كنا قد أشرنا إلى مفهوم التعريب، فينبغي أن نشير إشارة مهمة إلى واقعه الذي ينبغي أن يتغير إذا كنا صادقين مع أنفسنا؛ ذلك لأنه من الناحية السياسية والاجتماعية صار أسطورة محاطة بالتناقض والغموض والتضارب . فمعظم المنادين به لا يدافعون عنه بكل ما يملكون ويعجزون عن أن يترجموه إلى صورة حية في واقعهم من خلال البدء بتطبيقه على أنفسهم، والمسئولون عنه ـ وهم الساسة ومن يلحق بهم ـ يثبتونه ولا ينفذونه، لقد قال مشارك ([6]) في أحد مؤتمرات التعريب ذات مرة وهو يشير إلى هذا الواقع المرير مبالغاً وقاصداً التهكم (( ولم يدخل السجن أحد من أجل العربية، ونضيف أن الدفاع عن التعريب عند بعض المثقفين هو تخلص من عقدة الذنب بعدم المشاركة أكثر مما هو إيمان بقضية .... صحيح أن السلطة السياسية وضعت مشروع التعريب فوق الواقع الاجتماعي محيطة إياه بمجموعة مستمرة ثابتة من المفاهيم المجردة تستساغ جماهيرياً دون التزام عملي بمضمونها الغامض، ولكن خطاب بعض المنادين بالتغيير ساعد على تجريده من علاقته بالواقع التجريبي الممكن ... والمقصود من الإشارة هو أن الخطاب المنادي بالتعريب غالباً ما أصبح يدور حول نفسه، فانحصر تقريباً في المقولة التالية:"التعريب ضروري وممكن ومن قال غير هذا فقد خان” وذلك دون تدليل . ولهذا بدا التعريب كصخرة سيزيف كلما رفعها أهلها أسقطها عجزهم عن إقناع غيرهم داخل السلطة وخارجها بجدوى العملية، عجز هو في نهاية الأمر عجز مجتمع يعيشون فيه )) .
وأما” التنمية” فالمقصود بها هنا التنمية البشرية، وقد كان مفهوم التنمية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات قاصراً على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية، ولكن منذ بداية التسعينات أطلق مصطلح "التنمية البشرية”وصار البشر هم الهدف الرئيس للتنمية لأنهم هم صانعوها وهم الثرة الحقيقية التي تملكها الأمم، بل لم تصبح التنمية قاصرة على النواحي الاقتصادية في حياة الإنسان فحسب، وإنما أصبحت تعني جودة هذه الحياة في جميع النواحي، من صحة وقدرة على الإبداع وتمتع بمستوى معيشي لائق وحرية وكرامة ومساواة واحترام وأمن عام يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية والبيئية والغذائية. ولا شك أن من صور هذا الأمن، الأمن اللغوي .
بعد هذا المدخل الاصطلاحي يجب أن نطرح سؤالين رئيسين في البحث كي نجيب عنهما: كيف يكون ثمة تلازم بين الترجمة والتعريب ؟ وما علاقة الاثنين بالتنمية ؟
إنني أرى أن الإجابة عن السؤال الأول تكمن في الحديث عن الترجمة من حيث الاستيعاب والشمول، وأن الإجابة عن الثاني ينهض بها النظر في أثر الترجمة والتعريب في أربعة جوانب هي: الحفاظ على الذات والهوية، والتعليم، والتنمية الحضارية الشاملة، وتنمية اللغة ودراستها وتدريسها .
أولاً ـ الترجمة من حيث الاستيعاب والشمول:
إن الترجمة الملازمة للتعريب التي نريد والتي ينبغي أن تكون، تتحقق عندما تتصف بالاستيعاب والشمول والتنظيم، في المصادر والمعارف والشكل والمضمون . وبيان ذلك بمثال تاريخي، وبالحديث عن شمول الشكل والمضمون، واستغراق العلم والفكر والأدب .
1 ـ الترجمة في العصر العباسي مقارنة بالترجمة في العصر الحديث وما تعنيه من تنظيم وشمول المصادر والمعارف:
أ ـ الترجمة في العصر العباسي:
كانت حركة الترجمة التي بدأ العرب يقومون بها في عهد الدولة الأموية، ثم تتابعت بقوة وازدهرت في العصر العباسي أيام الخليفة المأمون، أول حركة موسعة ومنظمة للترجمة العلمية والثقافية بصورة عامة بين الأمم ولغاتها، وذلك لتعدد مصادرها، واتساعها وشمولها، وتنظيمها. فقد كانت هذه الحركة متعددة المصادر؛ لأن العرب ترجموا عن الهندية والفارسية والسريانية والنبطية وإن كان مصدرهم الرئيس الترجمة عن اليونانية، واتسمت بالاتساع؛ لأنها شملت في القرنين الثاني والثالث الهجريين شتى المعارف والعلوم: الرياضيات والفلك والفلسفة والمنطق والطب والكيمياء والهندسة والسياسة المدنية، وأما الأدب فلم ينقلوا منه إلا القليل مثل كتاب "كليلة ودمنة"، ولم يترجموا الأدب اليوناني لاختلاطه بالأساطير الدينية من ناحية، واعتزازهم بأدبهم الشعري والنثري وغناهم فيه من ناحية أخرى، واتسمت حركة الترجمة هذه بالتنظيم أيضاً؛ لأنها بدأت هادئة في عصر بني أمية، ثم نشطت ونظمت في عهد الدولة العباسية” وأصبحت منشطاً حكومياً رسمياً ترعاه الدولة وتنفق عليه: أنشأ الخليفة المنصور ديوان الترجمة، فوسعه الخليفة الرشيد، ثم جاء الخليفة المأمون فأنشأ "بيت الحكمة”الذي كان بمثابة مجمع علمي ومرصد فلكي ودار ترجمة ومكتبة عامة، وأقام فيه جماعة من المترجمين أجرى عليهم الأرزاق من بيت المال” ([7]).
وقد وفق المترجمون العرب غاية التوفيق، كأنهم لم يبقوا كتاباً لم ينقلوه إلى العربية، بل وضعوا كثيراً من المصطلحات الدقيقة في العلوم والبلاغة والكلام والتصوف ومختلف الصنائع، مما لم يوفق إلى الآن علماء الغرب من وضع مقابل له في لغاتهم؛ فقد استخدم المترجمون الأوائل ألفاظ: الأرتماطيقي وفيزيقا وقاطيغوراس وأسطقس، ثم أوجدوا ما يقابلها بالعربية وهو: الحساب والطبيعة والمقولات والعنصر، وكذلك قالوا: السولوجسموس والروطوريقى والبيوطيقى، ثم استعاضوا عنها بالقياس والخطابة والشعر .
وقد كانت حركة الترجمة هذه من أهم الأسس التي أدت إلى قيام الحضارة العربية الإسلامية وتفوقها على سائر الأمم في حينها . يشهد بذلك التاريخ وإعجاب المنصفين من العلماء والمؤرخين الغربيين، الذين سجلوا إشادتهم بها، ومن ذلك قول وليم أوسلر:” لئن أشعل العرب سراجهم من القناديل اليونانية فإنهم ما لبثوا أن أصبحوا جميعاً شعلة وهاجة استضاء بنورها أهل الأرض” وقال سيديو:” إن العرب كانوا أساتذة أوربا كلها في جميع فروع المعرفة” ([8]).
ب ـ جهود الترجمة والتعريب في العصر الحديث:
أول ما نلاحظه عند الحديث عن الترجمة إلى العربية في العصر الحديث ([9])، أننا نجد تلازم الترجمة وتعريب العلوم ووضع المصطلحات بوضوح وجلاء؛ وذلك لأن الترجمة لا توجد من غير تعريب ووضع لمصطلحات جديدة في العلوم والفنون والآداب بعامة، وفي ميدان العلم والاختراعات والاكتشافات بخاصة، حيث يظهر كل يوم مصطلحات خاصة بلغة أصحاب هذه الأشياء وتتولد معها الرغبة في وضع مقابل لها عند الترجمة، وكذلك الاتجاه إلى التعريب يؤدي إلى الترجمة لأنها أداته من أجل الحصول على المعرفة والاطلاع على ما توصل إليه العلم المتطور باستمرار، ويؤدي كذلك إلى وجود مصطلحات عربية جديدة توضع بإزاء المفاهيم الجديدة المستحدثة، ويُجتهد في أن تكون موحدة . وبناءً على هذا التلازم، نجد خلال فترة القرن والنصف الأخيرة في عالمنا العربي أنه حيثما وجد التعريب في التعليم خاصة كانت الترجمة نشيطة والعمل اللغوي على أشده، والعكس صحيح، فحيثما كان التعليم بلغة أجنبية كانت حركة الترجمة ضعيفة أو منعدمة .
ونستطيع أن نقول بصفة عامة ـ برغم الجهود الجادة في الترجمة التي بذلتها وتبذلها مؤسسات حديثة ومعاصرة ـ إن التخلف أو التعثر في هذه الأمور الثلاثة هو السمة الغالبة على معظم الأقطار العربية، ووراء ذلك عوامل قاهرة داخلية وخارجية أهمها وجود الاستعمار في البلدان العربية شرقاً وغرباً، وبقاء آثاره بعد رحيله ثم عودته مرة أخرى في صور أخرى أكثر مكراً وشراسة، باسم العولمة وغيرها، بالإضافة إلى انصراف النخبة إلى استعمال اللغة الأجنبية وفرضها في المعاهد التعليمية والمؤسسات العامة والخاصة وما ينتج عن ذلك من انحسار للترجمة ([10]) .
ومن الأمثلة على ذلك في مصر أن النهضة التي كان محمد علي قد بدأها كانت تؤذن ببعث جديد وميلاد مبشر؛ إذ أنشئت مدارس متخصصة في العلوم التطبيقية ومدارس للعلوم العسكرية ومدرسة للألسن عنيت بالترجمة وأوفدت البعثات للدراسة في الغرب . وعرف رواد تلك الحقبة أن ترجمة العلوم الحديثة إلى العربية هي الخطوة الأولى للنهضة والتقدم، فنشطت الترجمة، وكان الحرص على التدريس باللغة العربية الدافع الأساسي لها، وكان تأسيس الكليات العملية ككلية الطب بالقصر العيني (1826) في مقدمة الأسباب التي دفعت إلى الترجمة، وكان من أول ما تُرجم الكتب الطبية التي ألفها مؤسس الكلية الدكتور كلوت بالفرنسية، ثم تتابعت أعمال الترجمة والتأليف بالعربية في العلوم المختلفة لا في الطب وحده . ومن الآثار الطيبة التي ترتبت على ذلك ترجمة قواميس كثيرة بلغات مختلفة إلى العربية، وانتعاش العربية من جديد ونهضتها بتوجيهها إلى الاهتمام بالمعنى دون اللفظ، والجوهر دون العرض، وتخليص الأسلوب من قيود صنعة البديع التي سادت في عصور الرقاد ([11]) .
وظل الأمر على هذا النحو إلى أن احتل الإنجليز مصر سنة 1882 م، وكان مما أعقب الاحتلال الأسود مباشرة تحويل التدريس في الكليات العملية من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية بعد خمس سنوات منه، أي سنة 1887 م، وبعد أن استمر التدريس بالعربية أكثر من ستين سنة، فكان ذلك ردة لغوية وانتكاساً للعربية وللنهضة العلمية نفسها لا في مصر فقط، بل في سائر البلاد العربية .
وفي الشام في أواخر القرن التاسع عشر ظلت الكلية الأمريكية في بيروت خادمة للغة العربية مدة من الزمن، إذ كان تعليم الطب فيها منذ إنشائها باللغة العربية، ووجد فيها ثلاثة أساتذة أعلام أتقنوا العربية وترجموا إليها وألفوا بها وهم: فنديك وبوست ورتبات، ولكن ذلك لم يدم طويلاً إذ تحول التدريس بالعربية في هذه الكلية إلى الإنجليزية .
والحالة الوحيدة لتدريس الطب خاصة بالعربية في العالم العربي التي قدر لها البقاء إلى الآن، هي تجربة كلية الطب في دمشق التي تأسست أواخر عام 1919 م . فقد استمرت على ذلك إلى يومنا هذا مع الكليات العملية العديدة التي أنشئت بعدها في سوريا ([12]) .
وأما في المغرب العربي الكبير (تونس والجزائر والمغرب الأقصى) فقد أخر الاستعمار الفرنسي نهضة التعريب والنهضة بصفة عامة فيه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مع النضال في طلب الاستقلال، وكانت النهضة الفكرية في المغرب الكبير في الخمسينات، أي بعد قرن كامل من بدء نهضة الشرق . وعندما حاول المغاربة اعتماد العربية بدل الفرنسية حرصاً على الاستقلال الثقافي وجدوا أنفسهم مكبلين بالفرنسية في الجهاز الحكومي خاصة في التعليم والإدارة. لكن شجع تيار التعريب وقوى تياره أمور، منها: وجود اتجاه تقدمي أصبح ينتصر للتعريب ولا يعتبره نزوة دينية أو نكوصاً وارتداداً إلى العصور الوسطى، ووجود صحوة إسلامية يمكنها أن تشد عضد العربية إذا قويت وتمكنت، من منطلق الدعوة إلى التمسك بلغة القرآن بصرف النظر عن العرق واللون ([13]) .
ج ـ تعقيب:
إننا إذا أردنا أن نعلق على الترجمة في العصر العباسي والعصر الحديث مع المقارنة بينهما، فسنقول إن الترجمة في العصر العباسي آتت أكلها وكانت سبيل تغيير غير مسبوق نحو التقدم والازدهار؛ لاتصافها بأسباب النجاح التي منها شمولها واتساعها واستيعابها كل العلوم والمعارف (باستثناء الأدب) ووجود البيئة العربية المناسبة وعدم وجود تعليم بلغة أجنبية يعترض طريقها ويقف حائلاً دون إتيانها ثمارها، وذلك بخلاف الترجمة في العصر الحديث بعد الحملة الفرنسية إلى يومنا هذا، فهي ترجمة مشتتة وغير منظمة، ومقطوعة الطريق بالاستعمار ثم العولمة ونشر اللغات الأجنبية وفرضها في التعليم وغيره ووجود حالة لغوية غير عادية كلها فوضى وتشويه ومسخ ، كما أن هذه الحركة الحديثة قصيرة المدى وغير شاملة لأنها تمثل نقلاً بحسب الحاجة لا يتأصل في المجتمع، وإذا كانت الترجمة في عصر محمد علي قامت على أساس ضيق لأنها ركزت على العلوم التطبيقية ومن ثم وصفت بأنها ترجمة وظيفية ([14])، فنحن الآن نترجم كتاباً من هنا وكتاباً من هناك، وجمهور عظيم يريح نفسه ويعلم أولاده باللغة الأجنبية .
إذن الترجمة الحديثة والمعاصرة معيبة من جهات كثيرة أهمها أنها غير شاملة وغير مقترنة بالتعريب أو العوربة . إن الترجمة لكي تكون ناجعة ينبغي أن تكون شاملة محاطة بجو اللغة الوطنية المُترجَم إليها من كل جانب، وهذا الجو بالنسبة للعرب هو” التعريب "، وما يكون بالنسبة لنا تعريباً يكون بالنسبة إلى غيرناً” تغريباً” أو” أَوْرَبَة” مثلاً، وهذا ما فعلته أوروبا عندما نقلت خلاصة الحضارة العربية الإسلامية، وأخذ الغرب ينهل منها ويعتمد على الترجمة في اقتباس علوم العرب، من مراكز الاتصال التي تمثلت في سوريا ومصر زمن الحروب الصليبية، ثم صقلية وجنوبي إيطاليا في عهد الأغالبة، والأندلس، وتمكن في خلال قرنين من نقل الثقافة العربية التي كانت الأساس ـ دون شك أو جدال ـ في نهضته الحديثة التي ما تزال مستمرة إلى اليوم .
2 ـ استيعاب الشكل والمضمون:
الترجمة لها جانبان: شكل ومضمون، وكل واحد من هذين له شروطه في النقل حتى لا يكون أمراً آلياً لا معنى له . فالشكل هو كل ما هو قومي (أي منتمٍ إلى المترجَم إليه) ويتعلق بطرق الكتابة والتوثيق والتعليم والأنساق النظرية، والمضمون ليس هو الوقائع الطبيعية أو الاجتماعية في ذاتها، بل هو هذه الوقائع كما تجسدت وتحددت في خبرة الإنسان الآلية ومهاراته عملياً ونفسياً، وفي منتجاته مادياً، وفي تنظيم عمله وإدارته وطريقة تفكيره اجتماعياً وثقافياً، والترجمة هي التي تقوم بدور الوسيط والموصِّل بين العقل والأشياء الواردة من لغة أخرى، أو بين الشكل القومي الخاص والمضمون الذي يوصف بأنه إنساني عام لأنه خبرات الأمم الأخرى ([15]) .
ولا بد من تجاوز الشكل إلى المضمون، عن طريق إذابة هذا المضمون وهضمه وتشربه والتشبع به وتمثله تمثلاً تاماً في وعي المترجَم إليه وواقعه وعقله، حتى لا تكون عملية الترجمة رمزية، كما هو الحال في عمل المجامع اللغوية؛ إذ تُترجم المصطلحات والعلوم، ويغيب التعليم باللغة القومية، أو توكل مهمة وضع لغة العلم الجديد الخاص للمجامع والترجمة فتصبح اللغة بأكملها” اصطناعية تصنع من فوق ثم تفرض على المستعملين فرضاً . وهذا العمل، فضلاً عن استحالته غير مجد، إذ هو مناف لطبيعة الظاهرة اللغوية .... ولا يمكن أن نفسر فشل عمليات التعريب الحالية إلا بعدم إدراك هذا الأمر والاقتصار على سنام جبل الجليد: لغة العلم النظري الخالص تكون من أيسر الأمور وضعاً إذا كانت النقص الوحيد في محددات العلم شكلاً ومضموناً، إذ عندئذ يكفي الاصطلاح الضئيل لسد بعض الثغرات، أما إذا كان المصدر المولد للغة مفقوداً أو كالمفقود، فإن لغة العلم حتى إذا أوجدتها المجامع، تبقى بلا معنى، إلا بالرجوع إلى الأصل الأجنبي الذي وضعت مقابلاً له، وبذلك تتولد ظاهرة غريبة تجعل لغتنا القومية لا تدل على مدلولات يتجه إليها الفكر” ([16]) . والخطة المثلى للترجمة تكمن في إعطاء دور كبير للجامعات في التعريب، حتى تصبح خلية إنتاج للمحددات الشكلية وبؤرة تنظيم لإنتاج المحددات المضمونية في المجتمع ([17]) .
3 ـ استغراق العلم والفكر والأدب:
استغراق الترجمة للعلم والتقنية والمعرفة الفكرية غير المنافية للقيم والأخلاق والدين أمر مفروغ منه؛ لأن العلم والفكر الصحيح لا يُستغنى عنهما في كل زمان ومكان، ولا شك أن الترجمة العلمية هي عصب التعريب ([18]) . أما ترجمة الأدب فهي تحتاج إلى بيان . فنحن نلاحظ أن الترجمة في العصر العباسي تحفظت في شأن الأدب، فلم يُنقل منه إلا القليل مثل كتاب "كليلة ودمنة"، ولم يُترجم الأدب اليوناني لاختلاطه بالأساطير الدينية من ناحية، ولاعتزاز العرب بأدبهم الشعري والنثري ووفرة ما لديهم منه من ناحية أخرى، فضلاً عن صعوبة ترجمة الشعر بصفة عامة . والترجمة الأدبية مهمة كالترجمة في مجال العلوم والتقنية؛ لأنها ـ كما يرى بعض الدارسين ـ تكشف أسس الرؤية الكونية التي تم في إطارها الاختراع العلمي أو الاستخدام التقني، وبهذا يتحقق التواصل بين الإنسان والإنسان في شكل منهجي شامل وسليم ([19]) .
وهذا النوع من الترجمة له تأثيره على الأدب واللغة حديثاً في عدة مستويات:
فمن حيث الأجناس الأدبية ظهرت أجناس جديدة ـ كفن المسرحية ـ وتطورت أجناس قديمة، كظهور التقنيات القصصية الجديدة ومقدمات العمل الروائي، إلى جانب تحديد مفهوم المقال وخصائصه وطرق صياغته المنهجية . كما نتج عن هذا ـ فيما يتعلق بالشعر ـ تنوع أغراضه وتلوين الشعر العربي بألوان المدارس الأوربية . ووازى ذلك ترجمة الفصول النقدية الأوربية المعرّفة بتلك الأجناس الأدبية بقصد تيسير عملية استيعاب هذه الأجناس . فتم بذلك تحليل الخطاب الحضاري المتغلغل في الجنس الأدبي، كما تم تعقّله وفهم أدواته، ثم التأليف بالقياس عليه . وقد ساعد كل ذلك على تطوير الذوق الأدبي عندنا، إلى جانب تطوير الرؤية الأدبية وفتح مسالك فنية جديدة في أدبنا العربي .
وأما من حيث اللغة، فقد تطورت على أساس تجاوز المحسنات إلى استعمالات لغوية جديدة تميل إلى الصنعة الفنية، لكن تتجنب التصنع . ومن حيث المفاهيم، ظهرت مفاهيم مستحدثة، كالديمقراطية والمواطنة والحرية، وهي ـ وإن كانت مفاهيم فكرية في جوهرها ـ دخلت الاستعمالات الأدبية وأصبحت سمة نوعية بارزة لبعض الشخصيات والمعاني في عالم الرواية والمقال والقصة، كما أصبحت باباً لتوليد المصطلحات وإعادة الصياغة وتطوير النصوص الأدبية، بل تطوير اللغة نفسها، وصارت مجالاً للربط بالمعرفة العربية الخالصة التراثية والمعاصرة([20]).
ثانياً ـ دور الترجمة والتعريب في التنمية:
الترجمة أنواع يعنينا منها الترجمة الثقافية . وترجع أهمية هذا اللون إلى صبغته الكتابية التي تضمن له بقاءً وحفظاً، وإلى أنه حجر الأساس في طريق التبادل الثقافي بين الأمم والشعوب، والسبيل إلى معرفة ما عند الآخرين من الرقي العلمي والمعرفي، وبذا يعد هذا النمط أحد أسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وبناء الحضارة . ولا تقتصر أهمية الترجمة بهذا الفهم على الدول غير المتقدمة، بل تعم جميع الدول متقدمها ومتأخرها وسابقها وناميها، والدليل على ذلك أن الدول القوية المتقدمة يُترجم فيها أضعاف ما يتم ترجمته في الدول النامية .
وإذا أردنا أن نتحدث عن الآثار المباشرة للترجمة والتعريب في التنمية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً على حدة في كل جانب من هذه الجوانب، فإن ذلك من الصعب للتشابك والتلاحم بينها جميعاً؛ فما هو سياسي يتصل بما هو اقتصادي واجتماعي وعلمي، وما هو اقتصادي يلتحم بما هو سياسي واجتماعي وعلمي وهكذا . وكل ما نستطيع قوله هو أن للترجمة والتعريب تأثيراً حضارياً شاملاً يعم الإصلاح والتقدم في هذه الوجوه كلها، وإن كان من الممكن أن نميز في ذلك ونفرق بين النقاط الآتية:
1 ـ أثر الترجمة والتعريب في الحفاظ على الذات والهوية:
الحفاظ على الذات والهوية والتعبير عن الانتماء إلى جماعة معينة من أهم وظائف اللغة الحيوية . وليس من الغريب في شيء أن نشبه من يتخلى عن لغته العربية وتعريب مجتمعه والترجمة إليه (بسبّاك) ر . ل . تراسك في كتابه "أساسيات اللغة”الذي افترضه وتخيّله بأنه يقطن لندن ويتحدث الإنجليزية الخاصة بالطبقة العاملة في منطقته، ونتيجة لاستيائه من أسلوب كلامه وتأثره بكلام الطبقة الوسطى الراقية التي يتعامل معها ـ قرر ترك طريقة كلامه التي اعتادها والتقرب بهذا إلى تلك الطبقة العليا، وقد ترتب على ذلك سخرية عائلته وأصدقائه منه والنفور منه ومنابذته بل معاداته، يقول تراسك: (( ولكن لماذا ؟ أليس من حق كل فرد التمتع بمكانة لائقة ؟ لا ليس كذلك، فنحن عند حديثنا عن "الأشكال(اللغوية) ذات المكانة”تغاضينا عن شيء في غاية الأهمية ـ شيء ذي علاقة بواحدة من الوظائف الحيوية للغة .... إن كل فرد في حاجة إلى الحفاظ على الهوية الخاصة به، أحد الجوانب الهامة لتلك الهوية (هو) المشاركة في الجماعات، واللغة هي التي توفر السبيل القوي للحفاظ والثبات على المشاركة في الجماعة ..... لذلك عندما يحاول السباك تغيير كلامه عمداً يكون قد أفصح عن شيء بوضوح وهو” لم أعد واحداً من جماعتكم” وهو إذا أصر على موقفه ذلك سيعي الآخرون الرسالة وسيجد نفسه خارجاً عن الجماعة )) ([21]) ـ أقول ليس من الغريب ولا البعيد أن نستعير مثال تراسك المحدود والضيق لواقعنا اللغوي العربي الكبير المهترئ المرقع، فما أشبه كثيراً من متكلمينا اليوم بسبّاكه ! وما أضعف موقفنا في مهب رياح العولمة العاتية التي شملت كل شيء: الاقتصاد والتجارة والثقافة واللغة الإعلام والتعليم والطعام والشراب، وإن (( عولمة التعليم واللغة والثقافة هي الأخطر؛ لأنها تقتلع (الذات) وتطمس الهوية وتلغيها وتستبدلها، فالعربية اليوم بدأت تُخرَج من المعاهد والجامعات، وحتى مراحل التعليم الأساس، تحت شتى الفلسفات والذرائع لتحل محلها الإنجليزية أو غيرها، فتنشأ أجيال لا ذاكرة لها، ولا تاريخ ولا ماضي ولا وطن ولا حاضر ولا مستقبل )) ([22]) .
إن الترجمة تخلصنا من التبعية اللغوية وتعطي لنا قسطاً كبيراً من الاستقلال في هذا الشأن والحفاظ على الهوية، بتجنب استيراد لغة أجنبية تكون بديلة عن لغتنا في أغلب الأحوال والاستعمالات، وتحول دون القطيعة بيننا وبين تراثنا الكبير الذي استوعبته العربية، وبذا نفيد من هذا التراث ونكمل البناء عليه ونصل الماضي بالحاضر والمستقبل . وإن المحاولات الإصلاحية لا تستقيم إلا بتوفر تصور تام لحاضر الأمة ومستقبلها، والسمو إلى وعي الفكر بامتداد الذات وبعدم انفصام العروة بين ماضي هذا الفكر وحاضره ومستقبله، فهذه هي قضية العرب بالأمس واليوم وقضية الترجمة كذلك ([23]) .
2 ـ دور الحرص على تعريب التعليم:
تلازم الترجمة والتعريب ووضع المصطلح فكرة صحيحة لا جدال فيها، ويرتبط بهذا تعريب التعليم . وإن الذين يظنون أن اللغة والعلم توءمان، وأن العربية لا تصلح لغة للتعليم لأنه ينبغي أن يكون بلغة المتقدم ولأن ثمة لغات تصلح لأن تكون لغة علم وتعليم ـ كالإنجليزية ـ ولغات لا تصلح ـ نقول لهم إنكم لستم على صواب وأنتم بفهمكم هذا تخالفون ما تشهد به خصائص العربية وتاريخها وقدراتها وتغفلون عن طاقاتها الحقيقية . وإن هناك لدوافع تدفع إلى تعريب التعليم والاعتماد على الترجمة، منها:
أ ـ أن اللغات ـ كما قلنا ـ من أهم مقومات الأمم وعوامل تميزها وحفظ هوياتها وصيانة ذواتها، واللغة العربية ليست بدعاً في ذلك .
ب ـ أن العلم إذا لم يكن له وطن، فإن للعلماء ورجال العلم أوطاناً، وليس المرجو أن يكون لدينا متخرجون في الجامعات، بل المرجو أن نجعل العلم يتوطن في بلادنا وحقولنا ومصانعنا، وينبت ويزهر ويثمر في عقولنا، وهذا لن يتأتى إلا إذا صارت المعرفة نبضاً في العروق وخلايا في الأجسام، لا حلية نعلقها في الأعناق أو قناعاً نغطي به الوجوه .
ج ـ أن استيعاب المتعلم للعلم بلغته الأم أفضل من استيعابه بلغة أجنبية، وقد أثبتت ذلك تجربتان أجريتا على مجموعتين من طلاب الجامعة الأمريكية في بيروت في أواسط الستينات، كما أن تقريراً شاملاً أعده خبراء اليونسكو عن استخدام اللغة الوطنية في التعليم أوصى باستخدام هذه اللغة في التعليم لأقصى درجة ممكنة، وكذلك مؤتمر التعريب الرابع المنعقد في نيسان (إبريل) سنة 1981 م بطنجة كان من توصياته أن” التعليم باللغة العربية ليس استجابة للمشاعر القومية ولا زلفى لها، ولكنه كذلك استجابة للحقائق التربوية التي أثبتت أن تعليم الإنسان بلغته أقوى مردوداً وأبعد أثراً وأنه أحفل بالنتائج الخيرة من (الناحية) الكمية والذاتية” ([24]) .
وإن تعريب التعليم ليس معناه إهمال تعلم لغة أجنبية والانغلاق والانزواء بعيداً عن الآخرين، بل معناه أن يكون للغة الأم دورها الأساسي وألا تحل محلها لغة أخرى ([25]) . والدليل على ذلك أن مؤتمر تعريب التعليم العالي في الوطن العربي الذي عقد في بغداد سنة 1978 م أوصى بوجوب مراعاة واقع التعريب، بحيث يدرس الطالب لغة علمية أجنبية بأيسر السبل المتاحة، لمتابعة المعرفة العلمية في الكتب والدوريات، وجعله قادراً على الإفادة من اللغة الأجنبية التي يمكن أن يدرّس بها الأستاذ إحدى المواد المقررة، واختبار معرفة الطالب بتلك اللغة الأجنبية . وإن هذا التيسير لا يعارض حركة التعريب، بل يتيح فرصاً للعربية لكي تنمو وتفتق طاقاتها، ويتمكن أبناؤها من القيام بدور فعال في العلم والحضارة العالمية، وذلك من خلال تنشيط التبادل العلمي بينها وبين اللغات الأخرى ([26]) .
3 ـ أثر الترجمة والتعريب في التنمية حضارياً (علمياً وسياسياً واقتصاديا واجتماعياً):
الترجمة صارت في عصرنا بالنسبة لأية أمة ـ متقدمة كانت أو نامية ـ ضرورة للحياة وتبادل المعلومات والمعرفة وللتلاقح الثقافي، والمأمول فيها أنها ـ إلى جانب التعريب ـ بالنسبة للأمة العربية طريق نهضة يدل على شبابها وحيويتها ورغبتها في التقدم، والفرق في الترجمة بين الأمة القوية والأمة التي تسير في اتجاه طريق النهضة والتنمية، أن الأولى تأخذ وتعطي، أي تترجِم عن غيرها وغيرها يترجِم عنها، لأن الأطراف متساوية في درجة الرقي والتقدم، أما الثانية فالمفترض فيها أنها تأخذ إلى حين أكثر مما تعطي أو لا تعطي، أي تترجِم وتنقل من غيرها، وغيرها لا يكاد يأخذ منها لأنها ليس لديها ما يمكن أن يأخذه الآخر منها ([27])، وهذا إلى حين أن تتعافي الأمة الناهضة الآخذة أكثر مما تعطي، وتنتقل إلى أمة متقدمة راقية . وهذا ما نرجوه لأمتنا والمفترض بالنسبة لنا، وإن كان الواقع والحاصل يقولان إن أشواطاً طويلة ما زالت أمامناً ينبغي أن نقطعها؛ لأن حجم ما نترجمه أقل بكثير مما ينبغي، وما تترجمه الدول المتقدمة بعضها عن بعض أكثر بكثير . والخلاصة أن الأمة المترجِمة فقط ضعيفة وأقل حضارة مادية ومدنية من غيرها، لكنها ليست مهزومة نفسياً، بل هي بالترجمة تكون محاولة للنهوض والخروج من تيه التخلف وعدم الوقوع في هاوية التراجع والغياب والاضمحلال .
وبناءً على ما سبق، لنسأل أنفسنا سؤالاً لمحنا فيما مرّ إلى طرف من الإجابة عنه: هل من الممكن أن يكون هناك علاقة بين التقدم وضرورة التمسك والأخذ بلغة أجنبية معينة، يقال إنها هي لغة العلم والإدارة والمدنية والتواصل واللغة العالمية، كالإنجليزية ـ مثلاً ـ في عصرنا ؟ الجواب: لا، لأن اللغة ـ أية لغة ـ وسيلة وليست غاية وهي محايدة لا تصنع تقدماً ولا تخلفاً، والذين يصنعون ذلك ويقودون إليه هم أبناء اللغة، فهم الذين يتقدمون إن شاءوا أو يتقهقرون إن شاءوا، يتقدمون إن أخذوا بأسباب التقدم وأولها التمسك بهويتهم ولغتهم هم، ويتأخرون إذا التزموا طريق التخلف، ومن أوضح علاماته فقدان الهوية والذات وضياع اللغة الوطنية والذوبان في الآخر . وإذا ربطنا هذا بالعربية وما تُتهم به، فسنجد أن العدوان الأجنبي الذي حاربها في فترة الاستعمار وخلفته العولمة، قد أديا ـ كما أشرنا من قبل ـ إلى تهميش اللغة العربية وخنقها وحصرها في زوايا ضيقة، وخلق اتجاه سلبي نحوها وربطها بمظاهر التخلف وطردها من المواقع المتقدمة في الحياة المعاصرة، وقد قاد ذلك إلى فقدان كبرياء الأمة الفكرية واحتقار تراثها، ووجود تلازم لدى المثقفين بين مفهوم التخلف الاجتماعي والتقني والثقافة العربية .
والحقيقة التي لا جدال فيها أن أمة لم تنهض دون أن تتمسك بلغتها وتقوم بمشروع ترجمة كبير منظم . وقد مر ذكر مثال الحضارة العربية الإسلامية، ومثال الحضارة الأوربية الحديثة التي قامت على إثر الترجمة عن العربية برعاية حاكمين كبيرين من حكام أوربا ونتيجة اهتمامهما، وهما فريدريك الثاني (1215 ـ 1250 م) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية وملك صقلية وألمانيا، وألفونسو العاشر ملك قشتالة الملقب بالحكيم (ت 1284 م) . ولعل ما قاله المفكر الفرنسي الشهير روجيه جارودي يلخص هذا الحدث الحضاري البارز في تاريخ البشرية وأثر الترجمة عن العرب والمسلمين فيه، لقد قال:” إن الحضارة العربية الإسلامية قد أغنت الإنسانية خلال ألف من الأعوام وهيأتها للمستقبل . فقد نقلت الحضارة العربية عبر صقلية وإسبانيا إلى أوروبا ثقافة كان العرب يحملون همها وتبعاتها خلال قرون عشرة . وعن طريق الترجمة راحت هذه الثقافة تفعل فعلها ... لقد ولد (الغرب المعاصر) من إسبانيا (ألفونسو العاشر) ومن صقلية (فريدريك الثاني) وهما المعجبان بالحضارة العربية الإسلامية المتحمسان لها، تلك الحضارة التي كانت المرضع لحضارة الغرب” . ([28])
وها هو حديثاً مثال اليابان الصارخ ينطق بأنه لا علاقة للتقدم باستيراد لغة أجنبية؛ فهو بلد قد تقدم لأنه ترجم ترجمة واسعة علوم العصر واستوعبها بلغته، دون أن يتعلم كل أبنائه الإنجليزية أو غيرها ويهجروا لغتهم ـ برغم صعوبتها الشديدة ـ ودون أن يكونوا من أحفاد أوروبا، هم استوعبوا المعرفة بلسانهم هم وجعلوها جزءًا من نسيج الحياة فأبدعوا . إن أمر الترجمة في اليابان يصل إلى حد أنها تتعاقد مع دور النشر الأجنبية الكبرى لترجمة مطبوعاتها في مختلف ميادين المعرفة أولاً بأول، بحيث تصدر ترجمة المؤلفات أحياناً إلى اللغة اليابانية في الوقت الذي تنشر فيه بلغتها . وقد كان الاتحاد السوفياتي ينهج هذا النهج، ومن المخطط والمفترض أن يتم ذلك بالنسبة للعربية في إطار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم .
إن خطط التنمية الشاملة المعلنة تنتهي في أغلب الأحيان إلى تحقيق "المشاكلة”مع المجتمعات المتقدمة، والمشاكلة في الحقيقة تعني تحقيق التشبه بهذه المجتمعات، وهذا التشبه يزيد التبعية ولا ينجز شيئاً . وفي الحالات الأكثر طموحاً تتحقق "المماثلة"، وهي ليست إضافة كيفية، بل هي إضافة كمية ولا تكفي لأن المجتمعات المماثَلة تَسبِق كلما أُدركَت . أما الحالة المثلى المنشودة فهي الوصول إلى مرحلة "المشاركة”في صنع الحضارة وإبداعها، وهي تعني التقدم الموازي لا المتتابع . ولا يتم ذلك بالنسبة لنا إلا عن طريق التعريب بمفهومه الواسع الذي يؤدي إلى خلق الشخصية العربية المتميزة المبدعة وإيجاد العطاء العالمي النوعي الخاص؛ ذلك لأن التبادل لا يكون بين الأشياء المتماثلة . فالتقنية وإن كانت بطبيعتها نمطية، تخضع للتخصص والإبداع، فهناك التقنية الأوروبية، واليابانية، والروسية، والصينية، إلخ، وهكذا يمكن للأمة العربية أن تسهم في الحضارة العالمية المعاصرة، متجاوزة عقبات التخلف وأن تصنع تقنية عربية، وبذا يفضي التعريب في عاقبة الأمر إلى خلق واقع حضاري جديد على كل المستويات ([29]) .
وإن الترجمة تضع في أيدي الجميع وسائل العمل الحديثة وأدواته، وتجعل كلاً يقف على عتبة هذا العصر الزاخر بالجديد، بحيث يكون في حال "الاستعداد”لإنجاز الفعل الإيجابي الذي يتمثل في المشاركة في صنع التقدم العلمي العالمي؛ لأنه” لكي يتمكن العرب من الاطلاع على منجزات العصر الحديث لا يكفي أن يلم قلة قليلة منهم باللغات الأجنبية، بل لا بد من إتاحة المجال لعامة الناس وخاصتهم لأن يكونوا على اتصال مباشر بما يجري في عالم التقنية الحديثة والعلوم المتطورة، وأنى لهم ذلك إلا من باب الترجمة الواسع، فالتعريب هو السبيل الوحيد لتحقيق وصول شتى المعارف المتطورة إلى أفراد العالم العربي وشعوبه” ([30]) .
صحيح أن الترجمة ليست كل شيء في سبيل الإصلاح والتقدم، ومع ذلك هي تمثل طوراً مهماً وأداة فعالة في هذه السبيل، ولذلك نجد أن أوسع حركة للترجمة المعاصرة ـ كما ذكرنا من قبل ـ بين لغات الدول المتقدمة، أي بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية وما شابهها ([31]) .
ومما هو جدير بالإشارة إليه هنا العلاقة المهمة بين السياسة والتعريب فكل منهما يؤثر في الأخر ويتأثر به، وإن كان تأثير السياسة في التعريب هو الأقوى والأولى بأن يُبدأ به ويكون الموجِّه؛ وذلك لأن السياسة هي الحاكمة وهي المسيطرة ولأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وما يبذل فيه وقت طويل لإتمامه، قد يُحسم بقرار سياسي راشد في لحظات أو وقت قصير . والتعريب يسري عليه هذا كما يسري على غيره؛ فبتأثير دفع السياسة العربية الإسلامية المنتصرة الراسخة، فُرضت العربية لغة الدين الجديد منذ الفتوحات الأولى، وصارت اللغة الرسمية الحكومية في العصر الأموي، بعد أن مهّد لها حكم الأمويين في نصف قرن . وقد أمر الخليفة عبد الملك بن مروان باستعمال العربية في المراسلات الرسمية ودواوين الخراج، فحُسم الأمر وعُرّب كل شيء ([32]) . أما نحن الآن فقد مر علينا أكثر من مائة سنة وما زلنا نتخبط في التعريب لأنه لا يوجد قرار سياسي إصلاحي ملزم، والمجامع اللغوية وما يشبهها من المؤسسات تهاجَم وهي مغلوبة على أمرها ولا حول لها ولا قوة .
إن من أهم آثار التعريب السياسية أنه المؤدي إلى دعم الوجود العربي والوحدة العربية وأنه رابطة تجمع الشعوب العربية كلها وتوحدها، وهذه الرابطة ممتدة في المكان في رقعة جغرافية كبيرة من المحيط إلى الخليج، وممتدة في الزمان قرابة أربعة عشر قرناً . وهذا نسيج فريد من الوحدة ومزية لا تتحقق لكثير من الأمم، وقد حاول الاستعمار تفتيت جسم هذه الوحدة العربية الكبيرة وكسر عظامها وتغيير لونها وزعزعة وجودها بتقسيمها إلى دويلات وفرض لغته عليها، ونتج عن ذلك أمراض كثيرة وبعض التشويه اللغوي، ولن يضمن للوطن العربي النجاة والعافية والبرء من هذه الأسقام إلا بالوحدة اللغوية وعودة التعريب الشامل وتطهير خلايا الجسم من الجراثيم اللغوية التي عبثت به .
كما أن من أهم آثار الترجمة التي لها علاقة بالجانب السياسي والثقافي أنها تجعل ثقافات لغات متعددة تَصبّ ـ كما هو الشأن في حالتنا نحن العرب ـ في مجرى لغة واحدة وشعب واحد، وفي هذا ما فيه من إبقاء الأمة ذات وحدة وقوة وتآلف وانسجام، وأما التعجيم والتغريب ـ وهما عكس الترجمة بمعناها الواسع ـ فيعنيان انقسام أبناء الأمة وتفرقهم وتوزعهم على لغات متعددة وانتماءات ثقافية مختلفة وهويات خارجية، فهذا ثقافته ولغته الأخرى تجذبانه نحو "الفرنسة"، وهذا نحو "الأجلزة”و"الأمركة"، وهذا شطر ألمانيا، إلخ ... وهذا فيه ما فيه من التشرذم والتفرق.
ومن آثار التعريب المتداخلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أنه وسيلة مخاطبة الجماهير العريضة وتثقيفها والتعبير عنها، وتحقيق العدل بالنسبة لها وإعطائها حقوقها ومساواتها طبقياً . والتعريب من هذه الزاوية بعد من أبعاد النضال من أجل الديمقراطية في البلاد العربية؛ لذا يرى بعض المفكرين” أن هذا الصراع من أجل الديمقراطية لا يكون إلا لصالح العربية والتعريب، كما أن التعريب لا يكون إلا لصالح الديمقراطية في البلاد العربية” ([33])؛ وذلك لأنه يقلص مكاسب النخبة والقوة الاجتماعية والسياسية المتزايدة التي ترتبط مصالحها ومطامعها بانفتاح اقتصادي ينتج عنه استهلاك فكري وثقافي واستعمال وظيفي للغة أجنبية أكثر جلباً لمكاسبها، ويصاحب ذلك لديها رفض للتعريب وتخوف منه بل محاربة له بسبل شتى، منها القول بأن تحقيقه باهظ الثمن اقتصادياً . وهذه مغالطة كبيرة لأن عكس ذلك ـ وهو التغريب أو التعجيم ـ هو الخسارة الاقتصادية الفادحة بعينها، ويكفي دليلاً على ذلك أن التعريب يمكن أن يحقق تنمية اقتصادية كبيرة، بتوفير الأموال الطائلة التي تنفق على تعلم اللغة الأجنبية وتعليمها بصورة مغلوطة ومبالغ فيها في جميع مراحل التعليم وفي غير ذلك من المجالات .
4 ـ أثر الترجمة والتعريب في تنمية اللغة ودراساتها وتدريسها:
نستطيع أن نحصر ذلك في النقاط الآتية:
أ ـ الترجمة الحاضرة يُطمَح فيها أن تجسد ما تستطيعه من بنية فكر المنشئ أولاً، وأن تسهم في توسيع بنية اللغة التي يُترَجم إليها ثانياً، بمعنى أن تكون الترجمة تفجيراً للغة وليست حشراً لكل شيء في البنية القائمة بشرحه وتبسيطه، والتفجير هنا معناه توسيع بنية اللغة القائمة وتمديدها بحيث تصبح أكثر غنىً ومرونة وإضافات . وذلك” ما فعله المترجمون العرب حين كانت مغامرتهم الفكرية مع العالم مغامرة الرائد الواثق القادر، مغامرة المدرك لكون استيعاب العالم لا يمكن أن يتم في إطار البنية القائمة لديه، بل يحتاج إلى تفجير هذه البنية وتوسيعها لتصبح قادرة على استيعاب العالم دون أن تحشره وتضغطه وتبسّطه” ([34]) .
ب ـ ذكرنا من قبل أن من الآثار الطيبة التي ترتبت على الترجمة في عصر محمد علي وما تلاه ترجمة قواميس كثيرة بلغات مختلفة إلى العربية، وانتعاش العربية من جديد ونهضتها بتوجيهها إلى الاهتمام بالمعنى دون اللفظ، والجوهر دون العرض، وتخليص الأسلوب من قيود صنعة البديع التي سادت في عصور الرقاد، وظهور مفاهيم جديدة . وكذلك أدى التعريب ويؤدي إلى جعل العربية مسايرة للمدنية المعاصرة، وعدم وأدها وحصرها في أداء الشعائر والطقوس الدينية ومنعها من أن تصير لغة كهنوتية كالسريانية، عندما سادت العربية وسيطرت في فترة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية .
ج ـ مما يتعلق بتنمية دراسة اللغة من خلال الترجمة، أن ثمة اتجاهين في دراستها: اتجاه ينظر إليها باعتبارها مرتبطة باللغة، وقد انتهى الأمر في ذلك إلى أن محاولة وضع نظرية في الترجمة ـ برغم صعوبة ذلك لأنها عمل تطبيقي ـ لا يمكن أن يتم دون أن يكون نظرية في اللغة، تبعاً للاتصال الوثيق بينهما، واتجاه ينظر إليها من زاوية التقدم العلمي والتقني وما يمكن أن يفرزه من تطوير في عملية الترجمة، من منطلق ضرورة ملاحقة نقل الكم الهائل المتتابع من المعلومات وضمان إعلام علمي سريع، وقد وصل الأمر في ذلك إلى اكتشاف تقنية لغوية تمثلت في الترجمة الآلية التي أدت إلى تطوير واقع الدراسات اللغوية وتوجيهها وجهة جديدة ([35]) .
د ـ مثلما أن للتعريب أثراً في تطوير اللغة، له أثر كذلك في تطوير تدريسها وتعليمها وإصلاحه؛ ولذلك أنشئت معاهد ومؤسسات علمية تحاول أن تدرّس العربية بمواكبة روح العصر كدار العلوم في مصر وجمعية العلماء في الجزائر وجمعية ابن خلدون في تونس ([36]) .
خاتمة:
تبين لنا من دراسة نقاط البحث المختلفة عدة أمور من أهمها:
أولاً:
أن التعريب مصطلح تتداخل معانيه وتختلف، غير أن أهمها وما نرتضيه هو أنه معنى شامل يقصد به صبغ كل شيء في حياتنا بالطابع العربي الخالص وجعله منتمياً إليه ومستمَداً منه، وهذا يشمل تعريب المصطلحات والكلمات وممارسة اللغة والتعليم والإدارة والاقتصاد والسياسة وسائر أمور الحياة . والتلازم بين الترجمة والتعريب يكون من خلال النظر إلى الترجمة المرجوة على أنها ينبغي تتصف بالاستيعاب والشمول والتنظيم، في المصادر والمعارف والشكل والمضمون، واستغراق العلم والفكر والأدب . وقد تم تأييد ذلك بمقارنة الأنموذج المشرق للترجمة في العصر العباسي بالترجمة في العصر الحديث .
ثانياً:
أن أثر الترجمة والتعريب في التنمية يتمثل في أربعة جوانب: الأول: الحفاظ على الذات والهوية، والثاني: تعريب التعليم، والثالث: التنمية الحضارية بمفهومها الشامل، والرابع تنمية اللغة نفسها وتنمية دراستها وتدريسها .
ثالثاً:
أن الحفاظ على الذات والهوية يحقق أهم وظائف اللغة وهي وظيفة التعبير عن الانتماء إلى جماعة خاصة وكيان له وجوده وخصائصه، كما يضمن هذا الحفاظ بالنسبة للعرب الاستقلال اللغوي ووصل حاضرهم ومستقبلهم بماضيهم من خلال الاستفادة مما فيه من زاد تراثهم الغني المتميز .
وتعريب التعليم تكمن أهميته في أنه الخطوة الأساسية لحفظ الهوية والذات، وأنه يجعل العلم والمعرفة يتوطنان في النفوس والعقول ونسيج الحياة، وهذا هو الشرط الأول للتقدم التقني المنشود .
رابعاً:
النظر في العلاقة بين الترجمة والتعريب والتنمية الحضارية يتبين منه أن أمة لم تتقدم في التاريخ دون أن تقوم بمشرع ترجمة كبير منظم، وأن الترجمة صارت ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة لكل الدول والأمم متقدمة كانت أو غير متقدمة، وأنها دليل قوة ونهضة وليست علامة نكوص وتأخر، وأن اللغات وسائل وليست غايات وهي بطبعها محايدة لا تصنع تقدماً ولا تخلفاً . وإذن يكون نبذ اللغة العربية في عصرنا الحديث وفرض اللغة الأجنبية أثراً من آثار الاحتلال الأجنبي والعولمة . وإن التنمية اللغوية العربية من خلال الترجمة والتعريب لها الدور الفعال في دفعنا إلى تحقيق التقدم والرقي والمشاركة في صنع الحضارة العالمية؛ وذلك لأن التعريب ـ بمفهومه الواسع ـ يؤدي إلى خلق شخصية عربية ناهضة مبدعة تصنع تقنية عربية وتلد حضارة جديدة . وقد تبين في هذا السياق أيضاً أن من أهم نتائج التعريب في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية دعم الوجود العربي وتقوية الوحدة العربية، وأنه وسيلة مخاطبة أغلب الجماهير وتثقيفهم والتعبير عنهم وتحقيق العدل والديمقراطية وقسط من التنمية الاقتصادية بالنسبة لهم، وذلك بتوفير كثير من الأموال الطائلة التي تنفق في فرض تعليم اللغة الأجنبية وتعلمها، وتقليص مكاسب النخب والقوى ذات المصالح في وجود اللغة الأجنبية وهيمنتها وإقصاء اللغة العربية .
خامساً:
أن الترجمة والتعريب من ناحية التنمية اللغوية يسهمان في تطوير تعليم اللغة وتوسيع بنيتها وتنشيطها وتجديدها وإكسابها قوة وحيوية وبعداً عن الجمود، وأن الترجمة تثري دراسة اللغة وتُطوِّرُها؛ لأن أية نظرية في الترجمة تعد نظرية في اللغة، والترجمة الآلية تعتبر من هبات الترجمة لحوسبة اللغة إلكترونياً .
مراجع البحث
* أساسيات اللغة: تأليف ر . ل . تراسك، ترجمة رانيا يوسف ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ الكتاب رقم 381 ـ 2002 م .
* اتجاهات في الترجمة، جوانب من نظرية الترجمة: تأليف بيتر نيو مارك، ترجمة د . محمود صيني ـ دار المريخ ـ الرياض ـ 1986 م .
* الاستشراق، المعرفة ـ السلطة ـ الإنشاء، لإدوارد سعيد: نقله إلى العربية كمال أبو ديب ـ مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت ـ ط2 ـ 1984 م .
* الترجمة قديماً وحديثاً: تأليف شحاده الخوري ـ دار المعارف ـ سوسة ـ تونس ـ 1988 م.
* الترجمة قضايا ومشكلات (2 ـ تطور الترجمة): مكتب التربية العربي لدول الخليج .
* الترجمة ونظرياتها: إعداد مجموعة من الأساتذة الجامعيين: بيت الحكمة ـ تونس ـ 1989م.
* التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية (في تونس 1981م): بيروت ـ 1982 م .
* العربية تواجه التحديات: الدكتور طالب عبد الرحمن ـ كتاب الأمة ـ العدد 116 ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ قطر ـ 2006 م .
* علم الترجمة بين النظرية والتطبيق: تأليف محمد ديداوي ـ دار المعارف للطباعة والنشر ـ سوسة ـ تونس ـ 1992 م .
[1]) ) ـ انظر : اتجاهات في الترجمة ، جوانب من نظرية الترجمة ، تأليف بيتر نيو مارك ، ترجمة د . محمود صيني (دار المريخ ـ الرياض ـ 1986) 16.
[2]) ) ـ انظر : السابق 20 ـ 22 .
[3]) ) ـ انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية ، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت ـ 1982) 33 .
[4]) ) ـ السابق : 38 .
[5]) ) ـ انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية : 43 ، 69 ، وعلم الترجمة بين النظرية والتطبيق ، لمحمد ديداوي (دار المعارف للطباعة والنشر ـ سوسة بتونس ـ 1992) 450 .
[6]) ) ـ هو الدكتور طاهر لبيب في مداخلته التي بعنوان " البعد السياسي للتعريب وصلته بالوحدة والديمقراطية " . انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي 98 .
[7]) ) ـ الترجمة قديماً وحديثاً ، تأليف شحاده الخوري (دار المعارف ـ سوسة ـ تونس ـ ط1 ـ 1988) 24 .
[8]) ) ـ انظر : السابق 50 ، 51 ، 61 .
[9]) ) ـ مرت الترجمة في العصر الحديث ـ باستثناء عصرنا الحالي ـ بأربعة أطوار : الطور الأول طور ما قبل الحملة الفرنسية وكان لرجال الكنيسة فيه الدور المهم ، والطور الثاني طور دخول نابليون إلى القاهرة ، والثالث طور محمد علي ومن اقتفى أثره من الساسة في طلب أسباب التقدم ، وتمثل هذه الحقبة المرحلة الذهبية للترجمة في العصر الحديث ، والطور الرابع طور الاستعمار ، وقد كان هو الخانق لحركة الترجمة والتعريب والنهضة الحديثة . انظر : الترجمة ونظرياتها ، إعداد مجموعة من الأساتذة الجامعيين (بيت الحكمة ـ تونس ـ 1989 م) 12 ، 12 .
[10]) ) ـ انظر : الترجمة قديماً وحديثاً 71 ـ 73 .
[11]) ) ـ انظر : الترجمة قضايا ومشكلات " 2 ـ تطور الترجمة " (مكتب التربية العربي لدول الخليج) 37 ، 38 ، 41.
[12]) ) ـ انظر : الترجمة قديماً وحديثاً 76 ـ 80 .
[13]) ) ـ انظر : علم الترجمة بين النظرية والتطبيق 451 ، 452 .
[14]) ) ـ انظر : الترجمة ونظرياتها 223 ـ 227 ، 240 .
[15]) ) ـ انظر السابق : 36 ، 37 ، 54 .
[16]) ) ـ السابق : 55 ، 56 .
[17]) ) ـ انظر : السابق 72 ، 73 .
[18]) ) ـ انظر : علم الترجمة بين النظرية والتطبيق 418 .
[19]) ) ـ انظر : الترجمة ونظرياتها 144 .
[20]) ) ـ انظر : السابق 119 ـ 122 .
[21]) ) ـ أساسيات اللغة ، تأليف : ر . ل . تراسك (ترجمة رانيا إبراهيم يوسف ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ المشروع القومي للترجمة ـ الكتاب 381 ـ ط1 ـ 2002 م) 96 ،97 .
[22]) ) ـ العربية تواجه التحديات ، للدكتور طالب عبد الرحمن (كتاب الأمة ـ العدد : 116 ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ قطر) 22 .
[23]) ) ـ انظر : الترجمة ونظرياتها 248 .
[24]) ) ـ التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي : 42 .
[25]) ) ـ انظر : الترجمة قديماً وحديثاً 169 ـ 172.
[26]) ) ـ انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي 42 .
[27]) ) ـ ارتبطت الترجمة من العربية إلى اللغات الأوربية في كثير من جوانبها بإطار حركة الاستشراق فقط ، واتسمت بأنها تمثل علاقة غالب (وهو الغرب) بمغلوب (وهو الشرق) وليست علاقة ندية . انظر : الترجمة ونظرياتها 123 .
[28]) ) ـ ما يعد به الإسلام ، لروجيه جارودي ، ترجمة قصي أتاسي وميشيل واكيم ، نقلاً عن : الترجمة قديماً وحديثاً 67 .
[29]) ) ـ انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي 74 ـ 78.
[30]) ) ـ اتجاهات في الترجمة ، جوانب من نظرية الترجمة ،(مقدمة المترجم) : 5 ، 6 .
[31]) ) ـ انظر : الترجمة قديماً وحديثاً 90 ، 100 ـ 104 .
[32]) ) ـ انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي 30 ، 31 .
[33]) ) ـ التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي : 101 .
[34]) ) ـ الاستشراق ، المعرفة ـ السلطة ـ الإنشاء ، لإدوارد سعيد ، نقله إلى العربية كمال أبو ديب (مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت ـ ط2 ـ 1984) مقدمة المترجم : 14 .
[35]) ) ـ انظر : الترجمة ونظرياتها 86 ـ 90 .
[36]) ) ـ انظر : التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي 32 .