العولمة وعالم بلا هوية
محمود المنير
مدير تحرير جريدة الحركة/الكويت
منذ عشر سنوات تقريبا صدر أول كتاب ألفته يحمل عنوان " العولمة وعالم بلا هوية " نشرته دار الكلمة للنشر والتوزيع بمصر ،وأثرت فيه عدة تساؤلات عن مصطلح "العولمة" وإلى أي شئ تهدف وهل جاءت نتيجة خلل في علاقة الأقوياء بالمستضعفين ؟ وبسطت في الكتاب طرفا من التوقعات التي يمكن أن تحدثها على الاقتصاديات والثقافات وقيم العالم الثالث ، وأشرت إلى أن هناك علاقة وطيدة بين الصهيونية والعولمة وأنها تبشر بنظام عالمي أحادى الأقطاب أزعجه صحوة المارد الاسلامى في العالم في مطلع هذا القرن عقب سقوط الاتحاد السوفيتي ، وها نحن اليوم وبعد عشر سنوات من التدافع الحضاري غير المتكافئ بين الأقوياء والمستضعفين لم نر من تجليات العولمة سوى الانعتاق من الهويات الثقافية والانزلاق إلى مهاوى التخلف والاستضعاف ، حيث حققت العولمة أهدافها في فرض النموذج الأمريكي وتغلغلت الشركات متعددة الجنسيات في اقتصاديات العالم الثالث دون القضاء على الفقر بل أدت إلى ثلاث ظواهر متضافرة ؛ وهى زيادة عدد العاطلين والفقراء في العالم وهذا ما تشير إليه إحصائيات وتقارير المنظمات الدولية ، وأدت إلى تركيز الثروة في أيدي النخبة السياسية وهذا ما نشاهده جليا في الزواج بين السلطة والمال في الكثير من أنظمة العالم ، وأدت "العولمة" كذلك إلى زيادة قمع الدولة وتخليها عن دورها الاساسى في التنمية بكل أبعادها، وثمة تحول جذري أحدثته "العولمة" فما نراه اليوم من تغيرات على الساحة الدولية والساحات الوطنية والمشهد السياسي في معظم دول العالم الثالث هو بداية تحول سياسي جذري في تاريخ العالم السياسي والمفاهيم المؤطرة لعلاقاته ، فالحدود مثلا ، والتي هي إطار ووعاء الدولة وأبرز ملامح سيادتها نجدها تزداد عجزاً يوما بعد يوم عن الوقوف في وجه مالا يعترف بالحدود في الاقتصاد والاتصالات والمعلومات والسلطة والدولة في ظل العولمة فقدت قدرتها السابقة على الإمساك بخيوط التغيير وثقافة المجتمع بل وستعجز مستقبلا في الحفاظ على هوية مجتمعها.
الحقيقة التي نلمسها جمعيا أن "العولمة" جعلتنا نواجه العديد من المعضلات التي ينبغي أن نفكر فيها جديا و من أهمها حماية التنوع الثقافي والهوية الحضارية فمازال الغزو الثقافي يمتد في فراغنا ، ونقرب الصورة أكثر بنماذج بدأت تظهر على السطح وبقوة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ونحن لا نملك إزائها إلا أن نحوقل و نتعجب مثل : تبادل الأزواج ، ونوادي الجنس الجماعي ، ومطالبة المثليين بحقوقهم في الإعلان عن أنفسهم دون ملاحقة القانون ،وظهور حركات شبابية شاذة مثل "الإيموز"، وهذا كله وغيره من تجليات العولمة الثقافية صدرها لنا الغرب مع الإعلام عبر كل النوافذ المفتوحة في القرية الكونية الصغيرة التي لا تعترف بالضوابط ولا الخصوصية ولا الحدود !!
فالعولمة تريد "عالم بلا هوية" ، فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماط استهلاكه على الآخرين، وتستخدم قوى العولمة الإمبراطورية الإعلامية الضخمة الخاضعة للسيطرة الصهيونية والماسونية العالمية ، والوظيفة التي حددت لهذه المنظومة الإعلامية باعتبارها القوة الناعمة للعولمة هي أن تسلى وتلهى وتعلم وترسخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الغربي على الآخرين.
ولذا فعلى الأمة الإسلامية اليوم أن تسعى جاهدة بكل الوسائل التي تستخدمها العولمة لتقدم النموذج الإسلامي الثقافي والاجتماعي والسياسي من خلال تبنى مشروع إسلامي شامل يقوم على تعميق وتجذير الصلة بين الواقع المعاصر وتراث الأمة الإسلامي الحضاري مع الاستفادة من منجزات البشرية في تقديم النموذج الإسلامي لينقذ الإنسانية من سطوة شذاذ الآفاق ويحقق النهضة والريادة لهذا الدين ، فهل نحن فاعلون ؟!