حول النقد الذاتي وأهميته للنهضة والحياة

د. محمد رفعت زنجير

د. محمد رفعت زنجير

الأستاذ المشارك بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا

[email protected]

فكرة النقد الذاتي فكرة منهجية منطقية تمارسها الأمم المتحضرة باستمرار، وقد عرفها الناس من قبل أيام أرسطو وأفلاطون. أذكر أنني قرأت تصريحا لأحد الأمريكيين تحدث فيه عن بعض السلبيات التي تهدد المجتمع هناك ولكنه أردف فذكر فيه أن من مزايا المجتمع الأمريكي أننا ننقد أنفسنا باستمرار وهذا ما يؤهلنا للبقاء في القمة.

وفي التاريخ الإسلامي كان عمر يقول رحم الله أهدى إلى عمر عيوبه فقد كان عمر رضي الله عنه يعتبر الدلالة على العيوب هدية،

لأن الإنسان قد لا يرى عيوب نفسه فيدله أخوهوالمؤمن مرآة أخيه كما في الحديث من أكثر الناس مراجعة للذات ومحاسبة للنفس بعض أهل التصوف، فهم يجلدون نفوسهم بكثرة المراجعة والمجاهدة والحساب عملا بالحديث (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)، ولكنهم كانوا أحلاس بيوتهم، فلم تتحول المجاهدة إلى عمل اجتماعي مفيد، بل تحولت إلى انسحاب من المجتمع وعزلة قاتلة كسرها هولاكو عندما اقتحم بغداد وذهبت سيوفه بالصالح والطالح معا...فنقد الذات يجب أن يؤدي إلى تطوير المجتمع وتغييره لا إلى الإنسحاب منه لأن الإنسان كائن اجتماعي. وعامة العلماء وأهل الحديث والأدب ـ وبخاصة أبي العلاء المعري رحمه الله ـ مارسوا النقد الذاتي بشكل فردي ما ينقصنا النقد الذاتي الحضاري أي أن نسأل أنفسنا لقد كنا ذات يوم كما قال جرير:

 ألستم خير من ركب المطايا/وأندى العالمين بطون راح

 واليوم نفتح عيوننا فنرى الغرب واليابان والصين وقدملأواالدنيا اختراعات وعلما وتقدما ونحن ننظرإليهم كمتفرجين يرقبون مبارة بالكرة على البطولة. نحتاج أن نعرف الأسباب وهي تكاد تكون معروفة على العموم كتب فيها الكثيرون من جمال الأفغاني وشكيب أرسلان ومالك بن نبي وحتى كتاب اليوم وإنما الأهم أن نمتلك إرادة تغيير أنفسنا حتى يتغير واقعنا، لأن التغيير يبدأ من النفس أولا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

ومع اتفاقنا أحيانا واختلافنا أحيانا مع بعض ما يطرحه الدكتور خالص جلبي في هذا الموضوع، فإنه ينبغي أن نقر أنه يمكن أن يعد صاحب مدرسة في الإصثلاح والنقد الذاتي في العصر الحديث.. فركام المعرفة التاريخية والسلوك الواقعي والمعرفة القادمة من عصر العولمة كل ذلك يحتاج إلى دراية وخبرة ونقد وتمحيص وتقويم، وهو يدخل ضمن النقد العلمي والحضاري، ولكن ما يخص تراثنا العربي الإسلامي فهو يندرج ضمن النقد الذاتي ومن يرى البون الشاسع بين اهتمامات المتكلسين الذين يعيشون في الماضي والمتحللين الذين يذوبون في الآخر يدرك أننا بحاجة إلى ثقافة جديدة متوازنة تجمع بين أحسن ما في الماضي وأحسن ما عند الآخر، أو بتعبير زمان بين صحيح العقل والنقل ولا تناقض بينهما البتة فلنبأ ببناء مقومات الإنسان من داخله أولا، ولندع له حريته التي وهبه الله إياها، ولنعلمه أن يتقبل الآخرين ويتقبلوه، وأن يقبل النقد العلمي مثلما يقبل الثناء، وأن يكون هو الناقد الأول لنفسه وأدبه، وقد أكبرت في الراحل طه حسين موقفا حين سئل عن أحب كتبه إليه فذكر أنه غير راض عن أحد منها.

ولعل السبب في عدم رضاه أن الإنسان الذي يصل لمحطة، فيضع لنفسه محطة أخرى قبل أن يصل للأولى يبقى مسافرا طول الحياة، بعكس الإنسان الذي يضع لنفسه محطة واحدة فإذا وصل إليها انتهى وظن أنه صار على القمة، وهو الشأن في حال كثير من كتابنا اليوم. عندما يتحول الكاتب منمحلي إلى إقليمي إلى دولي يجد في كل مرة أمامه بحارا يجب أن يخوضها وأن الآخرين سبقوه فيحس بالتقصير، ويعيش حالة من القلق، والقلق هو الذي يخلق الإبداع، والإبداع حركة متجددة لا تتوقف عند حد!

هذا اهو الفرق بين كاتب ينقد نفسه لأنه يعلو قمة بعد أخرى وبين كاتب لا يمارس من النقد الذاتي شيئا فيظن نفسه كالقاضي الفاضل في زمانه، وهو بعيد عنه بعد الأرض عن السماء! والخلاصة أن النقد الذاتي هو الخطوة الولى والهم في صناعة الإنسان الإيجابي والمجتمع المتعاضد المتحضر القوي، والنقد ليس بذاءة اللسان والتهكم على الآخرين كما يظنه البعض، ولكنه عملية موضوعية تبين الإيجابيات والسلبيات في السلوك البشري والنتاج العلمي والأدبي، وهي تهدف لرفعة الإنان والمجتمع الإنساني الرشيد.