نظرية الاكتساب الفطري للفصحى

وصلتي بها وبرائدها د. عبد الله الدنان

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

كان من سوالف الأقضية أن يحدثني أستاذي الفاضل الدكتور محمد حسان الطيان في مطلع دراستي الجامعية سنة 1992م عن تجربة طريفة لأستاذ تربوي أجراها على ولديه الصغيرين، تعتمد على تواصله معهما باللغة العربية الفصحى تواصلاً تامًّا، في حين يتواصل سائر أفراد الأسرة معهما باللهجة العامية، فغدَوَا طفلين فصيحَين قادرَين على الحديث بالعربية الصحيحة دونما لحن، مع إتقانهما لهجة بيئتهما العامية!

ووقعت قصة هذه التجربة في نفسي موقعًا حسنًا، لكنني لم ألبث أن نسِّيت أمرها إلى أن شاء المولى سبحانه أن تقع عيني بعد سُنَيَّات -في نحو 1996م- على إعلان عن محاضرة في كلية التربية بجامعة دمشق، يلقيها صاحب تلكم التجربة؛ الدكتور عبدالله الدنَّان، يعرض فيها نتائج تطبيقها وأهم ثمراتها.

سبيل النهوض

وبادرتُ إلى مكان المحاضرة، وكلي شوق إلى الاطلاع على نظريته وطريقة تطبيقها، يحدوني إلى ذلك حبٌّ راسخ في جَناني للعربية لغة كتابنا، وعنوان هويتنا، وأملٌ في إحياء هذه اللغة العبقرية الشريفة على الألسنة، والعودة بها إلى المكانة المرموقة التي ينبغي أن تعتليَها.

لم تكن المحاضرة أيَّ محاضرة، ولم يكن المحاضر أيَّ محاضر!

كانت الكلمات تخرج من فيه لتستقرَّ في قلوب سامعيه لا في آذانهم، تستشعر فيها غيرةً صادقة على العربية، وحميَّة جيَّاشة لكيانها، ورغبة مخلصة في النهوض بأمتنا من كبوتها، وإنشاء جيل جديد مبدع وقادر على المضيِّ في ميادين الحياة كافَّة بثقة واقتدار.

أجل لم تكن نظرية الاكتساب الفطريِّ للعربية الفصحى فكرةً عابرة، ولكنها أساس لنهضة علمية ومعرفية وثقافية وتربوية يتطلَّع إليها الغُيُر ويرجون قيامها، إنها السبيل إلى العودة بأمة اقرأ إلى عالم القراءة الواعية الذي طالما استدبروه، وإلى تملُّكهم الأداة الناجعة لفهم ما يقرؤون، إنها باختصار عقَّار نافع لكثير من الأدواء التي تعانيها أمتنا في ميادين المعرفة والتعليم!

كان المحاضر يومها في نحو الخامسة والستين من عمره، قد اشتعل رأسه شيبًا، بيد أنه ذو همة وحماسة تتقاصر أمامها همم الشباب وحماستهم! وخير ما فعله حينها عرضُه فلمًا تلفازيًّا مسجَّلاً لولده باسل يوم كان في الثالثة من عمره يُظهره يتحدث العربية السليمة المعربة بطلاقة وثقة بالنفس. وكذلك اصطحابُه عددًا من أطفال روضته التي يطبق فيها نظريته ليرى الحاضرون بأعينهم ويسمعوا بآذانهم كيف يغرِّد الأطفال بالعربية تغريد البلابل، ليكون ذلك أبلغَ ردٍّ على كل مشكِّك في قدرة العربية على الحياة، وعلى كل زاعم أن الفصحى لغةٌ صعبة يعسُر على أبنائنا أن يتقنوها، فإذا بهم لم يتقنوها فحسب، بل صارت لغةً فطرية لهم، تخرج من أفواههم عذبة شجية، تطرب لها الآذان وتجذل بها المُهَج!

وخرجتُ من القاعة طاويًا صدري على همٍّ عظيم، أن أجعل العربية الفصحى قضيتي التي أحيا لأجلها، وأن أعمل على نشرها والتمكين لها، ما قدَرت، وأن أطبق نظرية الدكتور الدنان الفريدة على أولادي في المستقبل، إن شاء الله ويسر.

وتحقَّق الحلُم

وفي النصف الثاني من العام التالي 1997م يهيِّئ الله لي بفضله أسبابَ الزواج، وتلقى رغبتي وطموحي عند زوجتي الرضا والقبول، وتشتدُّ العزيمة على اتباع نهج الدنان، والسير بسيره، والتأسي بفعله. وفي أَصيل الثلاثاء السادس من ربيع الأول سنة 1419هـ يوافقه 30/ 6/ 1998م يُقبل ولدي أحمـد إلى الدنيا كما يُقبل سواه من المواليد، غير أن أباه كان قد أعدَّ له من الخطط والعدَّة ما لا يُعدُّه إلا قليل من الآباء لأبنائهم، ومن أهم ذلك عزيمة حازمة ألا يحدِّثه إلا بالعربية الفصيحة الصحيحة، ليكتسبها اكتسابًا، ولتجريَ في عروقه مجرى الدم!

بل كان والده من قبلُ قد قرأ كتبًا في التربية، منها كتابٌ نفيس لأحد أعلام التربية العرب الأستاذ عدنان السَّبيعي عنوانه ((الصحة النفسية للجنين)) عرض فيه تجاربَ مهمة للغربيين في التواصل مع الجنين مذ يبلغ شهره الخامس في عالم الظلمات الثلاث، وقد طبقتُ كلَّ ما أورده من طرائق، وآتت أكُلَها جميعًا، ومن أهمها الحديث مع الجنين، وكنت ملتزمًا به اللغة الفصيحة.. ومن ثَم كان بدء حديثي مع أحمد بأفصح اللغات وأشرفها من قبل أن يُقبل إلى الدنيا!

عزيمة تهزم التثبيط

لم يكن الأمر سهلاً فكل من حولي يثبِّطني ويفُتُّ في عَضُدي، حتى من كنت أنتظر منهم النصرة والتأييد من أهل الوعي والثقافة لم أسلم من سهام نقدهم واعتراضهم؛ إذ كانوا ينكرون عليَّ أن أحدثَ طفلاً لم يعِ ولم يدرك، ولما ينطِق ويتكلم، بلغة يظنونها صعبةً متأبِّيةً على الكبار بله الصغار، ودع عنك العامة وتعليقاتهم وتندُّرهم، فذلك أمر لم أعبأ به ولم ألتفت إليه!

وحين بلغ أحمد شهره السادس تشرفت بزيارة الدكتور الدنان في روضته (الأزهار العربية) بحرستا، صحبة زوجتي الفاضلة، واطَّلعنا من قرب على أطفال كبراعم الزهر، تجري العربية السليمة المعربة على ألسنتهم جريانَ النهر المتدفِّق، وتستشعر أنهم قد اكتسبوا مع العربية قوة الشخصية والقدرة على التعبير عن النفس، ولم أملك إلا أن أذرف عبرات باردة ابتهاجًا بما رأيت وطربًا لما سمعت.

وزادتني الزيارة عزيمةً وإصرارًا، فمضيت في سبيلي التي اخترتُها غيرَ متوان ولا هيَّاب!

وينقضي حَولٌ كامل ويبدأ أحمد في الوعي والإدراك وتظهر بوادر النجاح بيِّنة غير خفيَّة، فهو يفهم عني ما أحدثه به بالعربية الفصحى، ويفهم أيضًا ما تحدثه به أمه بلهجتنا العامية الشامية.. وما هي إلا سنة أخرى حتى يبدأ يُنتج الأصوات، ويركِّب بعض الألفاظ بلغته الطفولية الخاصة التي لم تكتمل بيانًا غير أنها مفهومة لوالديه، ومن حينها شرع يخاطب كلاًّ بلغته، فإذا جمعتنا مائدة الطعام واشتهى تناول المربَّى، قال لأمه: (مأؤود، مأؤود) [أي: معُّود، باللهجة الشامية]، وإذا طلب مني قال: (أبَّى أبَّى) [أي: مربّى].

أما خير ما أثمرته هذه التجربة في ذاك الوقت المبكر فموقفٌ بديع دَهِشتُ له وتحيَّرت، ومُلئتُ عَجَبًا واستغرابًا، لقد كان هذا الموقفُ الغريب دليلاً بيِّـنًا على إعجاز كتاب ربِّنا الجليل القرآن الكريم، وفيه من الدَّلالات العظيمة ما يُثبتُ بما لا يَدَعُ للشكِّ مجالاً، أن كلام الله نَمَطٌ فذٌّ معجز، دونه كلُّ كلام، مهما علا في سماء الفصاحة والبيان. وقد دوَّنت خبر ذلك الحدث في مقالة بعنوان (موقف طريف من ثمرات الفصحى) نشرت في بعض المجلات.

لغة مختزنة!

ويشاء الله سبحانه أن أنأى عن ولدي وأسرتي، للعمل في مدينة الرياض، في الخامس والعشرين من المحرَّم سنة 1422هـ، يوافقه: 19/ 4/ 2001م. ولم يكن يقلقني ويحزُّ في نفسي مثل انقطاعي عن مواصلة تطبيقي لنظرية اكتساب الفصحى على ولدي الذي بلغ المرحلة التي طالما انتظرتُها وتشوَّفَتْ إليها نفسي، مرحلة إنتاج اللغة والقدرة على الكلام والتواصل!

وتمضي ثمانية أشهر كاملة كأنها ثمانون عامًا، وأنا على مثل الحديد المحمَّى؛ همًّا وضيقَ صدر! حتى يهيئ الله بلطفه أسبابَ استقدام أسرتي للإقامة معي في السعودية، وحين أصل دمشق لاصطحابهم يكون ما لم أتوقَّعْه! لقد انطلق ولدي بالحديث في مدة غيابي عنه، وجرى لسانه بلغة بيئته المحلية ولغة أهله وذويه وهي اللهجة الشامية!

وشعرتُ أنني أخفقت، وأن ما بذلته في زهاء ثلاث سنين ذهب أدراج الرياح! وأن أحلامي وآمالي بتملُّك ولدي لسانَ الفصحاء قد اضمحلَّت وتلاشت!

كان أحمد يكاد يطير فرحًا وسعادة بعودة أبيه، وكأنه يدرك أن رابطةً خاصة تشده إليه، غير رابطة الأبوة والبنوة، ولكنه بلا ريب كان يجهل أن تلك الرابطةَ هي رابطةُ البيان واللغة التي نشِّئ عليها، والتي طالما سمعها من أبيه وحدَه مذ كان جنينًا في رحم أمه!

ولم يذعن الأب للإخفاق ويقبل بالهزيمة، فغضَّ الطرف عن نظرات الشماتة من جلِّ مَن حوله، واستمرَّ كما كان من قبلُ يحدِّث ولده بالعربية الفصحى، والولد يفهم عن أبيه بيد أنه لا يجيبه إلا بالعامية!

ولكنها كانت ليلة لا ثاني لها، فقد خرجتُ بولدي في اليوم التالي لشراء بعض الأغراض، وفي سوق الحَميدية لفت انتباه أحمد (بسطة) على قارعة الطريق، فيها أصنافٌ من التحف الشرقية، فاشرأبَّ إليها يتأمَّلها، وكنت أحمله وأضمُّه إلى صدري، فسألني وهو يشير إليها: (بابا شو هيّ؟)، (بابا شو هَيّ؟)، فأبديتُ عدم الفهم، وكأنه يتحدث بالصينية أو اليابانية! وأعاد السؤال مرات، (بابا شو هَيّ؟)، وأنا أنظر إليه نظرةً بلهاء، وأقول: لا أفهم، ماذا تريد؟! ثم بلغ الغضب منه مبلغًا فصاح بقوة وحزم: (أبي ما هذه؟)! هنا غمرتني سعادة لا توصف، وشعرتُ وكأن طَودًا من الهم قد زال عن صدري، وأدركت إدراكًا جازمًا أن ما زرعتُه في السنوات الماضية لم يضِعْ ولن يضيعَ بإذن الله، وأن اللغة التي اكتسبها من قبلُ مختزنة في دماغه، وما عليَّ سوى الصبر والمصابرة حتى يستعيدها شيئًا فشيئًا.

نجاحٌ فاق التوقُّع

وما ظننتُه كان بفضل الله، فما هو إلا أسبوعٌ واحد وإذا بأحمد يستحضر مخزونه من اللغة الفصيحة، ويكون قادرًا على تركيب جملة سليمة بلا خطأ، ولم يتمَّ الشهرُ إلا وقد استقام لسانه سليقة، وانطلق بالعربية الصحيحة انطلاقًا، مع تحريك الأواخر دونما لحن ولا خطأ ولا تلكُّؤ!

وصار يترجم بيني وبين أمه ترجمة فورية لطيفة، بل اكتسب - بعد أشهر قليلة - من لسان ابن جيراننا الصغير المصريِّ لهجته، فإذا رأيته يحدثه لم يخطر ببالك إلا أنه مصري مثله! وكثيرًا ما كان يروي لتِرْبه وشريكه في اللعب قصةً ما على مسمع منا، يقصُّها عليه باللهجة المصرية، فإذا مضى رفيقه سألته أمه عن القصة فيرويها لها باللهجة الشامية، ثم يعيدها عليَّ بالعربية الفصحى، كل ذلك في مجلس واحد!

ولم يكن يترجم العبارات والألفاظ فقط، بل حتى الصوت كان يؤدِّيه بحسب مخاطبه، من ذلك مثلاً: إذا طلب أن يتناول بيضة عند الإفطار قال لأمه: (عَطيني بِيضَة)، وإذا طلبها مني قال: (أعطني بَيضَة). ومن المواقف الطريفة أنه أجرى مرة سباقًا بيني وبين أمه، وكان الاتفاق أنه إذا أتمَّ تنظيم ألعابه نادانا، ومن يسبق في الوصول إليه يكن فائزًا، وحين فرغ صار ينادي بصوت عالٍ: (ماما انتَهِيت، بابا انتَهَيت، ماما انتَهِيت، بابا انتَهَيت) يكررها مرارًا، مناديًا كلاًّ بما ألفه من لسانه! وفي هذه المرحلة حفظ قدرًا طيبًا من جزء عمَّ، وحين استظهر سورة الفيل سألني: (أبي، ما معنى {طيرًا أبابيل}؟)، فأجبتُه: أي جماعات جماعات من الطير. وبعد أسبوع يفاجئني بقوله: أبي، رأيت قرب حاوية القُمامة قططًا أبابيل!

وكثيرًا ما كان يقوم بالقياس باستعمال ألفاظ وتراكيبَ لم يسمعها مني قط، من ذلك: بعد مشاهدته فلم الافتراس في عالم الحيَوان، أقبل يحدثني عما شاهد، ومما قاله: (ورأيت أُسَيدًا يفترس حُصَينًا!) بتصغير اللفظين، مع يقيني أني لم أنطِق بهما أمامه أبدًا، ولكنه قاس على ما سمع من ألفاظ التصغير، فأصاب في الأول وأخطأ في الثاني؛ إذ الصواب في تصغير الحصان (حُصَيِّن)، وهذا دليل على أنه اعتمد القياس لا السماع!

ومن ذلك أيضًا: أنني كنت أستعمل له اللفظ القرآني (حار يحور، بمعنى: رجع يرجع) ليفهمَ إذا ما قرأ قوله تعالى: {إنه ظنَّ ألن يحور} مرادَ الله تعالى سليقة، ولكنه أدهشني مرة حينما كلمني بالهاتف وقد تأخرتُ في عملي، ليقول لي: (أبي، أرجوك لا تتأخَّر، حُرْ إلى البيت) فاستعمل فعل الأمر (حُر) مع أنه بلا ريب لم يسمعه من أحد قطُّ!

وكان يُظهر بين حين وآخر فهمًا لما يسمع من آيات قرآنية، ويسأل أسئلة تدلُّ على وعي وإدراك لما يطرق سمعه منها، ومن المواقف الطريفة: أنه ذات ليلة كان منشَغلاً باللعب، وأمه بجواره تُصغي إلى ترتيل للقرآن من (المسجِّلة) ومرَّ قوله تعالى: {وقالت اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ الله وأحِبَّاؤُه} فانتفض وصاح: كذبوا.. كذبوا !

كل ذلك وهو لما يبلغ الرابعةَ من عمره، فالحمد لله على توفيقه وإحسانه. وقد حملتني سعادتي الكبيرةُ بنجاح تطبيق نظرية د. الدنان، واكتساب ولدي للعربية الفصحى اكتسابًا فطريًّا، على أن أرسلَ إليه من الرياض رسالة شكر وتقدير؛ لجهوده في نشر العربية على ألسنة الأطفال، ولدلالتنا على هذا الخير العظيم، وتبشيرًا له بنجاح التطبيق؛ لأكون أول من يطبق تجربته على ولده في المنزل، وفق منهجه وأسلوبه وسنَّته.

وهذه صورة مقطع من الرسالة:

شهادة رائد التجربة

وبعد أشهر قليلة من الرسالة، يقدَم أستاذنا الدنان إلى الرياض زائرًا، وأُهرَع إليه في نُزُله، مصطحبًا ولدي أحمد، ليسمع منه ويحاوره، وليطلع من قرب على نتائج تطبيقي. وكم كانت سعادتي حين رأيت من أستاذي الرضا التامَّ، والابتهاج بما حصَّلته معه، وقال لي: إن أحمد الآن كولدي باسل تمامًا حين كان في سنِّه.

وفي هذا اللقاء أظهر أحمد من الفرح والسرور بالدكتور الدنان ما لا يوصف، إذ وجد شخصًا فصيحًا غير أبيه، يتواصل معه بلسانه، وبما يحب أن يسمع من لغة وبيان! وعبَّر عن ذلك بحركات طفولية تلقائية من عناق وتقبيل والتزام!

وقد شرفني أستاذي الفاضل بأن كتب لي فيما بعد شهادةً بنجاح التجربة، وكتب لولدي مثلها، في إهداءين منه أحدهما لي والآخر لأحمد، ودونكم صورةَ شهادته الغالية: 

أطيبُ الجَنى

كنت قد لخَّصتُ في ندوة شاركتُ فيها بمدارس الرشد الأهلية بالرياض، بتاريخ 22 من ربيع الأول 1428هـ عنوانها (كيف ننمِّي الذائقة اللغوية عند الأطفال ؟) = أهمَّ الثمرات المرجوَّة من إتقان الأطفال للعربية الفصيحة في سنيهم الأولى، وهي: 1- القدرة على التعبير عن النفس تعبيرًا دقيقًا مُحكَمًا. 2- الثقة بالنفس، وقوة الشخصية. 3- نشوء علاقة حبٍّ حميمة مع العربية. 4- انعقاد أواصر صداقة دائمة مع الكتاب، تتميز بالوعي وسرعة الفهم. 5- التفوُّق في التحصيل العلمي والمعرفي والثقافي. 6- التعلُّق المتين بتراث الأمة الجليل، وتاريخها المشرق النبيل. 7- امتلاك شخصيَّة أصيلة سويَّة منتمية انتماء حقيقيًّا صادقًا إلى العروبة والإسلام. 8- الإحساس المُرهَف والشعور العميق بإعجاز القرآن الكريم، وأنه فوق كلِّ بلاغة وبيان، وأنه مُفارقٌ لجنس كلام البشر.

وقد تبدَّت بفضل الله تعالى كلُّ هذه المكاسب العظيمة في شخصية ولدي أحمد وحاله، بعد اكتسابه للعربية الفصحى فطرة وسليقة، فغدا قارئًا نهمًا سريع القراءة مع الإتقان والفهم الدقيق، وقد بلوتُه مرارًا مذ بدأ تعلُّم القراءة، فكان يقرأ القصةَ غير المشكولة بضبط ألفاظها وإقامة حروفها في زمن (قياسي)، ثم يعيد روايةَ ما قرأ بحذافيره، دون أن يفوِّت أيَّ معنى من المعاني مهما دقَّ!

وكنت مضيتُ معه على عادة دائمة من بداية وعيه، أن أقرأ له قبل النوم وفي كلِّ وقت فراغ قصصًا نافعة، حتى بلغ ما قرأتُه له مئات القصص، وعندما أتقن القراءة استمرَّ على هذه السنَّة الحميدة، وأحصيتُ له في الصف الثالث الابتدائيِّ زهاء 350 قصة قرأها في العام الدراسيِّ بتمامها! وحين كان في الصف الثاني اشترك في (مجلة باسم) للأطفال، وكان ينتظر وصول أعدادها كل أسبوع بشوق كبير، وما إن تصل حتى يلتهم صفحاتها التهام الجائع، وما يزال حتى اليوم مشتركًا فيها، ومتابعًا لأعدادها التي صارت شهرية.

وفي معرض الكتاب الأخير بالرياض قبل شهرين أهدى إليه أحد أفاضل الناشرين رواية للكاتبة البريطانية العالمية (أغاثا كريستي) فقرأها في ليلتين وهي في زهاء 300 صفحة، وأُعجب بها أيَّما إعجاب وبحبكتها (البوليسية) فأصرَّ أن يقتنيَ جميع روايات الكاتبة، فضلاً عن سلسلة روايات (شيرلوك هولمز) العالمية للكاتب الإسكتلندي (آرثر كونان دويل).

أما تفوقه الدراسي فقد ظهر من الصف الأول، وطالما أخبرني أستاذه أن أحمد يصحِّح له أخطاءه بتلقائية، وحين يعيد المعلم النظر فيما يقرأ يتيقَّن من خطئه وصحة كلام تلميذه الصغير! وفي الصف الثالث الابتدائي لم يجد معلمه ضرورة لأن يحضرَ مع زملائه حصص القراءة، فكان يرسله إلى المكتبة ليطالع ما يشاء من مقتنياتها، بدل إضاعة وقته في الفصل مع طلاب دونه بكثير في القراءة والفهم!

وكان إحساس أحمد بجمال الكلام العربي إحساسًا مرهفًا، وكثيرًا ما يبدي إعجابه بعبارة أدبية راقية، أو بيت شعري رائق، بل تجاوز تذوُّقَ الأساليب والتراكيب إلى شعور دقيق بالألفاظ وظلال دلالاتها، من ذلك مثلاً: سألني وهو ابن سبع سنين: أيهما أقوى النسر أم الصقر؟ ولم أعرف الجواب، فقلت: لا أدري، ولكني أظن النسرَ أقوى. فقال: لا، بل أرى أن الصقر أقوى، انظر يا أبي، كلمة نسر ضعيفة، أما كلمة صقر فقوية! وطَفِقَ يكرِّر اللفظين (نسر) و(صقر) يروزهما رَوزًا، يستشعر ضعف الأول وقوة الثاني !!

ولم يقتصر تميُّزه على فصاحة النطق واللسان، إذ تعدى ذلك إلى فصاحة القلم والبَنان، فأنشأ وهو في الصف الثاني قصة قصيرة بعنوان (القطة اللطيفة)، ثم أتبعها بأخرى بعنوان (القطة الجريحة)، وشارك في مسابقة للناشئة في أحد المواقع الإلكترونية بمقالة عنوانها (أحبك يا رسول الله) فازت بالجائزة الثالثة، وهو في السابعة والنصف من عمره.

ونشر هذه الموادَّ في (مجلة باسم)، مع مراسلات معها واشتراك بمسابقاتها، حتى انضمَّ في الثالث من جمادى الأولى 1430هـ إلى نادي الصحفيين فيها، لتكون باكورةُ عمله الصحفي حوارًا أجراه مع وكيل مدرسته نُشر على صفحاتها. وكذلك ألقى هذه النصوصَ في ملتقى الإبداع الشهري برابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض، وما يزال من خمس سنين يشارك في نشاطات الرابطة بإلقاء قصائدَ مما يستظهر من عيون الشعر العربي، تجد القَبول لدى الحضور، بل افتتح في 13 من شعبان 1429هـ الأمسيَّة الشعرية للرابطة في العاصمة التركية إستانبول بقصيدة من شعر إمامنا الشافعي. وفي 23 من ذي القعدة 1430هـ صدر قرار بضم أحمد إلى الرابطة عضوًا مناصرًا؛ تقديرًا لنشاطه وتشجيعًا له، ليكون بذلك أصغرَ عضو فيها منذ تأسيسها!

وقد نُشر عن نشاطاته وأشيد بإبداعه في عدد من المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية، منها مجلات: الأدب الإسلامي، وبريد المعلم، وحياة للفتيات، وشباب، والدعوة، والرسالة، وشعاع الأمل. وصحف: الجزيرة، والبلاد، وشمس.

فضلاً عن استضافة أستاذنا الكبير الدكتور عبدالكريم بكار لي ولولدي أحمد في برنامجه (معالي) الذي يُعرَض في قناة (المجد) الفضائيَّة، في حلقة مساء الاثنين 19 من ربيع الأول 1430هـ، على الهواء مباشرة، عنوان الحلقة: (مبادئ النجاح)، تحدثتُ فيها عن طريقة أستاذي د.عبدالله الدنَّان في نشر العربية الفصيحة بالفطرة، وتجربتي في إكساب ولدي أحمد الفصحى، مع حوار أجراه معه المقدم الأستاذ تركي الظفيري.

ولا يخفى أن غشيان أحمد - منذ وقت مبكر - للمؤتمرات والندوات والمحافل الأدبية، ومشاركته في الإلقاء بشجاعة وجرأة، دليل على ما يتحلَّى به من ثقة بالنفس وقوة في الشخصية، ولذلك كان وما يزال يتولى تقديم الإذاعة الصباحية في مدرسته منذ الصف الثاني.

 

تنويه وإشادة

تقدم آنفًا - في بدء كلمتي - أن أول من هداني إلى تجربة الدكتور الدنان وأنبأني خبرها أستاذي الفاضل د.محمد حسان الطيان، الذي ما فتئ بعد ذلك يشجعني ويشد من عضدي، لأغذَّ السير في التزام الفصحى مع ولدي، حتى آتى التطبيقُ أكُلَه على خير وجه مَرضي، وقد تفضَّل مشكورًا بالتنويه بنجاحي والإشادة بما حققته، بفضل الله وتوفيقه، في مقالة نشرها بعنوان (نحوُ الفطرة.. ونحوُ الفطنة)، ويطيب لي أن أقتطفَ منها ما يكون مسكَ الختام لكلمتي، قال حفظه الله، وجزاه عني خيرًا:

((ولعل من أبرز أبطال هذه المدرسة [أي: مدرسة الاكتساب الفطري للفصحى] صاحبًا لي آخر، يُدعى أحمـد أيمن ذوالغـنى، أخذه والده أخذًا حازمًا بهذه اللغة الفطرية، فلم يُسمعه إلا إياها، ولم يرتضِ أن يسمع منه سواها، فإذا رَطَنَ الولد بالعامية، زعم الوالد أنه لم يفهم، فعاد الولد إلى فُصحاه، وانطلق يغرِّد بها تغريدَ العنادل، يرفع وينصب، ويجر ويجزم، ويعطي كلَّ ذي حق حقَّه فطرةً وسليقةً، يفعل ذلك كله دون أن ينسى لهجته العامية، تلك التي يتكلم بها مع أمه وأقاربه، وأصحابه وأترابه.

ومن طريف ما رواه لي والده: أنه لقِيَه مرةً يلعب مع أترابٍ له خارج المنزل، وكانوا من جنسيات مختلفة، فيهم السعودي، وفيهم المصري، وفيهم الحلبي، فجعل الولد يترجم لأبيه ما ينطِق به هؤلاء من لهجاتهم المحلية؛ لأنه موقن أن أباه لا يفهم إلا هذه الفصحى الشريفة!

وزاد أبوه فجعل يروِّيه من الشعر أجزلَه، ومن الأدب أجملَه، فضلاً عن محفوظه من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، فنشأ الولد أديبًا أريبًا، يكتب القصة، وينشد الشعر، ويسهم في نشاطات صحفية مختلفة، ولمَّا يجاوز العاشرة؛ بل إن أباه زفَّ لي منذ أيام بشرى انضمام أحمد إلى نادي الصحفيين، وإجرائه الحوارَ الأول له مع وكيل مدرسته، وكان من قبل هذا قد استضيف في إحدى القنوات الفضائية ونوِّه بتجربته الرائعة)).