سبعون عاما في حضن اللغة العربية 24
سبعون عاما في حضن اللغة العربية
الحلقة الرابعة والعشرون
عودتي إلى القاهرة
أ.د/
جابر قميحةانتهت مدة بعثتي في الكويت بانتهاء العام الدراسي 1974 . ولا شك أنني أفدت من سنوات الكويت ما يأتي :
1- اتسع وقتي للقراءة والتحصيل والإنتاج . وتمكنت من قراءة كتب لا أستطيع الحصول عليها في مصر ، مثل : مجلدات " في ظلال القرآن " الذي قرأته كله ، بل عشت كل كلمة فيه .
2- قيامي بمهمة علمية ثقافية إنسانية ، وهي تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية للطلاب الأجانب .
33- كثرة إنتاجي الصحفي بمجلة " الرائد " . وهي مجلة خاصة بالمعلمين ، وتطبع قرابة 250 ألف نسخة ، وتوزع على المعلمين وموظفي وزارة التربية جميعا . وكانت بداية كتابتي فيها بمقال عن أدب التحرير وأدب المقاومة ، نقضت فيه كثيرا من الأخطاء الفكرية والفنية . وكانت هذا المقال بداية عدد من المقالات عن الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، حتى كونت هذه المقالات كتابا ضخما عنوانه " الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود . أو ملحمة الكلمة والدم " . وهو من أفضل الكتب التي أعتز ها .
4-- توثق اتصالي بهيئة التدريس في قسم اللغة العربية . ومنهم الدكتور عبد الصبور شاهين ، والدكتور محمد حسن عبد الله ، والشاعرة نازك الملائكة ، وأستاذنا الكبير عبد السلام هارون .
5- حصولي على درجة الماجستير في " الشعر القصصي عند خليل مطران " . وكان حصولي عليها فرحا كبيرا في الأسرة وعند الجيران ، والأصدقاء .
6- اكتساب كثير من الخبرة والتجارب العملية ، والاجتماعية . ومعرفة كثير من الشخصيات الفاعلة بالمجتمع الكويتي مثل : المستشار عبد الله العقيل ، والشيخ حسن أيوب .
**********
عدت إلى القاهرة مع أسرتي المكونة من الزوجة وابني ياسر وبنتيّ : لمياء وحنان . عدت وأنا محمل بأثقال من الهدايا . ووصلنا إلى القاهرة ، حيث كان في استقبالي بعض الأهل والأصهار ، كنت في شوق شديد جدا لهم ولمصر وللقاهرة .
وكانت عودتي إلى الوطن من أسعد أيام حياتي . وعدت إلى مدرسة الأورمان مرة أخرى كمدرس أول . وعقدنا في الأورمان عدة ندوات منها ندوة عقدناها عن كتاب " الشيخان لطه حسين " اشترك فيها من الأساتذة : عبد المنعم يوسف ، وأحمد جاويش ، والبدراوي ظهران ، وخديجة السعدي ، وفوزية عبد النبي ناظرة المدرسة .
تكلم الجميع قرابة ساعة ، وتكلمت أنا قرابة ساعة ونصف عن منهج طه حسين في هذا الكتاب ، وخرجت من حديثي بنتيجة خلاصتها :
1- أن المنهج الذي أعلنه طه حسين في مقدمة الكتاب يكاد يتفق مع المنهج النفسي الذي أخذ العقاد نفسه به .
2- أن طه حسين لم يأخذ نفسه بما أعلنه في مقدمته ، ما عدا الشك في كثير مما رواه القدماء .
3- أن شك طه حسين هنا شك لا منهجي ... شك بعيد جدا عن المنهج العلمي ؛ لأنه لا يستند إلى أساس من التمحيص والتحقيق ، ولكنه يستقي من الهواء والذات الحريصة على هدم التراث والإساءة إلى كل مقدس .
4- أن هذا الكتاب يعد امتدادا طبيعيا ل " عقيدة " طه حسين التي هبطت إلى أحط درك يمكن أن يتصوره مسلم بل عاق ، وذلك في كتاب " في الشعر الجاهلي " .
وكانت أحاديث البقية تدور حول المعاني الآتية :
1- محاولة إبراز العضلات الفكرية على هشاشتها وفجاجتها أحيانا … وذلك في الحديث عن الجذور الثقافية لطه حسين . فحرص المشترك على ذكر أسماء الكتب التي قرأها ، والتوصية التي يوجهها لأمثالنا وللطالبات لقراءة كتاب كذا ، إذا أرادوا المزيد من المعلومات .
2- وقرأ أحدهم ما كتبه في عدة صفحات فلوسكاب ، وبعد الندوة فيما كتب وقرأ فأغضبه ذلك ، ورد ردا يدل على ضحالة فكرية وسرعة انفعال .
3- وأحدهم وهو الذي قدم الندوة كانت كلماته مجموعة من الضجيج المسموع .
4- وإحداهن قدمت حديثا أعتقد أنه لا يستحق أن أحكم عليه بكلمة .
**********
وعلمت من الأخ عبد المنعم يوسف الذي شاركنا الندوة أنني رقيت إلى وظيفة " موجه إعدادي " . ووقع الخبر على نفسي موقع الصاعقة ؛ فأنا حريص على " مدرسة الأورمان " كل الحرص ... الأورمان مني بمنزلة بيتي وأسرتي .
ووجه إلي بعض الزملاء كلمات التهاني . يالله !!! كيف تم هذا مع أنني غير حريص على هذا المركز الجديد ؟ . وعدت إلى المنزل والهم الثقيل يستبد بي ، ونمت نومة الظهيرة والتفكير في هذه الترقية يثقلني بهمٍّ ناصب . قلت لنفسي وهي نهب صراع مرير بين الموافقة والرفض " إن مركزي الأدبي في المدرسة ، والرابطة النفسية الطيبة بيني وبين الطالبات كمدرس يؤدي واجبه على الوجه الأكمل .
كما استعرضت الخسائر أو المنغصات والمشاق التى أعانيها في المدرسة . وخلاصتها :
1- العبء الأكبر من العمل والنشاط ملقى عليّ .
2- خسة التصرفات من بعض الزملاء والزميلات ، بالمحاولة إلى مضايقتي .
3- شخصية الناظرة المهزوزة فهي من " أقماع القول " تفتح أذنها لكل ما ينقل إليها ، صدقا كان أو كذبا ، وهي سريعة التحول ... تغضب للتافه من الأمر ، وترضى بالكلمة العابرة ، سريعة الأحكام على الأشخاص ، وأحكامها لا تستند إلى أساس موضوعي : فمثلا تعلن دائما أمام الجميع أنها تحب الأستاذ ( م ) لأنه " يشبه أباها الخالق الناطق " .
وإنصافا لها أعترف بأنها أبدت فزعها لخبر الترقية هذا ، وأعلنت أنها
تتمسك بي ولا تتخلى عني بأية حال . وأخذت تغريني بإلغاء الترقية ؛
فهي من وجهة نظرها لا نفع فيها ، ولا طائل من ورائها . ولم تفارقني صورة أول ناظرة عملت معها في مدرسة الأورمان وهي السيدة نرجس أبو زيد ، فقد كانت قمة في الإدارة والنظام والحرص على العمل ، والعدل في التقدير
**********
واستشرت الزملاء فيما أفعل وكانت الإجابات كما يأتي :
1- علي أن أقبل التوجيه ؛ فهو خير لي ألف مرة من التدريس ، وأعبائه ومنغساطه . والتوجيه سيوفر أمامي متسع من الوقت لخدمة دراستي العليا .
2- وهناك رأي مناقض صرحني به الزميل محمود الزحلان أنه يرى أنها ترقية لا قيمة لها ، وأنها في المستقبل ستحرمني دخلا كبيرا من المجموعات الدراسية . فلما أخبرته أنني سأبقى مدرسا لفصل من الفصول سألني : ثم ماذا تفعل في المستقبل ؟ أجبته : المستقبل بيد الله تعالى ، والأرزاق في علم الله . ورددت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " للرزق أسرع إلى أحدكم من أجله " .
نعم الأرزاق بيد الله ، " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ " الذاريات (22) .
**********
ووجدتني أدنو من القرار الحاسم ... لأقبل الوظيفة الجديدة ... نعم أقبلها بنفس راضية . ورجح القبول عندي الأستاذ " أمين الجبري " الموجه الأول الذي نحبه جميعا ، فقد دعاني بحرارة إلى القبول ؛ لأن المرتبات قد تقدر قريبا على أساس " الوظيفة " .
كما ذكر لي أن إدارة التوجيه وضعتني في حسابها وأنني سُكنت ( أي دخل في اختصاصي ) التفتيش على : الحوامدية ، ودخل في نطاقها إدارتان أخريان هما : البدرشين و العياط ( في شمال الجيزة ) .
وختم الموجه الأول حديثه بقوله : صحيح هتتعب هذا العام ، لكننا سننقلك إلى بندر الجيزة في العام القادم ، إن شاء الله .
ورجح القبول عندي كذلك زميل عزيز على قلبي هو الأستاذ " حسين عرفة " المدرس الأول المعار إلى مدرسة الحرية ، وقد سُكن على إدارة " أبو النمرس " . واعتمد منطقه في القبول على أننا بلغنا من السن ما يزهدنا في " الطباشيرة " أي التدريس ، نعم فعملية التدريس أصبحت شاقة قاتلة ، وأصبحت عملية مملة . وانشرح صدري لهذا العمل الجديد ، وأنهيت الصراع المتسعر في نفسي ، وقبلت الوظيفة الجديدة ... " ... فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " آل عمران (159) .
**********
ونظم الجدول الدراسي على أساس أنني تارك المدرسة مع احتفاظي بفصل من فصْليّ . وكان الاختيار مشكلة المشكلات ؛ فأنا أعلم مدى اعتزاز كل فصل بي ، وأخيرا حسمت الأمر واخترت الفصل ( 3/3 علمي ) ... خمس حصص أدرسها بالفصل المذكور زيادة على حصتي " المستوى الخاص " . وأنا أعتز بهذه الحصة ؛ بالنسبة لي تعد مهرجانا علميا ؛ فكل الطالبات يتركن فصولهن وأساتذتهن ، ويسعين إلى المدرج الذي أدرس فيه عن اقتناع ورضا ، للانتفاع بما ألقي ... زحام شديد ... والواقفات أكثر من الجالسات ... إنه وضع يدعوني حقا إلى الاعتزاز بعملي وبتلميذاتي .
وكم أثر في نفسي منظر عشرات من طالبات الفصل ( 3/2 علمي ) الفصل الذي تركته وهن يلاحقنني في بكاء مستجير ، ويسائلن في مرارة : لماذا تركتنا يا أستاذ ؟ لماذا آثرت الفصل الآخر علينا ؟
وأمام هذا السؤال الباكي ملكني شعور بالحزن الممزوج بالاعتزاز ، وعجزت عن التصريح بالإجابة التى تمثل الواقع ، وقلت : أنا معكن بعقلي وقلبي ، ثم إن الناظرة هي التى اختارت ، ثم إن الزميل محمد شبانة الذي اختير للتدريس لكم بعدي أستاذ ممتاز . فأجابت إحداهن : لقد لجأنا إلى الناظرة فأجابت بأنك الذي اخترت ، وآثرت الفصل ( 3/3 ) علينا .
وختمت حديثي لطالبات الفصل 3/2 بقولي : " ولنفرض أنني آثرت فصلكن على الفصل ( 3/3 ) ، فالإشكال سيظل قائما ؛ فمن حق هذا الفصل أن يبكي ومن حقه أن يشكو ، وقد قطعنا والحمد لله من المنهج شوطا طيبا ، وأنا أرحب بأية طالبة منكن في أي سؤال يتعلق بالمنهج .
**********
الخيرة فيما اختاره الله ... لقد عزمت ، وتوكلت على الله ، وأخليت طرفي بتاريخ 11 / 12 / 1976 ، ونويت أن أتسلم العمل بالحوامدية في اليوم التالي إن شاء الله . واتصلت بالأستاذ عبد المقصود زيدان ، ونقلت منه قائمة بالمدارس التي سأقوم بتوجيهها وهي على الترتيب الأتي :
1 مدارس إدارة الحوامدية :
2 أ مدرسة الحوامدية للبنين . ب مدرسة الحوامدية للبنات . ج مدرسة شركة السكر الخاصة .
3 مدارس إدارة البدرشين : أ مدرسة البدرشين للبنين . ب مدرسة البدرشين للبنات . ج مدرسة ميت رهينة المشتركة . د مدرسة الشوبك الغربي المختلطة . ه مدرسة مزغونة المشتركة .
4 مدارس إدارة العياط : أ مدرسة العياط المشتركة . ب مدرسة المتانيا المشتركة . ج مدرسة كفر عمار المشتركة . د مدرسة القطوري المشتركة . ه مدرسة بارنشت المشتركة .
إنها مرحلة جديدة من مراحل عمري نتحدث عنها بمشيئة الله حديثا مفصلا في الحلقة الآتية .