هذا الإنسان

أكرم علي حمدان

[email protected]

هذا الإنسان! ما هذا الإنسان؟ وما أدراك ما هذا الإنسان؟ ثم ما أدراك ما هذا الإنسان؟ لم يبلغ مبلغَه ملاكٌ ولا جانّ. حيّرَ الفلاسفة واستعصى على الأدباء، فلم يدركوا كنهه، ولا عرفوا حقيقته، وأعياهم النفاذ إلى دخيلته واستكناه سريرته، فكلما زاده الباحثون بحثًا، زادهم إيمانًا بغرابته، وعجبًا من ملكاته، حتى وقف الأنبياء دون استنطاق خبايا باطنه، ومعرفة حقيقة روحه، واستدرار مكنونات نفسِه، فقيل لخيرهم: قل الروح من أمر ربي! وصدق القائل حين قال:

وتحسبُ أنك جِرم صغير                     * وفيك انطوى العالم الأكبرُ!

وما أجمل قول صاحب العَينيةِ إذ يقول:

هبطتْ إليكَ من المكانِ الأرفعِ                     ورقاءُ  ذاتُ  تعزُّزٍ  وتمنُّعِ

محجوبة  عن  كلِّ مقلة  ناظر                    وهي التي سَفَرَتْ ولم تتبرقعِ

الإنسان! ما الإنسان؟ يَعَفُّ حتى ليُؤْثِرُ الموتَ على مسألة الناس، ويطمع حتى ليكون ما بأيديهم أحبَّ إليه مما في يديه، يخجلُ حتى لا ينبِس في حقٍّ بكلمة، ويجسُر حتى ليصخب في الباطل على الملوك، يَصْدُقُ حتى يُكتبَ عند الله صديقًا، ويكذبُ حتى يكتبَ عند الله كذابًا، يجبُن حتى لتأكلُ حقَّه الضعفاء، ويشجع حتى لترهب سطوتَه الأسود، يستحيي حتى لتستحيي منه الملائكة، ويفجر حتى لتستعيذ منه الشياطين، يرق حتى لتُبكيه الفكرة، ويغلظ حتى ليشرب مِن قتلاه الدماء، يُحرج حتى يود لو أن الأرض تبلعه، ويزهو حتى يطاول بعنقه السماء، يفتك بالجبابرة وتؤذيه بعوضة، يهزم الكتائب ويغلبه النعاس، يقهر الملوك وتستذله امرأة، يصارع الأبطال وتصرعه وعكة. يمدح إذا رضي فيستدر الألوف، ويهجو إذا سخط حتى يقرب من النفوس الحتوف. رق فبكى، وأحب فجُنّ، وتصوَّف ففني، بلغ من الرحمة أن صنع البِنْجَ والمسكِّنات، وبلغ من القسوة أن عمل القنبلة الذرية والمنشطرات، تُحرق الأرض وتفتك بالأحياء والأشياء، قالوا في وصفه رقيقٌ وقالوا عُتُلّ، قالوا سَمْحٌ وقالوا لئيم، قالوا جوادٌ وقالوا بخيل، قالوا تقيٌّ وقالوا أثيم، قالوا بَرٌّ وقالوا فاجر، قالوا كفورٌ وقالوا شكور، قالوا ذكيٌّ وقالوا بليد، قالوا غاوٍ وقالوا رشيد.

الإنسان! ما الإنسان؟ ما هذا العقلُ الذي لا يكَلُّ ولا يَملّ، يهتفُ به هاتفُ التدبر والتفكير، ويقرعه بالسؤال تلو السؤال، فيُحَلِّقُ في آفاق الحكمة والعرفان، متخطيًا حدودَ الزمان والمكان، يتجاوز المحسوساتِ إلى المعاني، والشهادةَ إلى الغيب، والخلقَ إلى الأمر، يبحثُ وينقِّر، ويُعلّلُ ويحلّل، ويستدلُّ ويُبرهن، ويناقشُ ويجادل، يستلهمُ الماضيَ الغابر، ويقوّم الراهن الحاضر، ويستشرفُ الآتي الصائر، تحدوه الأشواق، وتستفزّه الآمال، وتعينُه الفطنة، ويساعده الذكاء، ويرعاه الفهم، وتسعفه البديهة، ويناصره الكَيس، وتؤازره الرَّوِيّة، وترفده الفِراسة، ويقوِّمه الرأيُ، وتلهمه الزكانة، إلى إحساس مرهف، وعاطفة جياشة، وذهن وقاد.

وما هذا العقل الخامل الغافل، يئن تحت وطأة الأوهام والخرافات، ويخبِط في متاهات الأساطير وغريب الحكايات، لا يعنيه نظرٌ ولا تأمُّل، ولا تهزه نغمة عذبة ولا لحنٌ أخّاذ، جامد جمود الجلمود، كأنه صفوانٌ عليه تراب، أكبرُ همِّه بطنٌ يُشبِعُها، أو لذةٌ ينالها، أو شهوةٌ يقضيها، وقُصاراه كسبٌ آنيٌّ يجنيه، ونفعٌ قريبٌ يحصُلُ له، دنياه في ذاته محصورة، وعالمه بسني عمره محدود، ليس له من عالم الحقيقة حظٌّ ولا نصيب، ولا من دنيا الأرواح شِرْكٌ ولا خلاق، لا يصدقُ فيه وصفٌ كوصف آكِلَةِ الخضراء: أكلت، حتى إذا امتدّت خاصرتاها استقبلت عينَ الشمس، فثلطت وبالت ورتعت، ثم عادت فأكلت.

الإنسان! ما الإنسان؟ علّمه الله ما لم يكنْ يعلم، فقهر الطبيعةَ وغزا الفضاء، بنى السدودَ وشيّد البروج، مهّد الطرق وأقام الجسور، قرّب المسافات وشقّ الجبال، ذلّل البحارَ وحطّم الصخور، سيّر القطارات وطيّر الطائرات، ضاقت به الأرض فاصّعّد في السماء. أقام على ضَعفِه مشاريعَ عملاقة، كأنها خيال من الخيال، أو شيء من العظمة لا يخطر لامرئ ببال، من أدقِّ الموادِّ صنع أعظمَ الأشياء، فسبحان من علّمه ما علّم، حتى عرف الذرّة والنواة، والبخار والكهرباء، والمعادن والفلزات، وخبر أنواع الإشعاعات المختلفة، وعرف تأثير الأصوات المتباينة، ولم يدع نباتًا إلا درسه، ولا حيوانًا إلا عرف خصائصه، ولاحق ظواهر الطبيعة يعللها من غير كلل ولا ملل، ولم يزل بالأرض حتى ألقت له مما في بطنها خيرات مختلفًا ألوانها، من الذهب الأبيض والأصفر، والأسود والأحمر والأخضر، فضاعف المحاصيل، وكثر المواشي، وجوّد الصناعات، وأطال الأعمار، وحارب الأمراض والآفات.

سقى الله أيامًا كنا نتحدث فيها بإعجاب عن مُدرّج روما القديمة أو أهرامات الجيزة، التي شُيِّدَت من الطوب والحجارة، إننا اليوم نتحدث عن مصعد إلى الفضاء يبلغ مداه من الكيلومترات مئةَ ألف أو يزيد، يصنع من أنابيب كربونية متناهية في الصغر! مَن مِنَ الناس كان يتخيل هذا؟ لقد كان الحديث عنه من المضحكات، ولهذا قال السير آرثر سي كلارك قبل ثلاثين عامًا في روايته "أساسات الجنة"، وهي رواية في الخيال العلمي، إن هذا المصعد سيبنى بعد توقُّف الجميع عن الضحك بخمسين عامًا. واليوم لم تعد الوكالات المختصة تضحك، بل باتت تطرح المليارات لتحقيق نبوءة كلارك! فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم.

الإنسان! ما الإنسان؟ ما هذا المخلوق الضعيف؟ لا يستنقذ حقه من ذبابة، يُقعده مغص يلم به، أو حُمى تزوره، تمزح معه الطبيعة بإذن ربها فتتركه تائهًا في الأرض كالحيران، لا يحل ولا يعقِد، وما نفثة بركان آيسلندة منا ببعيد، أُغلقت بسببها المطارات، وشُلّت حركة الطائرات، فظلّت في مرابضها جاثية، كأنها لم تصنع لتطير، حتى تشتتت بالمسافرين السبل، وتوزعتهم البلدان، لم تشفع لهم أشغالهم وارتباطاتهم، حتى الرؤساء منهم والوزراء، ووقف هذا الإنسان ينتظر رحمة ربه أن تنزل، وغضبة الطبيعة أن تزول، وهو الذي طالما باهى بقوته وجبروته، وتغنى بعلمه وقدرته، وفاخر بصناعاته ومخترعاته، واعتز ببحوثه وإنجازاته.

الإنسان! ما الإنسان؟ كرّه الله إليه القتال فأبى إلا أن يقاتل، وحرم عليه الظلم فلم يجاره في ظلمه مخلوق، جعله شعوبًا وقبائل لتتعارف، فجعل تنوعَه بابًا للتناحر والصدام، ومدخلاً للنزاع والخلاف. فكّر وقدّر، وخطّط ودبّر، وفجّر ودمّر، خاض الحروب وأراق الدماء، ولم يشبع مما أريق منها على الأرض، فقام يتخيل حروبًا في الفضاء. اقرأ إحصائيات الباحثين إن شئت تقفْ مذهولاً من هول ما تسمع من الأرقام المروّعة، وما ترى من الحقائق الرهيبة: مائة وسبعة وثمانون مليون نفس قضت في حروب القرن العشرين وحدَه، أكثرُهم من الجنس الأبيض الذي يدّعي الحضارة والتفوّق والمدنية، وها هو اليوم لا يشبعه ما عنده من جغرافية ممتدة، ومخزونات عظيمة وثروات، فيأتي كالوحش متسلطًا على الضعفاء، يفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، ويصب الحمم المحرقة، والصواعق المرسلة، من غير رحمة ولا شفقة، ولا اكتراث ولا مبالاة.

هذا الإنسان! ما هذا الإنسان؟ ما هذه النفس المتبتلة الزكية، الراضية المطمئنة، وهذه الروح المشرقة الرفرافة، ما هذا العابدُ الزاهد، العاكفُ الراكع الساجد، القانع الشاكر الحامد، لَذَّتُه الكبرى مناجاةٌ بين يدَيْ ربِّه، يرجو رحمته ويخشى عذابَه، وسعادتُه العظمى ساعةٌ في سكون محرابه، تلفه حلكة الظلام، وتغشاه سكينة الليل، دمعتُه على خدِّه منسكبة، يراه ربُّه حينَ يقوم، وتَقَلُّبَه في الساجدين، تَسْبَحُ روحُه في عليين، يدبّ على الأرض وعينه إلى السماء رانية، ويمشي مع الناس وقلبه إلى العلياء مشدود، لا يُغريه من الحياة مُتَعُها، ولا يشغله من المال بريقُه، فهو مشغول بلَذَّةٍ هي عند التحقيق أعظم، وأكبرُ وأتمُّ وأفخم، أدرَكها قائلُهم فقال:

ولذّةٍ نحنُ فيها ليس يدركُها                 إلا الذي ذاقَها في ظلِّ رحمنِ

بغَى الملوكُ علينا عندما عَلموا             أنّا سَمَونا عليهم دونَ تيجانِ

وما هذه النفسُ المنغمسة في حمأة الشهوات، الملتصقة بالطين والتراب، كأنما شُدّت إلى الأرض بأمراس لا تنقطع، وعُرًى لا تنفصِم: قلوبٌ لا تفقه، وأعينٌ لا تبصر، وآذانٌ لا تسمع، لا تعرف للحق سبيلاً، ولا للعدالة معنى، تجاهر بالمعصية، وتتوقح في مقارفة الإثم، وتباري بالذنوب والموبقات، لا يرُدُّها خجل، ولا يَعطِفُها استحياء، ولا يكفُّها تجمل، ولا يَثنيها احتشام، ولا يصدها تذكُّر، ولا يردعها اعتبار، وصدق الله العظيم، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً!

الإنسان، ما الإنسان؟ خلقه الله في أحسن تقويم، فبلغ من الجمال مبلغًا ما استطاع المثال البارع أن يخلعه على الدُّمى الحسان، ولا للنيرات الزهر في ليالي الصحراء ما له من لمحة وبَهاء، ولا لبديع الزهر وغريبه في شباب الربيع ما له من بشاشة وطيب، فكان جماله سيِّدَ الجمال كله، به فتن الشعراء والبلغاء، لكنهم لم يستطيعوا دَرْكَ حقيقته، فمنهم من أعلن عجزه أمام جماله حتى قال:

وعلى تفنُّن واصفيه بِحسنه                يفنى الزمانُ وفيه ما لم يوصفِ

ومنهم من ردّ هذا الجمال إلى حقيقة هي وراء ما يراه الرائي، وفوق ما يسمعُه السامع، فليس الجمالُ عنده بلمحةِ العيون، ولا ببريقِ الثغور، ولا هيَف القدودِ ولا أسالةِ الخدود، ولا لؤلؤ الثنايا وراء عقيقِ الشفاه، ولكنْ شعاع عُلويّ يبسطه الجميلُ البديعُ على بعض الهياكل البشرية، يكسوها روعة، ويجعلُها سحرًا وفتنةً للناس. وما أحسنَ قولَ من خاطب النفسَ بقوله:

أنتِ الذي اتخذ الإلهُ لعزِّهِ               من مظهرٍ ولسرِّهِ من موضعِ

وهو الصَّناعُ يصوغُ كلَّ دقيقةٍ              وأدقَّ منكِ بنانُه لم تَصنعِ

لمستْكِ راحتُهُ ومسَّكِ روحه                فأتى البديعُ على مثالِ المبدِع

وشطح بعضهم بهذا المعنى فقال:

يا قِبْلَتي قابِليني بالسجودِ فقد               رأيتُ شخصًا لشخصٍ فيه قد سجدا

لاهوتُهُ حلَّ ناسوتي فقدَّسني                إني عجبتُ  لمثلي  كيف  ما عُبِدا

الإنسان! ما الإنسان؟ كرَّمه ربُّه فأمر الملائكة بالسجودِ له، وسخّر له ما في الأرض جميعًا، وأسبغ عليه من نِعَمه ما لا يحصيه المحصي، ثم سلط عليه من قَدَره عصًا تسوقه، وقوةً خفية تحرّكه، فلا يدري إن هو أمسى هل سيكون من المصبحين، وإن هو أصبح هل سيكون من الممسين، ولا يعرف حياتَهُ ماذا يكسب غدًا، ولا يعرف بأيِّ أرض يموت.

حـتى إذا قرُب المسيرُ إلى iiالحِمى
سجعتْ وقد كُشف الغطاءُ فأبصرت
وغـدتْ  تـغرِّدُ فوق ذروة iiشاهقٍ
فـلأيِّ أمـرٍ أُهـبطت من iiشاهقٍ
إن كـان أهـبـطـها الإله لحكمةٍ
فـهـبوطُها  لا شكَّ ضربة iiلازبٍ
وتـكـون  عـالـمـةً بكلِّ iiخفيَّةٍ
وهـي الـتي قطع الزمان iiطريقها
فـكـأنـهـا  بـرقٌ تألق iiبالحمى








ودنـا  الرحيل إلى العطاء iiالأوسعِ
مـا لـيـس يُدركُ بالعيونِ iiالهجَّعِ
والـعـلـم يرفعُ قدرَ من لم iiيرُفعِ
سامٍ إلى قصر الحضيض الأوضع؟
طُـويت عن الفطِن اللبيب iiالأروع
تـعـود  سـامـعـةً لما لم تسمع
فـي الـعـالمين وخرقها لم iiيرقع
حـتـى لـقد غربت بعين iiالمطلع
ثـمَّ  انـطـوى فـكـأنه لم iiيَلمعِ