تدمير(وطن) جبرا إبراهيم جبرا

رياض الأسدي

[email protected]

ربما يكون الشيء الوحيد الباقي على الأرض ماديا وماثلا الذي خلفه الكاتب والرسام والناقد التشكيلي والمترجم جبرا إبراهيم جبرا (1919- 1994فلسطيني من السريان الأرثوذكس ولد في بيت لحم في عهد الانتداب البريطاني) هو هذا المنزل المتواضع في المنصور ببغداد. عاش جبرا معظم حياته في العراق وكتب روايات كثيرة عنه: صيادون في شارع ضيق، السفينة، البحث عن وليد مسعود وغيرها. يقول جبرا : لقد بنيت هذا  المنزل طابوقة طابوقة، كما يفعل كل العراقيين في بناء منازلهم وكما هم يعانون ويتفصد العرق من جباههم في ذلك: هذا كل ما بقي من (وطن) عاش فيه وتمرّغ بترابه وتشمم عبق نباتاته.

لا ادري لماذا يستعمل العراقيون كلمة (وطن) في بناء منزل؟ ويقول قائلهم : من لا يمتلك أرضا أو منزلا لا وطن له؟ فالبيت في النهاية وطن. حتى سرت بينهم كلمة: ما عندي شبر بالعراق! ولذلك هم يطالبون الحكومات المتعاقبة قديمها وجديدها شوفينيتها ومغراطيتها، مركزيتها وفدراليتها، ضراطها وعفاطها كما هو المثل العراقي الدارج، بمنح كلّ عراقي قطعة أرض ليبني له منزلا.

مرحى!!. المنزل هو منتهى ما يحلم به أي عراقي. يقول عراقي على شاشة التلفاز : هسه إذا ما يقدرون يشغلونه خل يعطونا قطع أراضي .. مو كلّ العراق جول( أرض خلاء) شكو إذا صار لنا وطن فيها؟ هم هاي صعبة عليهم؟! ثم يخرج السيد المحافظ على أبناء مدينته بكلّ صلافة ليصرح : ليس في خطتنا توزيع أراض للمواطنين!! فتقوم ثائرة من يسمع ذلك : هذا شلون محافظ ما تقول لي منين الله جابه على رؤوسنا؟! هو قاعد بقصر صدام واحنه ما كلنه (الهبري= الفقر المدقع)!

ربما يعود تفسير ذلك الولع بالأرض والمنزل للعراقيين إلى (اللاوعي الجمعي) الضاغط، وهم يرون على مرّ التاريخ سيول الغزاة والفاتحين من ترك وعجم وهم يمتلكون وطنهم ويتقاسمونه كقطع سهلة من قصعة دسمة في وقت هم ينزحون – أصحاب الوطن الضاربون جذورهم فيه منذ آلاف السنين- إلى عمق الجبال والاهوار – كما هم أجدادي- وربما يسكنون قرب حافات الصحراء أيضا.    

جبرا عراقي بروحه وقلبه وعينيه، تشرب معنى العراق والعراقيين وعاش رؤاهم. لكنه ما كان سيحسب أن قسما منهم سيتفلسطنون!. وهو لم يبق له من فلسطين إلا أحلام مقدسية هائمة تراوده في منامه وتنبجس كلمات على أوراقه أحيانا. وفي هذا البيت هناك في بغداد وثائق الرجل وتخطيطاته ومشروعاته، فجبرا إلى جانب كونه روائيا هو ناقد تشكيلي ومترجم من الطراز الأول وباحث في الجماليات المختلفة في الفكر وعلى اللوحات.

وبقي جبرا في هذا المنزل سنين طوال : غليونه وكتبه ولوحاته ومشروعاته وأحلامه وزيارات أصدقائه. كان جبرا متنوعا في عطائه, دؤوبا، يعمل بلا كلل ولا ملل، هكذا هو حال معظم الفلسطينيين الذين وقعوا في الشتات. لا شيء يقيهم غائلة العوز والغربة والموت غير العمل. يعملون حتى وهم مرضى. وكنا في عقد الستينات من القرن الماضي قد تعلمنا مأساة القضية الفلسطينية وبوادر ألف باء القومية العربية من (أبو خالد) وهو فلسطيني من مهجري عام 1948 عمل بين ظهرانينا في منطقة شعبية واسعة بالبصرة، فأحببناه بقوة بسبب تعلقه بوطنه، وأحاديثه عنه، وإيمانه العميق بأنه سيعود إليه يوما ما، وكما تقول فيروز في أغانيها دائما.. هووووو الرجل ما كان ليتوقع على أية حال أن ثمة من يطعن بقانون العودة من الخلف! حتى أنه لم يكن ليتصور ذلك. مات (أبو خالد) رحمه الله وهو يحلم بوطن ما ودفن في مقبرة الزبير. وبقيت عدة عمله ماثلة تبكيها عجوزه أم خالد فقد كان الرجل يُرى هو يحمل أطوال القماش على كتفه ليبيع هنا وهناك صائحا : حرير حرير وكتان لأحلى نسوان! ثم ليجلس متحدثا لنا عن قريته ومنزله في حيفا – بيت أجداده- الذي هجّره منه الصهاينة عنوة في ليلة واحدة شديدة الظلمة. وحال الواحد منا يتساءل : كيف يمكن للإنسان أن يهجّر من منزله؟ هل يمكن أن يحدث ذلك فعلا؟ اجل لقد رأى العراقيون ورأيت أنا هذا في هذا الزمن الأغبر حيث هُجّر عراقيون من منازلهم أو دمرت منازلهم أو باع عراقيون منازلهم وغادروا إلى الشتات، وبلا صهيونية! عفوا!! لقد أخطأت! إنها الصهيونية نفسها بدمها ووسائلها وعنفها وجبروتها لكنها ارتدت قناعا آخر في العراق الجديد جدا.  

وجد جبرا أخيرا في بغداد وفي المنصور حيث يقع منزله وطنا آخر، باقيا، ماثلا، يشبه المأوى، يقيه حر الصيف وبرد الشتاء وغائلة الأيام. وما كان جبرا يحسب أنه وطن دائم فقد بقي الرجل مقدسيا ومن بيت لحم حتى آخر يوم من عمره؛ لكنه وطن ربما إلى حين.. وقد يكون جبرا يعلم في رؤاه أن ليس ثمة وطن ثابت لأولئك الذين فقدوا أوطانهم على مرّ التاريخ لذلك بقي يحلم بوطن الطفولة الضائع. ثم ضاع منزل جبرا هذا أيضا حيث دمر بفعل عمل إرهابي ونزل البيت على محتويات الكاتب وتاريخه وأحلامه. بعد تدمير بيت جبرا لم يعد ثمة وطن على الإطلاق.