تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة

محمد أفقير(صهيب)

باحث في تاريخ الإسلام

[email protected]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

دلت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة على أن السياسة وتسيير الدولة مخولة للحكومة القائمة في كل زمان ومكان، وأن الحكومة ملزمة بمقتضيات الدستور، وبقانون الشورى كما ينص عليه الدستور؛ القرآن الكريم. قال المشرع عز وجل في سورة الشورى: Cوَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَB[1].

ولما كانت الدولة في عصر النبوة محدودة المساحة وشعبها قليل العدد، ولما كان عرب شبه الجزيرة العربية يخضعون للنظام القبلي، الذي يقوم على العادات والأعراف، فإن النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم  أقر العرف كمصدر في الحكم. طبعا، ما لم يتعارض مع الدستور والقوانين. حتى يتجنب إلزام العرب، حديثي العهد بالدولة، بتفاصيل قانونية لا جدوى منها إلا تعقيد الحياة السياسية والاجتماعية، أو بتنظيمات إدارية كثيرة. بل اختزل مقر الحكومة في المسجد النبوي، واعتمد الأمراء، وحصر الدستور في الوثيقة الدستورية، والقرآن الكريم، والسنة النبوية.

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم  يدقق في تعيين الأمراء من أصحاب الكفايات الدينية والسياسية. وقد أوضح لهم أن التصرفات السياسية اجتهاد (قانوني) في ظل النصوص القانونية، والمقاصد والمصالح، وفي ظل ظروف الزمان والمكان.

وقد سار الأمراء والخلفاء الراشدون على هذا المنهاج، ومنحتهم السياسة الشرعية حرية الاجتهاد في النوازل (الحديثة الحادثة)، وإحداث المؤسسات والوثائق الإدارية كلما دعت الضرورة إلى ذلك كاتساع رقعة الدولة وازدياد أعداد السكان. وأما القضاء فلقد كان نزيهًا عادلا، يعمل القاضي بما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويلجأ إلى الاجتهاد والقياس في حال غياب النص الصريح.

بكلمة، تم تقسيم تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم  إلى أحكام ملزمة للأمة كالوحي والفتوى، وأحكام غير ملزمة وهي تلك التي تتعلق بالسياسة والقضاء. بالتالي، فإن أحدًا لا يستطيع أن يزعم أن تنظيمًا إداريًّا مهما كان دقيقا ودستوريا هو قادر على الإجابة عن كل إشكالات الناس في كل عصر. فالأحكام السياسية أحكام زمنية، قابلة للتعديل والتبديل، تبعًا لمقتضيات العصر. من هنا، فالأمر ملح لبيان الفروق في أنواع التصرفات النبوية؛ السبيل إلى اكتساب آليات فقه الواقع والسياسة الشرعية. وذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: ما مفهوم تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم  بالإمامة/ الرئاسة؟ وما مفهوم تصرفاته صلى الله عليه وسلم  بالقضاء؟ وما انعكاساتها على الواقع؟.

سبق أن ذكرنا في مقال سابق مفهوم التصرفات النبوية بالقضاء وسنخص هذا المقال بالحديث عن الشق الآخر وهو تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم  بالسياسة.       وهي عبارة عن اجتهادات وأحكام غير ملزمة لجميع الأمة، في الحاضر والمستقبل، في أحكامها الجزئية لاختصاصها بوضعيات قانونية وملابسات محددة ونوازل طارئة. ويدخل في التصرفات السياسية نوعان من التصرفات النبوية هي تصرفاته صلى الله عليه وسلم  بالقضاء، وتصرفاته بالإمامة.

سنسلط الضوء على بعض جوانب العمل السياسي النبوي، أي مسؤولياته السياسية/ القانونية بوصفه رئيسا للدولة ومسؤولا عن الدعوة.

لم يحدد دستور المدينة ـ الدولة نظامًا معينا للحكم، أو تنظيما محددا للإدارة أو شروطا دقيقة لاختيار المسؤولين. وإنما اكتفى بالنص على القواعد العامة الثابتة، التي ينبغي أن تعتمد عليها نظم الحكم العادلة. فقرر العدل في قوله عز وجل: Cوَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِB[2]، وأمر الرسول المعصوم أن يشاور في الأمر السياسي فقال سبحانه: Cفَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِB[3] والمساواة في قوله جل وعلا: Cإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَB[4]. أما ما عدا هذه القواعد، من القوانين التفصيلية فقد سكت عنها، ليترك متسعا للحاكم/ الخليفة أن يضع نظمها ويشكل حكومته، ويكون مجالس ومؤسسات تلائم ظروف الزمان والمكان، غير متجاوز ضوابط العدل والشورى والمساواة. فما هو شكل الحكومة النبوية؟ ومن هم أعضاؤها؟ وكيف كان يتعامل صلى الله عليه وسلم  مع أعضاء حكومته؟.

أشرك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  في الحكومة مجموعة من المواطنين/ الصحابة، الذين يشهد لهم برجاحة العقل وسلامة القلب، ونفاذ البصيرة وحسن السياسة. واختارهم من الخلية الدعوية الأولى، التي تتميز بالتنوع القبلي، والتي لها نفوذ وتأثير في عناصر قبائلها. وجاء في مقدمة هؤلاء العاملين في الميدان السياسي 12 من الأنصار و12 من المهاجرين. ويلاحظ، أن بعض المصادر أطلقت عليهم اسم النقباء والنجباء والعرفاء[5]. ومن الممكن أن نطلق عليهم اسم "مجلس الشورى" أو "مجلس النقباء"، فمن المجمع عليه أن النبي المرشد صلى الله عليه وسلم  لم يؤسس مجلسا استشاريا أو حكومة بالمفهوم المعاصر، لها مقارها الخاصة وقوانينها وبرامجها، إنما كان صلى الله عليه وسلم  يعقد جل مجالسه في المسجد ويستشير كثيرا ثم يقرر. يأخذ بالرأي الصواب وإن كان يخالف رأيه كما حصل مع الحباب بن المنذر(ت20هـ) في اختيار موقع القتال في بدر(2هـ)[6]، وكما حدث مع سلمان الفارسي(ت35هـ) حين أشار على رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم  بحفر الخندق حول المدينة، فأخذ بخطته العسكرية وأمر بالحفر(5هـ)[7]. وكما فعل في غزوة الأحزاب(5هـ)، استشار سعد بن عبادة(ت15هـ) وسعد بن معاذ(ت5هـ)[8]، واستشار أسامة بن زيد(ت54هـ)، وعلي بن أبي طالب(ت40هـ) في فراق أهله[9]. وكان غالبا ما يستشير أبا بكر(ت13هـ)، وعمر بن الخطاب(ت24ه) لكفاءاتهما السياسية.

ويلاحظ، أن استشارات النبي البشير صلى الله عليه وسلم  للمستشارين وللجند، كانت لأجل الإعداد القيادي لرجال الدولة والسلطة في غد الخلافة الراشدة، وأيضا للتأكيد أن السياسة اجتهاد وإعمال للفكر والتجربة، وأن كل اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ. إنه عليه السلام اجتهد في قضية تأبير النخل، وأوصى بعدم تلقيحها فلم تحمل ذلك العام، فراجعوا النبي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: [أنتم أعلم بأمر دنياكم]، وذلك حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة. عن أنس أن النبي الإمام صلى الله عليه وسلم  مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلح" قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: [أنتم أعلم بأمر دنياكم][10]. أخبر المواطنين أنهم أعلم بأمور الدنيا لتجربتهم وخبرتهم، ومن تم فتح باب الاجتهاد أمام الخبراء في كل المجالات، سواء في الفلاحة والزراعة والصناعة والاقتصاد أو في الحرب والسياسة.

ولقد كان نبي الهدى صلى الله عليه وسلم  يستشير الأمة/ الشعب في مناسبات مختلفة، روى البيهقي(ت458هـ) أن النَّبِيّ الرسول صلى الله عليه وسلم  قال في غزوة الحديبية(6هـ) أَشِيرُوا عَلَيَّ[11]. وروى ابن هشام(ت213هـ) أن علم الهدى صلى الله عليه وسلم  قال لجيشه يوم بدر(2هـ): [أشيروا علي أيها الناس][12]. وتروي المصادر التاريخية أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  كان يستشير ممثلي الأمة/ الشعب كما حدث بعد غزوة حنين(سنة8هـ)، قدم وفد هوازن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما فطلب من الناس أن يعطوا رأيهم في رد المغانم التي غنموها من هوازن فاختلف الناس"[13]، وليأخذ الجنود وقتهم في اتخاذ القرار بقناعة دون ضغط أو إرغام، قال النبي صلى الله عليه وسلم  لهم: [إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم][14]، والعرفاء هم دون الرسول صلى الله عليه وسلم  في الرتبة السياسية وهم بمثابة الوزراء والمستشارين، قال الجوهري(393هـ /1003م): "العَريفُ هو النقيبُ، وهو دون الرئيس"[15]. فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا"[16]. فأكدت التصرفات النبوية أن الشورى قاعدة حكم أساسية، كما أشارت الآيات الكريمة: Cوَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِB[17]، وقوله عز من قائل: Cوَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْB[18]. وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم  على أولئك الذين كان يكثر استشارتهم اسم الوزراء، نجد في رواية الترمذي(ت279هـ): قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : [إن لي وزيرين من أهل السماء، ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر][19]، والحديث أورده الحاكم في "المستدرك"، وذكره ابن عساكر في "تاريخه"[20]. وقد يتبادر إلى الذهن أن الوزارة كوظيفة سياسية حكومية كانت معروفة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن، يبدو أن ما ورد من روايات في ذلك لم تعْد كونها معاني عامة لكلمة وزير كما وردت على لسان موسى عليه السّلام: Cوَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِيB[21]. قال ابن قتيبة(ت276هـ): "أصل الوِزَارة من الوِزْر وهو الحِمْلِ، كأن الوزير قد حمل عن السلطان الثِّقْل"[22]. ومن هنا يمكن القول إن الوزارة في المرحلة الزمنية المدروسة عبارة عن منصب سياسي يشغله رجل موثوق به في دينه وعقله، يشاوره الرسول صلى الله عليه وسلم  فيما يعن له من أمور سياسية وعسكرية. وقد جاء ذكر لفظ الوزير في كثير من الأحاديث الصحيحة. أخرج أبو داود(ت275هـ) عنْ عائشةَ(ت58هـ) قَالَتْ: قَال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : [إِذَا أَراد اللَّهُ بِالْأَمِير خيْرا جعل لَه وزير صدْق، إِن نَسي ذَكّره، وَإِن ذكَر أَعانَه، وَإِذا أَراد اللَّه بِهِ غَيْر ذلك جعل لَهُ وزِير سوءٍ، إِنْ نَسِي لَمْ يُذَكِّرْه، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ][23]، وخرج الإمام أحمد(ت241هـ) عن عائشة(ت58هـ) قَالَتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [من ولاه الله عز وجل من أمر المسلمين شيئا، فأراد به خيرا، جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه][24].

ولا يوجد أحد من القدامى يعطي للوزير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم  معنى سياسيا بالمفهوم المعاصر، كمنصب له اختصاصاته المحددة ومكتبه الخاص، لأنه من المتفق أن وظيفة الوزير بهذه الدقة نشأت فيما بعد، في زمن العباسيين[25]. ولقد صرح ابن المسيب بعبارة دقيقة قائلا: "كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم  مكان الوزير، فكان يشاوره في جميع أموره"[26]، فعبارة "مكان الوزير" تفيد أنه يعمل عمل الوزير دون أن يسمى وزيرا. ويعضد هذا الرأي قول ابن خلدون(ت808هـ/ 1406م): (كان  يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاته العامّة والخاصّة، ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى، حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدّول وأحوالها في عهد كسرى وقيصر والنّجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره، ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام)[27]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم  يفوض أبا بكر في قضايا معينة. فقد روى البخاري(ت256هـ) في صحيحه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم  تسأله عن شيء فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم : (إن لم تجديني فأتي أبا بكر)[28]، ولم تفصح المصادر عن مطلب المواطَنة بالتحديد. الذي يفيدنا به النص الحديثي أن أبا بكر كان ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم  في قضاء حاجات المواطنين.

لقد أشارت المصادر والمراجع إلى مجموعة من التراتيب الإدارية، والوظائف السياسية المرتبطة برئيس الدولة، منها وظيفة الحجابة. الملاحظ، أن بعض المواطنين كان يعمل حاجبا/ آذنا لرسول الله فكان يقوم هؤلاء بالإذن عليه في بعض الأوقات وفي بعض الأمكنة. توجد إشارات تاريخية تبين أن أنسا بن مالك(ت91هـ) وأسدا وسفينة ورباح الأسود وأبا أنسه وهم من موالي رسول الله كلفوا بهذه المهمة من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم  [29]، أو تطوعوا كما تطوع أبو موسى الأشعري(ت42هـ) يوما[30]. ويسجل بأن وظيفة الحجابة في العهد النبوي كما هو حال وظيفة الوزراء لم يكن لها قانون مكتوب وشروط محددة، ولم تكن دائمة، إنما كانت في غاية البساطة، تنعقد من حين لآخر عند اقتضاء الحاجة. ذهب بعض المحققين أنه صلى الله عليه وسلم  "إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد من أمره كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه"[31]، وفي "المواهب اللدنية" "أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن له بوّاب راتب"[32]، ويستدل على هذا الأمر بشهادة امرأة مواطنة. عن أنس بن مالك(ت91هـ) رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم  بامرأة تبكي عند قبر فقال: (اتقي الله واصبري). قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"[33]. هكذا ورد في "الصحيح" "بوابين" بصيغة الجمع، وورد في السنن الكبرى للنسائي "فَأَتَتْهُ فَإِذَا لَيْسَ دُونَهُ بَوَّابٌ"[34]، بصيغة المفرد. علق عبد الحي الكتاني على الجملة الواردة في الحديث "فلم تجد عنده بوابين" قائلا: "وفائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم  استشعرت خوفا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه كالملوك، له حاجب وبوّاب، يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته"[35].

ووجدت اختصاصات إعلامية تقلدها الشعراء والخطباء المفوهون، الذين كانت وظيفتهم الذود عن رمز الدولة وعن الدعوة بأشعارهم، وممارسة الضغوط النفسية على المعارضة. ومن أشهر الإعلاميين/ الشعراء حسان بن ثابت(ت54هـ)، الذي انتدبه صاحب الدعوة والدولة صلى الله عليه وسلم  لشغر هذا المنصب الدعوي السياسي. أخرج البخاري(ت256هـ) أن النبي  قال لحسان: [اهج المشركين فإن روح القدس معك][36].

وفي رواية لمسلم(ت261هـ): "يا حسان أجب عن رسول الله، اللهم أيّده بروح القدس"[37]، ومنهم، أيضا، عبد الله بن رواحة(ت12هـ)" [38]، وكعب بن مالك(ت50هـ)[39].

ومن الإعلاميين الخطابيين ثابت بن قيس الخزرجي(ت12هـ)، وظيفته التصدي لخطباء المعارضين. يروي ابن إسحاق(ت151هـ/ 768م) أن وفد بني تميم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام شاعرهم وخطيبهم فقال شعرا ونثرا، فكلف النبي صلى الله عليه وسلم  الشاعر حسان بن ثابت(ت54هـ)، والخطيب ثابت بن قيس(ت12هـ) بإجابتهما ففعل[40]. وانفرد رجل واحد بوظيفة فريدة هي أمانة السر، إذ من المعلوم أن لكل دولة أسرارا ولكل رئيس رجلا أو جماعة من الرجال يثق بهم ويكشف لهم عن أسرار الدولة. الرجل هو الأمين حذيفة بن اليمان(ت36هـ)، الذي اختص بمعرفة أسماء المنافقين/ الطابور الخامس في المجتمع، وكذلك الاطلاع على الأحداث الخطيرة التي سوف تقع بعد عهد الرسالة. أخرج معمر بن راشد(ت153هـ/770م) "أن حذيفة بن اليمان كان صاحب سر الرسول صلى الله عليه وسلم  لقربه منه وثقته به وعلو منزلته عنده"[41]، وذكر أن معاوية بن أبي سفيان(ت30هـ/ 652م) كان أيضا صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم [42].

كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  يدير دواليب الدولة بنفسه، من مقر الحكومة/ المسجد بالعاصمة طيبة. من هناك أشرف صلى الله عليه وسلم  شخصيا على إدارة المدينة المنورة والمناطق المجاورة لها. وكان يشرف على الأقاليم المفتوحة، التي بدأت تتعدد عن طريق استعمال الأمراء.

تفيد الإشارات التاريخية أن الحاكم بشرع الله صلى الله عليه وسلم  كان ينتدب نائبا لإدارة شؤون العاصمة، في حال غيابه عنها لسبب من الأسباب كغزو أو حج، يكلفه بوظائف دينية وسياسية فيستطيع أن يصلي بالناس، وهذه وظيفة دينية بحتة، وهي الوظيفة الأساس، كما أنه مسؤول عن الشؤون الاجتماعية بالتحديد ومنها حفظ الأمن وتفقد أحوال الرعية.

والدليل على أن وظيفتي الآذان والصلاة بالناس كانتا الوظيفة الأساس للأمير المنتدب، ما تفصح عنه الروايات التاريخية بأن أول من انتدب لهذه المهمة ابن أم مكتوم(ت23هـ/ 643م) وهو رجل ضرير[43]. يذكر ابن حجر(ت852هـ) أن النبي صلى الله عليه وسلم  استعمله 13 مرة[44]، وذلك لكونه ضريرا. وقد يتضح هذا من قول ابن قتيبة(ت276هـ) "كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته"[45]. ووصلت مدة غياب النبي صلى الله عليه وسلم  عن عاصمة الدولة إلى 19 يوما في بعض الأحيان، كما هو الحال في غزوة بدر[46]، و 15 يوما كما في غزوة قرقرة الْكُدْرِ[47]، وأحيانا أخرى 10 أيام كما في غزوة فران[48].

ولتحقيق الأمن الداخلي، ونظرا إلى عذر ابن أم مكتوم(ت15هـ) المتمثل في فقدان البصر. فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك معه مجموعة من المسؤولين الأمنيين، لحراسة العاصمة من أي عدوان خارجي أو انقلاب داخلي مسلح، إذ من المعلوم أن عبد الله بن أبي بن سلول(ت9هـ) لا زال يلبس ثوب النفاق، يظهر الانتماء إلى الدعوة ويخفي المعارضة[49]، وإن اليهود يتحينون الفرص. فذات مرة ترك معه "سعد بن عبَادَة فِي 300 يَحْرُسُونَ الْمَدِينَة"[50]، ومرة أخرى ترك مُحَمَّد بن مَسلمة(ت46هـ)[51]. وللأسباب ذاتها كان يترك أحد العلماء بالأحكام للنظر في الأمور القانونية، كما هو الحال مع سباع بن عرفطة. يختلف المؤرخون حول المسؤول الذي كلفه صلى الله عليه وسلم  بالعاصمة في غَزْوَة بَنِي سُلَيْمٍ أهو سباع بن عرفطة أم هو ابْن أُمِّ مَكْتُومٍ[52]، غير أنه يوجد في "السيرة الحلبية" ما يمكن أن يعتبر حلا لهذا الاختلاف. يقول أبو الفرج(ت597هـ/ 1201م): "إن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والأحكام، فإن الضرير لا يجوز له أن يحكم بين الناس، لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم، أي فأمر القضايا والأحكام يجوز أن يكون فرضه صلى الله عليه وسلم  لسباع"[53] (أي ابن عرفطة). وأكد ذلك ابن سعد(ت230هـ) حين قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم  - يستخلفه على المدينة يصلي بالناس فِي عامة غزوات رسول الله"[54]. ولقد أحصت المصادر التاريخية عددا ممن انتدبهم النبي صلى الله عليه وسلم  لشغل منصب الخليفة في المدينة[55].

(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.

               

[1] ـ سورة الشورى: الآية 38.

[2] ـ سورة النساء: من الآية 58.

[3] ـ سورة آل عمران: من الآية 159.

[4] ـ سورة الحجرات: الآية 10.

[5] ـ انظر: البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة. 5: 191./ الخَرْكُوشي، شرف المصطفى. 5: 325./ محب الدين الطبري، خلاصة سير سيد البشر. 1: 165./ المقريزي، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع. 9: 128./ الواقدي، المغازي. 3: 952.

[6] ـ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. 3: 103.

[7] ـ المسعودي، التنبيه والإشراف. ص. 216.

[8] ـ انظر: البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة. 3: 430.

[9] ـ نفسه، 4: 64.

[10] ـ مسلم بن الحجاج، المسند الصحيح المختصر. باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، رقم: 2363، 4: 1836.

[11] ـ نفسه، 4: 100.

[12] ـ ابن هشام، السيرة النبوية. 1: 615.

[13] ـ انظر: السهيلي، الروض الأنف. 7: 353.

[14] ـ انظر: المقريزي، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع. 9: 354.

[15] ـ الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. 4: 1402.

[16] ـ انظر: الذَهَبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. 2: 605.

[17] ـ سورة أل عمران: من الآية 159.

[18] ـ سورة الشورى: من الآية 38.

[19] ـ المقريزي، إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع. 9: 320.

[20] ـ الخَرْكُوشي، شرف المصطفى. 4: 121.

[21] ـ سورة طه: الآيتان 29 ـ 30.

[22] ـ ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير. 3: 157.

[23] ـ أبو داود، سنن أبي داود. كِتَاب الْخَرَاجِ وَالْإِمَارَةِ وَالْفَيْءِ، بَابٌ فِي اتِّخَاذِ الْوَزِيرِ، رقم: 2932، 3: 131.

[24] ـ ابن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل. مُسْنَدُ الصِّدِّيقَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، رقم: 24414، 40: 476.

[25] ـ انظر: أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر. 3: 193./ الذَهَبي، العبر في خبر من غبر. 1: 453./ ابن الوردي، تاريخ ابن الوردي. 2: 62.

[26] ـ الحاكم، المستدرك على الصحيحين. كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، رقم: 4408، 3: 66.

[27] ـ ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر. ص. 295.

[28] ـ البخاري، الجامع المسند الصحيح. كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا"، رقم: 3659، 5: 5.

[29] ـ انظر: عبد الحي الكتاني، التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدنية الإسلامية في المدينة المنورة العلمية. 1: 90.

[30] ـ قال أبو موسى الأشعري: "فقلت لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك ثم ذهبت، فقلت: يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن؟ فقال: "ائذن له وبشره بالجنة"./ البخاري، الجامع المسند الصحيح. كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا"، رقم: 3674، 5: 8.

[31] ـ الزرقاني، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. 6: 85.

[32] ـ القسطلاني، المواهب اللدنية بالمنح المحمدية. 2: 127.

[33] ـ البخاري، الجامع المسند الصحيح. كتاب الجنائز باب زيارة القبور، رقم: 1283، 2: 79.

[34] ـ النسائي، السنن الكبرى. رقم: 10840، 9: 392./ البخاري، الجامع المسند الصحيح. كتاب الأحكام، باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب، رقم: 7154، 9: 65.

[35] ـ عبد الحي الكتاني، التراتيب الإدارية. 1: 91.

[36] ـ الشامي، سبل الهدى والرشاد. 9: 350. (بتصرف).

[37] ـ مسلم بن الحجاج، المسند الصحيح المختصر. كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، بَابُ فَضَائِلِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رقم: 152، 4: 1933.

[38] ـ انظر: ابن حبيب، المحبر. ص. 287.

[39] ـ انظر: مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم. 3: 45./ المقدسي، البدء والتاريخ. 4: 167.

[40] ـ انظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك. 3: 117.

[41] ـ انظر: معمر بن راشد، الجامع. بَابُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رقم: 20424، 11: 238.

[42] ـ الخَرْكُوشي، شرف المصطفى. 6: 89./ محب الدين الطبري، الرياض النضرة في مناقب العشرة. 1: 36.

[43] ـ بَحْشَل، تاريخ واسط. ص. 104.

[44] ـ ابن حَجَر العَسْقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة. 4: 495.

[45] ـ ابن قتيبة الدينوري، المعارف. ص. 290.

[46] ـ انظر: المسعودي، التنبيه والإشراف. ص. 206.

[47] ـ ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. 3: 156.

[48] ـ انظر: المسعودي، التنبيه والإشراف. ص. 210.

[49] ـ نفسه، ص. 211. (بتصرف).

[50] ـ العصامي المكي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي. 2: 202.

[51] ـ نفسه، 2: 125.

[52] ـ انظر: الذَهَبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. 2: 137.

[53] ـ نُور الدَّين الحَلَبي، الحلبي السيرة الحلبية: إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون. 2: 280.

[54] ـ ابن سعد، الطبقات الكبرى. 4: 155.

[55] ـ نفسه، 2: 47. (بتصرف).