بكائية على أطلال النكبة

أيا أمتي هل تشعرين بحالي؟

الشيخ خالد مهنا

رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم

[email protected]

قالوا في القديم كيف يمكن للإنسان أن يحب حين يكون الحب رقصا على طبق من جمر ولهب وصلصال وكانت الأرض مسرح قهر وقد قالت عائشة رضي الله عنها: إبان حادثة الإفك(أحسست أن الهمّ فالق كبدي) وكيف أنّ الهمّ أفقد يعقوب عليه السلام بياض عينيه من شدة البكاء على ولده يوسف عليه السلام.

وفي حديث أهل زماننا قال الحكماء كيف يمكن لمقهور أن يُجّمل الأشياء وهو يجلس فوق الخراب ويكتب فوق الخراب , فإن كان ثمة وجه للتفكير بتفاؤلية مطلقة فهل يمكن لمثل هذا الإنسان ان يهدي حبيبته باقة زهر وفل وهو يجلس فوق الركام ؟...

عشرات الأعوام مرت ولا يكاد يمر يوم إلا ونمر قرب أطلال ضيعة من ضياعنا المنكوبة أو قرية مهجرة او خربة تنعق الغربان على أطلالها بعد أن طردت منها البلابل...لا نجم يسطع في العلا...لا ارض تحبل..لا قمح يطلع في ثراها ...ولا غيمة ماطرة تساق للقدس والطنطورة والسنديانة وعمواس والقسطل والمالحة وصبارين وأم الشوف وصفد وحيفا ويافا...

فلم تستكثرون علينا ان نقف على أطلالها ولو مرة كل عام فنبكي , او نغسل أرضها بدموعنا المحبوسة...؟

سنوات العمر تمضي كخطف البرق ولا يبدو في الأفق القريب أن صلاحا للدين قادم على صهوة جواده،.ولا جلجلة رعد ... والشارع العربي والإسلامي الذي كان في سالف العصور والأزمان يبصق نار أضحت المهنة التي يتقنها بامتياز أن يتناسل مثل الزواحف والقوارض الخشبية...

اكثير علينا ان نذرف الدموع ..نرسل الأشواق مغلفة بالأسى ونبث الديار شكوانا ونجوانا ونقول لها وتقول لنا :

" قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل *** فعشق فلسطين السليبة قاتلي

أسُحُّ الدموع الغاليات تصبراً *** فكم قلبيَ المكلومُ بالغيظ ممتلي

يؤرقني بليل ذكرى خرابها ******* أنينٌ لأحلامي و آهٌ تململ

فما حيلة العشاق و البين ضارب **** بأطنابه و الوجد ليس براحل

تسائلني عن غربة الأهل و الهوى***و أحوال ملتاعٍ بماضيه يصطلي

فتكويه نار الثأر حرى إذا انثوى *** بأطلال أبيات و أشلاء معقِلِ

و أرضينَ قد بارت و ساحةِ ديره***خوت من ضيوفها،و بئرٍ معطل

و صمت بيوت طالما عجَّ أهلها *** و أكواز صبرٍ ما لها أي آكلِ

فيا ليت شعري كيف قد داهم الأسى *** كهجمة ليلٍ فوق بيتٍ مهلهل

و كيف انجلى أهل الديار عشيةً *** بفضلة أمتاعٍ و ظُعنٍ و مثقِلِ

تطاردهم زخات نارٍ تزاحمت *** بضحكات حاخامٍ قميءٍ و قاتلِ

فمن ذلك التاريخِ خُطَّت عقدةٌ *** لغرقدةٍ نمت بكل المحافل

تزيد إذا مرت سنونٌ حُليقةً *** إلى أن غدت كالمارد المترهّل

و زيتونةُ الأرض قد شُلت لوقتها***تحاصرها خضراء شوكٍ لتبتلي

فلسطين مهلاً فالمحبُّ مغامرٌ *** بقلبٍ قويٍّ لا ينوءُ بمَحمل

يصبِّرُه وعد الله بالنصر و الذُرا *** و قبضةُ مفتاح بكفَّينِ نُحَّلِ

و نسمةُ فجرٍ أقبلت من مدينةٍ *** مهجَّرةٍ تُذكي اللظى تحت مِرجلِ

و موجة بحرٍ تحمل الشوق عاتياً *** إلى ضفة ترنو لقبلة باسلِ "

يمضي نهار ويأتي نهار حتى صارت كأعداد حبات الرمال والحصى والنجوم والشهب ولا يزال الروم يحاصرونا من كل البوابات , ويسقط نخل العراق مثخنا بالجراح , ولا صوت يثقب أعماق هذا الظلام ولا شيء يطلع من أرضنا إلا الطباق وإلا الجناس وإلا ألاعيب الكلام....

فهل تستكثرون علينا والحال آه ما أشد قسوته أن نقف على الأطلال الدارسة نبكي ونستبكي , كما وقف الشعراء من قبل على الأردام وفي مقدمتهم الشاعر امرؤ ألقيس الذي فعل من شدة الوفاء أربعة أفعال في أول كلمتين من معلقته المشهورة "قفا نبك" أي أنه (وقف واستوقف) من معه, وهذين فعلين (وبكى واستبكى) وهذين  أيضاً فعلين،ونقول للنفس المشوبة بالشوق والحنين بكل أسى:

قفا نبكِ بالدّم لا بالدّموعْ جراحُ فلسطينَ ملءُ الرّبوعْ

دمارٌ وحرقٌ وذبحٌ وجوعْ وأحمدُ فيها دعاءُ يسوعْ

فلسطينُ تُذبحُ كلّ نهارْ وتروي ثراها دماءُ الصّغارْ

أما مِنْ حبيبٍ عليها يغارْ ويدفعُ عنها ذئابَ التتارْ

فلسطينُ تذبحُ تحتَ القيودْ على النّطعِ أطيارُها والورودْ

تذودُ عنِ الحقّ, كيف تذودْ! تجودُ بكلّ عزيزٍ تجودْ

فلسطينُ تحكي ضميرَ الشّعوبْ وتحلمُ رغمَ الرّدى والحروبْ

بلبسِ الشّفوفِ ورشّ الطّيوبْ وزفّةِ عرسٍ كعرسِ الجنوبْ

تنكّبْ سلاحكَ حانَ الكفاحْ وقصفُ الرّعودِ وعصفُ الرّياحْ

وطيّ الضّبابِ ولمّ الجراحْ وخوضُ الليالي وعتقُ الصّباحْ

لكي يستردّ الرّبيعُ الجمالْ وتبدي الربوعُ خدوداً لآلْ

وتضحكَ فوقَ الغصونِ الغلالْ سنمحو الظّلامِ بعزمِ الرّجالْ

علينا لها أنْ نصونَ الحمى ونبلغَ فيها أعالي السّما

فمهما الدّمُ العربيّ همى سنشوي الطّغاةَ بوهجِ الدّما

وها هنا كانت بابل العتيقة..

وها هنا رسم لمعالم القصور التي بناها المنصور، وهناك المجد الذي شيده هارون الرشيد،وتلك معالم ونقوش ومن هنا رسم الجيوش وخططوا، وهنا رواة الأخبار، وهنا تغنى المتنبي بالأشعار, وهنا جلسوا وهنا تسامروا وهناك تناظروا، فهذا موقد نارهم وذاك محتطبهم وذاك...وذاك..وذاك.

تلك أطلالهم التي لم يبقَ منها إلا كآثار وشمٍ على كف شيخ كبير أعياه الكدح في ظروف الحياة الريفية المتعبة بعد أن كانت نجوماً تزين سماء الدنيا بمصابيحَ تقتبس من الوحي نورها، ويهتدي بها في حَنادس التيه والظلام ، وتَرجُم شيطان الطغاة بشهاب الحق الوهاج،، هذا ما كانت عليه في سالف العصر وتليد الأزمان أما اليوم ..... فقد أصبحت تقبع تحت أجواء  ضبابية برياح عكسية شرقية وغربية تحثو التراب في عيون ألمها التي تغنى بها الشعراء بين الجسر والرصافة حتى ابيضت عينها من الحزن كاظمةً مايجيش بصدرها بعد أن كانت نجلاءَ تكتحل بمِيل العز ، وتجلب الهوى للنفس من تلك الرياض الندية.

فيا ترى أين البشير الذي يلقي عليها قميص الحضارة الغائب ؛ لكي ترتدَّ مبصرة !؟ فشتان ما بين حوراء وعوراء!!

لقد تبدلت من عصر الحضارة والسلام، إلى منحدر الانحطاط والظلام ؛ إذ إن أنهارها بالحميم تغلي وسهولها من الحنق تبكي، فأصبحت تئن وتتوجع في أرض بلاقع، تحت أزيز الطائرات وأنغام المدافع، وبين نياح الثكالى وأنهار المدامع وسط أشلاءٍ نعق فوق أديمها البوم ، وانهار شموخها بعد أن كانت مناراً للعلوم ، واكفهرت سماؤها وغابت تلك الدلائل والنجوم ، على يد علوج الروم تحت قدم الحرية المزعوم..........

أيها الطلل الجريح: لم تفتأ تنسيك طوارق الليل والنهار هولاكو التتر عام656هـ ، حتى جاءك هولاكو الروم عام1423هـ ولم تبرح دجلة والفرات تغسل لعاب الكلاب المتمثلة بابن العلقمي وغيره من الأذناب حتى تلطخت برجيع الرفض  الذي ثبت أوتاده بين دفتيك وذلك كما قيل:

حُمرٌ تداعت إلى فعل القبيح كما            -  قدماً تواصت على أبوالها الحمر

فضجت سماؤك بنهيق وعويل ونباح , واختلطت جعجعات الألم بين بعضها البعض مشوبة بدماء الجروح النازفة في أودية الذل والمهانة ؛ لمحاولة اغتيال وهج العروبة بتسديد الطعنات  لفؤادها العريق بخنجر الغدر وسيف الطغيان...

أعوام الزمان تمضي مهرولة كحمرٍ مستنفرة فرت من قساورة،والأمة التي ترى بأم عينيها كيف فلسطين تباد،وكيف العراق تُنتَهك حُرماتها والبقية تأتي؟ ملهية عن هذه القضايا الكبيرة بتأسيس حُكم القبيلة،وإلغاء حدود الوطن،ورفع صورة شيخ القبيلة، وتعبدُ مع كل انقلاب وثنُها الجديد.

عشرة، وعشرون،وستون ومائة تمضي نسينا بها عبق الياسمين وصوت المطر.. تخاف حتى الطيور أن تبكي على الخرائب خوف اتهامها بأنها مصدر شُؤم، ونشهد كحضور عصرٍ أنا قرأنا السلام على كل المؤسسات المدنية في العالم وكل مؤسسات حقوق الإنسان،وكل الأهل والخلان والأصدقاء،اكتشفنا بعد انقضاء الدهور والقرون إنا كنا نستغيث بكومة من عظام..

أكثر علينا أن نقرأ اليوم على مسامعهم أورادنا. ونقول لهم أسمعوا أم لم يسمعوا.. صمّوا الآذان أم شنفوها , قفا نبك حيفا ويافا وبغداد وكابول. قف أيها الإمام على خشبة منبرك وإبك حال أمة تشروذت.. تشتت راياتها وتمزقت شذر مذر.. قف أيها السياسي على منصة الخطابة وابك جور حكامنا واستبدادهم بالسلطة.. قفي أيتها الأم وأبك غدر الزمان.. قف أيها الفلاح والمزارع وابك انحباس المطر  وإياكم أن تضموا صوتكم لصوت أبي نواس الذي قال وهو يهذر قل لمن وقف على رسم دَرَس ما ضره لو كان جلس إياكم أن تمسكوا عيونكم وتحبسوا عنها المدافع كما فعل المغترب أبو نواس الذي حارب البكاء على الديار واستبدلها بالوقوف على مدام خمر ..

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء       وداوني بالتي كانت هي الداء

وناجى الخمر مناجاة الشفيق المتيم،ورأى فيها سحراً يخترق ويخترم كل جدران الصمت أمامه،ويفتح له كل مغاليق الحياة.

لا تبك ليلى ولا قطرة إلى هند      واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها   أجدته حمرتها في العين والخذ ,

فقد آمنت وما زلت أن أبا نواس الذي أحب الخمرة وإندفع في تقديسها والولاء لها , وإتخذها بديلاً عن ذلك المقدس الموروث والذي شرب وشرب حتى حسب من شدة سكره واغترابه الديك حماراً.

نشرب الليل إلى الصبح صغاراً وكباراً... وتغني ما اشتهينا من الشعر جهاراً ... اسقني حتى تراني أحسَبُ الديك حماراً..

بل تعالوا بنا لنبكي خوله، وليس المقصود خوله الأنثى الممشوقة القوام بل خوله الأرض والتراث والحضارة كما بكاها طرفة بن العبد .  

سلاماً سلاماً منازل خوله، ( فلسطين والعراق ... )

"سلام الخليل تذكر خله تذكر مدرج أحبابه ضفافاً ... ومشتل ضوء ونخلة ... وملهى صبا سوسني الأديم تطوف المواسم بالعشق حوله ..

"سلامٌ عليك، سلامَ الحبيب

سلامَ الغريب تعشَّق أهله

سلامَ المهاجر أدمى خطاه

هجيرٌ ووَحشةُ دربٍ ورحله

فعاد إليك بنزف الجراح

تكاد دماه تخضِّب رجله

على جفنه رعشة من سناك

وفي شفتيه اختلاجة قُبله

وفي ثوبه من بقايا ثراك

بَهارٌ، ونَورٌ وعِشبٌ وظِلَّه

ومن لفح شمسك في عارضيه

يرفرف نجمٌ، وتضحك فُلَّه

ومن وهَجٍ من هواك القديم

بقيَّة غارٍ تجلِّل رحله

* * *

أتاك يُفتِّش خلف الرُّكام

عن الأمس دارًا وجارًا وخِلَّه

عن امرأةٍ من أعزِّ النساء

جلالاً ورِفعةَ قدرٍ ونِحله

ومن أجمل الفاتنات الملاح

قوامًا، وجيدًا، وثغرًا ومُقله

ومن أكرم الغيد حين العطاءِ

إذا الحالُ يسرٌ، أو الحال قِلَّه

على بابها تستريح القوافل

من كل حدب ومن كلِّ مِلَّه

وفي بيتها تتقرَّى الضيوف

تؤم نداه، وتنشد نبله

وتسكن قصرًا منيعَ الجنابِ

بضوء المآذن يغسل ظِلَّه

وبوح الكتاتيب يثري ضحاه

ووحي المنابر يؤنس ليله

وتملك نخلا كنخل العراق

سخاءً، وماءً زُلالاً كدجله

ويحتضن النخلُ أثمن كنز

من الماس لم يؤتَ قارون مثله

ويومَ الكريهة، يومَ النزال

لها الطَّولُ باعًا، وبأسًا، وقوله

إذا زمزم الروع يدمي القلوبَ

إذا راش سهمًا وصوَّب نبله

تيمَّمها الجار زندًا حميًّا

وحضنًا وفيًّا وزادًا ونهله

* * *

أخولة، يا عنفوان الضفاف

وشوق النخيل، وعشق الأهلَّه

فداءً لعينيك ما في يديَّ

وردءًا لعمرك عمري كلَّه

كفاك أذىً من عوادي الزمان

 كفاك هوانًا، وغُبنًا وذِلَّه

بأن تتحوَّل عنك القلوبُ

فيهجر إلفٌ وتغدر خلَّه

ويفتك بالعشق والوجد يومًا

رصيد، وكشفُ حسابٍ، وغلَّه

فيبرأ منك أحبُّ ذويك

كأنك ذنبٌ، كأنك زلَّه

فلا تعتبي، يا هوايَ المقيــمَ،

وإن عُدت نسيًا، فللمال جوله

وحسبك أن تسكني مُقلتيَّ

ظِلالً وخصلةَ ضوء وكحله

ويلهو ثراك على منكبــيَّ

 نثارة عرس وفرحة طفله

فأضفر منه لرأسيَ تاجًا

وأغزل منه لجسمي حله

وما بيدي أن يَضِنَّ البنون

بقطرة دمع تبلل رمله "

وحتى لو عاد أبو نواس وغيره من النواسيين ليتمردوا على دمنا وبكائنا، ورفعوا خناجرهم المعقوفة وقرعوا طبول الهوجاء وتلذذوا بأكل لحمنا نيئاً لأننا أصحاب دمعة نكثر البكاء في أوقات جنائزنا،فإن من حقنا أن لا نبقى محبوسين في معلقة امرؤ القيس إلى ما شاء الله، تلك المعلقة التي يشعر القارئ لها . وكأنها نظمت على ريق لم يبلع،ونفس لم يقطع،فكانت حرية بأن تكتب على جبهة الدهر , وحرية أن تعلق في كعبة الفجر فلم يزل يلطم اللآلئ ويقرط الآذان , ويسحر العقول، ويخلب القلوب إلى أن ختم رحيق قريضته في بيت جال به رونق الحسن وتجلى به بديع الوصف :

كأن السباع فيه غرقى عشية             بأرجائه القصوى أنابيش عُنصُل

أي من ذلك المطر الشديد المذكور آنفا في القصيدة والذي هطل بغزارة على أماكن متفرقة من شبه جزيرة العرب فاقتلع  الأشجار،وهدم البيوت،وروّع الوعول،نرى أنه حتى الحيوانات القوية المفترسة لم تسلم منه فإذا هو يغرقها ويقضي عليها.

فالشاعر في هذا البيت رسم صورة فناء هذه الحيوانات بأسلوب لائق ولفظ شيق،عندما شبه السباع بالعُنصل وهو بصل بري ينبت تحت الأرض ولا يظهر على السطح منه سوى رأسه،فلطخ رؤوس هذه السباع بالطين والماء الكدر حين غرقت بسيول هذا المطر فشبه رؤوس السباع بأصول هذا البصل البري.

راقني هذا الوصف الرائع وشدني لأنني بت أرى أمتنا كلها غرقى على نفس الصورة وذات الهيئة , وليس في الأفق ما يبشر على المدى القريب أنها ستنظم الأفراح على شكل معلقة جديدة تتقدم بها بلا منازع على سائر المعلقات , وإذا كانت الربابة إرثاً تاريخياً جميلاً فلا يجوز أن تبقى نهاية الطرب،وإذا كانت مقامات الحريري إيقاعاً لغوياً من ذهب فلا يصح حين نبصر إيقاعا من زمرد أن نتخلى عنه..

ولذا كلما هاجت بنا الذكرى سنبكي..  سنظل نبكي والفرق بيننا بكاء امرؤ ألقيس،أن بكاؤنا يحمل طابع الصرخة المزلزلة.. صراخ أناسي اشتعلت في ثيابهم النيران،كي نعبر بهذه الصرخات إلى الرصيف الثاني،بها نشدد الأزر،ومعها نسرج الخيول ونعيد للفتوح مجدها،لعلّ وعسى أن تكون بكائياتنا مادة شيقة وتسكر بها (أي تستمتع) الأجيال القادمة على ضفاف دجلة والفرات ونهر البارد وبحر يافا وعكا وحيفا،ونطوّب بها جيلاً جديداً يحسن الأمل كما أحسن الألم،يحسن أن يرسم على ثغره البسمة كما أتقنت عيونه البكاء وإنه لشيء مفيد وناجع ومجدي  ملتى واعتقادي نوح  البكائين وترئم الشادين..وصوت النعي وصوت البشير في كل نادي،وبكاء الحمائم وغناؤها على فرع غصنها..

أقول وقد ناحت بقربي حمائم القاهرة ودمشق واسطنبول وعمان والدوحة وصنعاء والدار البيضاء. وطرابلس وبيروت ومكة ..... 

أيَا جَيراننا وإخواننا وأحبابنا وأشقاءنا، هَلْ تَشعُرون بِأحَوالنا؟

(مَعاذَ الهَوَى! ما ذُقتِ طارِقةَ النّوَى

وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ

أتَحْمِلُ مَحْزُونَ الفُؤادِ قَوَادِمٌ

عَلى غُصُنٍ نَائِي المَسَافَةِ عَالِ؟  

أيَا جَارتَا، ما أنْصَفَ الدّهْرُ بَينَنا!

تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الهُمُومَ، تَعَالِي!

تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحاً لَدَيّ ضَعِيفَةً،

تَرَدّدُ في جِسْمٍ يُعَذّبُ بَالي )

أيتها الأمة.. أنخطر اليوم ببالكم وأعداؤنا يحتفون اليوم باستقلالهم!! في ذكرى نكبتنا..

أيفرحكم ويثلج قلوبكم أنهم على موعد قريب من سن قوانين تحرم علينا إحياء مناسباتنا،ونعي مهجرينا،وتذكر أكبر نكبات العصر قاطبة؟