النموذج الفرد

عبد الرحمن الحياني

عبد الرحمن الحياني

[email protected]

عندما يحصل الرضا تنقلب المعادلة فيصبح المحب محبوبًا والمحبوب محبًا! ياللعجب أو حصل هذا فعلاً ؟! أو يمكن أن يحدث هذا في تاريخ البشرية من لدن آدم ؟! ... أجل لقد حصل: إنه النموذج الفرد في عصر الرسالة المحمدية ، وأعني به الصديق أبو بكر رضي الله عنه ، كيف كان هذا ؟!وما تجلياته ؟  إليكم القصة من مبتداها إلى منتهاها .

في أول البعثة المحمدية ، كان أبو بكر رضي الله عنه حريصًا على حماية كلمة التوحيد التي عمرت قلوب المؤمنين إذ ذاك ، وكانوا قلة مستضعفة ، وخاصة تلك الفئة المستعبدة ، بلال وياسر وأصحابهما ، كان من المنظور المنطقي _ كما رأى أبو قحافة _ أن يعمد أبو بكر الصديق إلى شراء الأشداء الأقوياء من العبيد ، ليكونوا عونًا له في الذود عن الدعوة ومساعدة أولئك المستضعفين ، لكنه فعل عكس ذلك ! لقد اشترى المستضعفين وأعتقهم ! ما السر في ذلك يا أبا بكر ؟! إن أبا بكر ـ على ما يبدو ـ لم ير الضعف في هؤلاء العبيد ، بل رأى فيهم القوة ! وأي قوة أقوى من الإيمان بالله تعالى وتوحيده ؟! إن قلوب هذه الفئة كانت عامرة بالإيمان مطمئنة به ، وهذا أهم مصدر من مصادر القوة الذي تنبّه له أبو بكر ، وغاب تمامًا عن أبي قحافة ! لن نقف عند هذا الموقف كثيراً ، وإليك موقفا آخر ـ يا باغي المزيد ـ : في يوم العسرة ندب المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلمين لتجهيز الجيش المنطلق إلى تخوم الروم ، فبادر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى البذل والتضحية ، لتجهيز الجيش ، وحمل من لايقدر من المسلمين ، وما خبر عثمان رضي الله عنه عنا ببعيد ، حين قال المصطفى: " ما ضر عثمان ما صنع بعد اليوم ".. لاشيء غير عادي إلى الآن .. أليس كذلك ؟.. فجل الصحابة ممن كانت لديهم الأموال ، قدموا كل حسب استطاعته وطاقته ، لكن عمر بن الخطاب تنبه لأمر آخر ، ما هو يا ترى ؟! إن ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رأى في هذه المناسبة فرصته السانحة لمنافسة أبي بكر رضي الله عنه ، وهذا أمر مشروع طالما كان في أمور الخير بعيداً عن الحسد والكراهية ، فما كان من ابن الخطاب رضي الله عنه إلا أن عمد إلى ماله فشطره نصفين  ، نصف أبقاه لعياله ، ونصف حمله إلى رسول الله وضعه بين يديه مضمّخا بطيب الحب ، وأريج الوفاء لهذه الدعوة المباركة ، ولا عليه بعدها أن يجلس لينظر ما يفعل أبو بكر هذه المرة .. ولكن هيهات هيهات ، فها هو أبو بكر يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً صدقته ، ويضعها بكل تواضع بين يدي الحبيب الأعظم عليه الصلاة والسلام ، وهنا تحين لحظة المفارقة العجيبة التي فوتت على عمر بن الخطاب الفرصة التي خطط لها ، كيف هذا ؟! كلنا يعلم أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سأل عمر بن الخطاب وقتها : ماذا أبقيت لأهلك يا عمر ؟! فكان الجواب أبقيت لهم شطر مالي يا رسول الله ، وجئتك بالشطر الآخر ، فدعا الرسول له بخير .. من جهة الحساب المنطقي:  لقد فعل عمر ما يمليه عليه العقل الراشد المتزن ، ولا ضير في ذلك .. وماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر ، فجاء الجواب من الصدّيق على استحياء وبكل تواضع : أبقيت لهم الله ورسوله !! أتشاطرونني الرأي في أن عمر رضي الله عنه أصيب بالذهول ـ ولو للحظة واحدة ـ من جواب أبي بكر ، أجل .. فهمنا وتفهمنا تصرف عمر رضي الله عنه ، فالوقت وقت عسرة ، والمسلمون على سفر قد يطول شهورًا ، والثمار في أشجارها لما تنضج بعد ، ولابد من رعاية العيال حال الغياب ، فلا يعقل أن يتركوا هكذا ! وليس من المنطق أن يكون التصرف على غير هذا .. أجل هذه حسبة العقل والمنطق ، ولكن قولوا لي بربكم : كيف حسبها أبو بكر الصديق ؟! إن العقل ليعجز أن يستوعب ما فعل هذا الرجل الفرد ... وفي غمرة المفاجأة نسمع هاتفا يدعونا للتريث لحظة ، ماذا يريد هذا الهاتف منا يا ترى ؟! إنه يريد أن يقول لنا: إن ما فعله الصديق أبو بكر كانت له سوابق أخر ، كيف ؟! أ معقول هذا ؟! أجل لقد تخلى الصديق أكثر من مرة عن  ماله كله في سبيل هذه الدعوة المباركة ، ألا تذكرون يوم الهجرة ؟! لقد جهّز الصديق الرواحل ، وحمل جميع ماله معه ، وتوجه بصحبة الحبيب المصطفى في رحلة الهجرة إلى المدينة ، أجل ، وكلنا يذكر ما فعلت أسماء عندما سألها جدها أبو قحافة : كم ترك لكم أبو بكر من المال ؟ فما كان منها إلا أن عمدت إلى جراب وضعت فيه قدرًا من الحصى ، وطلبت من جدها الضرير الطاعن في السن أن يتلمس الجراب فكان جوابه : إن كان هذا ما تركه أبو بكر ، فقد ترك الكثير ! أجل لقد ترك أبو بكر الكثير ..  ولا تثريب على عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يمتنع عن مسابقة الصديق ومنافسته بعد ذلك اليوم .. عجبا لأمرك يا أبا بكر ، كيف أجريت الحسبة في المرات الثلاث ؟! تعتق المستضعفين بعد أن تدفع فيهم الأموال الطائلة دون حساب وأنت التاجر المخضرم المحنك ،  وبنفس راضية تتخلى عن أموالك جميعها مرتين ولا تحسب حساب العيال ؟! قل لنا بربك كيف فعلت ذلك ؟! إن العقل ليعجز عن مجرد التفكير بما فعلت ، لا بالقيام بما فعلت .. لله درك يا صديق رسول الله ، لقد أدهشت العقول ، وأبهرت الأفهام ..

ومن هنا أجدني أتفهم أمرًا في غاية الغرابة حصل لفرد واحد في تاريخ البشرية ، أجدني أقف خاشعًا أمام عظمة الجبار سبحانه جل في علاه ، عندما أخبر الحبيب المصطفى أنه بات راضيًا عن أبي بكر ،  نعم الشرف ، ونعم الفضل ، ونعم السؤدد ـ يا أبا بكر ـ ، ولكن أن تنقلب موازين الرضا ، فيسأل المولى جل في علاه رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهل أبو بكر راض عنا !! يا الله .. يالعظمة الله !! وهل هذا منطقي ؟! وهل هذا معقول ؟! أم هو صادم لكل منطق على وجه البسيطة ؟! إذاً إن مستوى التعامل مختلف تمامًا ، وما انقلاب الموازين إلا من هذا القبيل ، ولا عجب بعدها أن يصف الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إيمان الصديق رضي الله عنه قائلاً : لو وضع إيمان أبي بكر في كفة ووضع إيمان الأمة في كفة لرجح إيمان أبي بكر ... هنا نصل إلى فصل الخطاب ، وتمام الجواب ... فرضي الله عنك يا خليفة رسول الله ، رضي الله عنك يا صديق رسول الله ، رضي الله عنك يا ثاني اثنين إذ هما في الغار ، والسلام عليك إلى يوم الدين أيها النموذج الفرد ...