من أساليب التربية النبوية-13

من أساليب التربية النبوية

أسلوب الحكيم ( الالتفات إلى الأهم )

( 13)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

يكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً بين أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يعلمهم ويربيهم ، يحادثهم ويحاورهم ، يباسطهم ويوادهم . . فيهم الألمعي الذكي ، وفيهم البسيط الغر ، وفيهم الصغير الغمر القليل الخبرة ، وفيهم ذو السن الذي حنكته التجارب وعركته الحياة ، فدرى كنهها وذاق حلوها مرها . .

 ويسأله أحدهم سؤالاً ليس له جواب ، إما لأنه من علوم الغيب التي استأثر الله سبحانه نفسه بها فلا يطلع عليه أحداً ، وإما أن الجواب ليس له فائدة تذكر ، والمعرفة به لا تضيف جديداً ، وهنا يستغل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السؤال ويبني عليه قضية جديدة جديرة بالنظر والتفكير والتأمل ، جديرة بالعمل فيما ينتج عنها ، وهذا هو الأهم .

 فمن ذلك ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

 فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟

 فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ماذا أعددت لها ؟

 قال : حب الله والرسول .

 فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنت مع من أحببت(1) .

 فالأعرابي – كما رأينا - يسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر غيبي لا يعرفه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ينتج عن معرفته أمر إيجابي ، ولا عن الجهل به أمر سلبي ،وهنا نجد أسلوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ ويسميه البلاغيون : أسلوب الحكيم أو الالتفات إلى الأهم ـ فيجيب عن سؤاله بسؤال : ماذا أعددت لها ؟

 فالمهم في معرفة يوم القيامة الاستعداد لها ، والعمل الدؤوب الناصح ، وعندها يقر الأعرابي أنه قليل العمل ، ضعيف الهمة ، إلا أن في قلبه حباً عظيماً لله سبحانه ولرسوله الكريم . .

 جواب ـ إن صدق فيه ـ عظيم ، فهذا جوهر الإيمان ، وحقيقة الإسلام ، وهنا يقرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاعدة نورانية ، ضياؤها يشع ويملأ النفوس أملاً ، والقلوب سعادة ، والجوانح خشوعاً : أنت مع من أحببت ، وهل هناك هدف أسمى وأعظم من هذا الهدف ؟!!

 قال أنس ـ في رواية أخرى ـ فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام أشد مما فرحوا يومئذ(2).

 ومن هذا القبيل ( أسلوب الحكيم والالتفات إلى الأهم ) ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن امرأة أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصبي .

 فقالت : ادع له ، فقد دفنت ثلاثة .

 فقال : احتظرتِ بحظار شديد من نار(3) .

 فهذه امرأة – كما قرأنا - فقدت ثلاثة من أطفالها ، فلما ولد الرابع جاءت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كي يدعو له بطول العمر. . ودعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستجاب ، ويحق لها ذلك ، فهي أم ، وما أدراك من الأم ؟! فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أرادت ، لكنه نبهها والمسلمين إلى فضل من الله عظيم كتبه ـ تعالى ـ لمن يفقد أبناءه : إنه النجاة من النار .

 ومن هذا القبيل أيضاً : ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد الجهاد فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أحي والداك ؟

 قال : نعم .

 قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ففيهما فجاهد(4) .

 لفتة عظيمة من القلب الرحيم ، والمعلم العظيم ، ودرس رائع من أستاذ الأساتيذ ، ومعلم الناس الخير .

 فالجهاد ذروة سنام الإسلام ـ لا شك في ذلك ولا ريب ـ لكن رضاء الوالدين والقيام عليهما ، وتلبية حاجاتهما جهاد وأي جهاد !!

 إن قيامك على أمرهما ، وإرضاءك لهما جهاد عظيم فلا تـُفـَوّته أيها المسلم .

 وفي رواية أخرى عن رجل جاء يبايع على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما(5) .

 وأسلوب الحكيم قلّ من يستعمله ، فهو يحتاج إلى سرعة البديهة ، وذكاء ، وحسن في الأداء.

 

              

(1) رواه الشيخان .

(2) في الأدب المفرد الحديث / 353 / ، رواه الترمذي وأبو داود والنسائي والطبراني .

(3) احتظرت : اتقيت ، ونجوت . والحديث أخرجه مسلم في صحيحه ، والبخاري في الأدب المفرد برقم / 145 / .

(4) رواه البخاري في الأدب المفرد ، الحديث / 20 / .

(5) رواه البخاري في الأدب المفرد الحديث / 19 / ، وأخرجه مسلم والنسائي وغيرهما .