من أساليب التربية النبوية-12

من أساليب التربية النبوية

طريقة الخطوات المتتالية

(12)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

      إن المعلم الناجح يقسم درسه إلى فقرات متتالية ، ويستعين بهذا التقسيم على إيصال المعلومات مرتبة : واحدة إثر واحدة ، ولا ينتقل إلى الثانية إلى بعد أن يفهم تلاميذه الأولى ، وهو بهذا يتيح لهم الفرصة لفهم ما يتلقونه أولاً بأول واستيعابه ، ويكون ناجحاً إذا ربط الموضوع ( بفقراته كلها ) موضحاً بدء كل فقرة وانتهاءها ، وعلاقتها بما بعدها . .

     وإذا تابعنا أحاديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وجدنا قسماً كبيراً منها يتبع هذا الأسلوب النافع الدال على قدرة فائقة في إيصال المراد إلى السامع ، والتأكد من أنه تلقى العظة والعبرة واستوعبها .

     وهذا ما نجده واضحاً في حديث ابن عباس  رضي الله عنهما  قال : لما بعث النبي  صلى الله عليه وسلم  معاذاَ إلى أهل اليمن ، قال له : إنك لتقدُم على قوم من أهل الكتاب :

     1 فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى .

     2 فإذا عرفوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم .

     3 فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة في أموالهم ، تؤخذ من غنيهم فترد إلى فقيرهم .

     4 فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتَوَقَّ كرام أموال الناس(1).

     نلاحظ : 1 أن النبي  صلى الله عليه وسلم  عَرَّف معاذاً  رسوله  بأهل اليمن ، فهم ليسوا وثنيين ولا عباد أصنام ، فلا يفرض الإسلام عليهم فرضاً ، فاستعمل الحكمة معهم .

     2 وهم يعرفون الله تعالى ، لكن معرفتهم إياه  سبحانه  مختلطة ، فهم يجعلونه ثالث ثلاثة ويجعلون عيسى عليه السلام ابنه ، فادعهم إلى توحيده  سبحانه  وبيّنْ لهم خطأ اعتقادهم .

     3 فإذا عرفوا الله حق المعرفة وجب أن يعبوده ، وأول العبادات مرتبة : الصلاة ، فبينْ لهم أن الصلاة عماد الدين ، وأنها تقرب العبد من مولاه ، وأن ما بين الرجل والكفر تركُ الصلاة .

     4 فإذا صلوا فقد دخلوا الإسلام ، وجاءت العبادات الأخرى وراءها  ، والزكاة مقدمة على غيرها . . وأعلمْهم أن الزكاة ليست إتاوة تدفع للحاكم  فلربما استصعبوها !! فأنبئهم أنها للتكافل الاجتماعي ، (( حق يؤخذ من الغني فيهم فيرد إلى فقيرهم )) فهذا أدعى إلى الرضا بها .

     5 فإن أقروا بها فخذ منهم زكاة أموالهم ، وتجنب ما يحبون ويضنون به ( وهذا يدل على عمق فهم أغوار النفس الإنسانية ) . . .

     وأنت تلاحظ من حديثه  صلى الله عليه وسلم  ما يلي :

     1 التدرج من الأهم إلى الأقل أهمية ( ولا تنس أنها  كلها  مهمة ) : المقدمة : ( تعريفهم بالدين ) ثم التوحيد ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة . .

     2 الكلمات الرابطة بين الفقرات : (( إنك لتقدم ، فليكن أول ، فإذا عرفوا ، فإذا صلوا ، فإذا أقرّوا  . . ))

     فالتعبير الثاني ( ليكن أول ) نتيجة للأول ( إنك لتقدم ) .

     والتعبير الثالث ( فإذا عرفوا ) نتيجة للتعبير الثاني .

     والتعبير الرابع ( فإذا صلوا ) نتيجة للثالث .

     والتعبير الخامس ( فإذا أقروا ) نتيجة للرابع .

     خطوة بعد خطوة ، وطلب إثر طلب ، وانتقال وثيق يدل على تلازم الفقرات كلها . . وهكذا يستوعب السامع العظة والعبرة ، ويتفهمها ويهضمها .

     ونجد هذه الخطوات واضحة فيما رواه أبو ذر الغفاري  رضي الله عنه  عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه قيل له : أي الأعمال خير ؟

     قال  صلى الله عليه وسلم  : إيمان بالله وجهاد في سبيله .

     قيل : فأي الرقاب أفضل ؟

     قال  صلى الله عليه وسلم  : أغلاها ثمناً ، وأنفسها عند أهلها .

     قيل : أفرأيت إن لم أستطع بعض العمل ؟

     قال  صلى الله عليه وسلم  : فتُعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق .

     قيل : أفرأيت إن ضعفت ؟

     قال  صلى الله عليه وسلم  : تدع الناس من الشر ، فإنها صدقة ، تَصدَّقُ بها على نفسك (2).

     أنت تلاحظ في حديثه  صلى الله عليه وسلم  ما يلي :

     1 التدرج من الإيمان إلى الإحسان إلى الناس ، إلى مساعدتهم  إلى كف الأذى عنهم . أي من المُهِمِّ إلى الأقل أهمية .

     2 أما أداة الربط فهي : السؤال والجواب والمحاورة بين رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وسائله .

     وفي حديث آخر نرى هذه الطريقة واضحة : عن جابر بن عبد الله  رضي الله عنهما  قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : (( كل معروف صدقة ، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وأن تفرغ دلوك في إناء أخيك ))(3) .

     فتأمل معي وصف المعروف . . فهو صدقة تتصدق بها على أخيك المسلم ، فإذا عرف المسلم أن المعروفَ يُثابُ عليه جاءته طريقة من طرق المعروف التي لا تكلف كثيراً . . الابتسام وطلاقة  الوجه ، وحرارة لقاء المسلم أخاه المسلم ، والتحبب إليه ، وإشاعة الراحة والهناء في جو الأخوة .

ثم ينتقل المسلم من الصدقة التي لا تكلف الكثير إلى الصدقة التي فيها عطاء وإيثار ، لأن الذي تؤثره على نفسك أخوك المسلم ، ثم إلى الصدقة التي فيها بذل وسخاء ، وهنا تهون الدنيا أمام إخوان العقيدة ، ويرخص الغالي في سبيلهم . . وما أعظمها من أخوّة .

ومن التعليم بطريق الخطوات ، ما رواه ابن عمر  رضي الله عنهما  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : (( أقيموا الصفوف ، وحاذوا بين المناكب ، وسدوا الخلل ، ولينوا بأيدي إخوانكم ، ولا تذروا فرجات للشيطان ، ومن وصل صفاً وصله الله ، ومن قطع صفاً قطعه  الله ))(4) .

ألا ترى معي أن التعليم المتدرج في هذا الحديث جاء صورة حية تبدأ من قيام المسلمين إلى الصلاة ، ورص الصفوف ، والتكاتف بينهم بود وإخاء ، يفسح بعضهم لبعض ، ثم يكونون لحمة واحدة ليس للشيطان منفذ بينهم ، وتغشاهم رحمة الله تعالى .

هذا رسول لله  صلى الله عليه وسلم  يعلم البشرية حتى هذه اللحظة وإلى قيام الساعة ، الطريقة الحديثة القديمة في الوصول إلى قلوب العباد ، وهدايتهم إلى طريق الرشاد .

 

              

(1)  رواه البخاري برقم / 6937 / .

(2)  رواه الشيخان .

(3)  الأدب المفرد الحديث / 304 / .

(4)  رياض الصالحين ، باب الصف الأول ، رواه أبو داود .