من عيون الأخبار لابن قتيبة
بتصرف: د.عثمان قدري مكانسي
إطلالة على المواعيد
المواعيد وتنجّزها
ذكر جبّار بن سلمى عامر بن الطّفيل فقال: كان واللّه إذا وعد بالخير وفى، وإذا أوعد بالشرّ أخلف وعفا.
وأنشد أبو عمرو بن العلاء في مثل هذا المعنى:
ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي |
|
ويأمن منّي صـولة الـمـتـهـدّد |
وإنّـي إن أوعـدتـه أو وعـدتـه |
|
ليكذب إيعادي ويصدق مـوعـدي |
وكان يقال: وعد الكريم نقدٌ، ووعد اللئيم تسويف.
وقال عبد الصّمد بن الفضل الرّقاشيّ لخالد بن ديسم عامل الرّيّ:
أخالد إنّ الرّيّ قد أجحفت بـنـا |
|
وضاق علينا رحبها ومعاشُهـا |
وقد أطمعتنا منك يوماً سحـابةٌ |
|
أضاء لنا برقٌ وكفّ رشاشُهـا |
فلا غيمها يصحو فييئس طامعٌ |
|
ولا ماؤها يأتي فتـُروى عطاشُها |
وقال رجل يرى الحجّاج سريع الوعد بالشرّ:
كأنّ فؤادي بين أظـفـار طـائر |
|
من الخوف في جوّ السماء محلّقِ |
حذار امرىء قد كنت أعلـم أنـه |
|
متى ما يعد من نفسه الشرّ يصدق |
أقوال في الخلف بالوعد
وفي الخلف بالوعد قال عمرو بن الحارث: كنت متى شئت أجد من يعد وينجز، فقد أعياني من يعد ولا ينجز.
قال: 1 وكانوا يفعلون ولا يقولون،
2 فقد صاروا يقولون ويفعلون،
3 ثم صاروا يقولون ولا يفعلون،
4 ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون.
في ذلك المعنى قال بشارلإحداهنّ:
وعدتِني ثم لم توفي بمـوعـدتـي |
|
فكنتِ كالمزن لم يمطر وقد رعدا |
هذا مثل قول العرب لمن يعد ولا يفي: "برقٌ خلّب"
وقال آخر:
قد بلوناك بحمد الله إنْ أغنى البـلاء
فإذا جُـلّ مواعيدِك والجحدُ سـواء
وقال آخر يشكو من عدم وفاء المحبوبة :
لها كلّ عامٍ موعدٌ غيرُ نـاجـزٍ |
|
ووقتٌ إذا ما رأس حولٍ تجرّما |
فإن أوعدتْ شرّاً أتى دون وقته |
|
وإن وعدت خيراً أراث وأعتما |
أقوال في إنجاز الوعد
وعد عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما رجلاً من قريش أن يزوّجه ابنته! فلما كان عند موته أرسل إليه فزوّجه إياها، وقال: كرهت أن ألقى اللّه عزّ وجلّ بثلث النفاق
وقال الطائي يمدح رجلاً وفيّا بالعهود :
تقول قول الذي ليس الوفاء له |
|
خلقاً وتنجز إنجاز الذي حلفا |
وأثنى اللّه تبارك وتعالى على نبيّه إسماعيل صلى اللّه عليه وسلم فقال: "إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً"
وقال بشار يمدح آخر يتسم بالوفاء :
إذا قال تمّ علـى قـولـه |
|
ومات العناء بلا أو نعـمْ |
وبعض الرجال بمـوعـده |
|
قريبٌ وبالفعل تحت الرّجم |
كجاري السّراب ترى لمعه |
|
ولست بواجده عـنـدكـم |
وقال نصيب:
يقول فيحسن القول ابن ليلى |
|
ويفعل فوق أحسن ما يقول |
وقال زيادٌ الأعجم:
للّه درّك من فـتـىً |
|
لو كنت تفعل ما تقول |
لا خير في كذب الجوا |
|
د وحبّذا صدق البخيل |
من أمثال العرب في الخلف بالوعد
والعرب تضرب المثل في الخلف بعرقوب. قال ابن الكلبيّ عن أبيه: كان عرقوب رجلاً من العماليق؛ فأتاه أخٌ له فسأله شيئاً؛ فقال له عرقوب: إذا أَطلعَ نخلي. فلما أطلع أتاه، قال: إذا أبْلحَ. فلما أبْلح أتاه، فقال: إذا أزهى. فلما أزهى أتاه، قال: إذا أرطب . فلماأتاه، قال: إذا صار تمراً ، فلما أتْمَر جدّه من الليل ولم يعط أخاه شيئاً.
وفي هذا المعنى قال كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً |
|
وما مواعيدها إلاّ الأباطـيل |
وقال الأشجعيّ:
وعَدتَ وكان الخلف منك سجيّةً |
|
مواعيد عرقوب أخاه بيتـْرَب |
قال ابن قتيبة : هكذا قرأته على البصريين في كتاب سيبويه بالتاء وفتح الراء.
وقال الشاعريفخر بإنجاز وعده:
متى ما أقل يوماً لطالـب حـاجةٍ |
|
نعم، أقضها قدما وذلك من شكلي |
وإن قلت لا، بيّنتها من مكانـهـا |
|
ولم أوذه منها بجرٍّ ولا مـطـل |
وللبخـلة الأولـى أقـلّ مـلامةً |
|
من الجود بدءاً ثم يتبع بالبـخـل |
وقال أبو نواس لامرأة ، فأحسَن في قوله :
أنضيت أحرف لا مما لهجت بها |
|
فحوّلي رحلها عنها إلى نـعـم |
أو حوّليها إلى "لا" فهي تعدلهـا |
|
إن كنت حاولت في ذا قلّة الكلم |
قستم علينا فعارضنا قياسـكـم |
|
يا من تناهى إليه غاية الكـرم |
وفي هذا معنىً لطيفٌ.
وكتب رجلٌ إلى صديق له:
قد أفردتك برجائي بعد اللّه، وتعجّلت راحة اليأس ممن يجود بالوعد ويضنّ بالإنجاز، ويحسد أن يفضل، ويزهد أن يفضل، ويعيب الكذب ولا يصدق .
وقال آخرفي صاحب له تغيّر حين صار غنياً وانزوى عن صاحبه خوف أن يسأله :
وذي ثقةٍ تبدّل حين أثـرى |
|
ومن شيمي مراقبة الثّقات |
فقلت له عتبت عليّ إثمـاً |
|
فراراً من مؤونات العدات |
فعد لمودّتي وعلـيّ نـذرٌ |
|
سألتك حاجةً حتى الممات |
وقال مسلم بن الوليد في من يعد ولا يفي :
لسانك أحلى من جنى النحل موعداً وكفك بالمعروف أضيق من قفل
وسأل خلف بن خليفة أبان بن الوليد أن يهب له جاريةً، فوعده وأبطأ عليه؛ فكتب إليه:
أرى حاجتي عند الأمير كأنّمـا |
|
تهمّ زماناً عـنـده بـمـقـام |
وأحصر من إذكاره إن لقـيتـه |
|
وصدق الحياء ملجمٌ بـلـجـام |
أراها إذا كان النهـار نـسـيئةً |
|
وبالليل تقضي عند كلّ مـنـام |
فيا ربّ أخرجها فإنك مخـرجٌ |
|
من الميت حيّاً مفصحاً بكـلام |
فتعلم ما شكري إذا ما قضيتهـا |
|
وكيف صلاتي عندها وصيامي |
والعرب تقول: "أنجز حرٌّ ما وعد"
وقال أميّة بن أبي الصّلت لعبد اللّه بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني |
|
حياؤك إن شيمتك الحياء |
إذا أثنى عليك المرء يوماً |
|
كفاه من تعرضه الثنـاء |
كلمات في استنجاز المواعيد
وقال الزّهريّ: حقيقٌ على من أورق بوعدٍ، أن يثمر بفعل.
وقال المغيرة: من أخرّ حاجة رجلٍ فقد تضمنّ قضاءها.
يقول عثمان قدري : ( وحقيق بقول هذين الرجلين – الزهري والمغيرة أن يُكتب بماء الذهب )
وقال الشاعريستنجز وعداً ، فأحسن في قوله :
كفاك مدكراً وجهي بأمـري |
|
وحسبي أن أراك وأن تراني |
وكيف أحثّ من يعني بشأنـي |
|
ويعرف حاجتي ويرى مكاني |
وقال الشاعر:
يا صاح قل في حاجتي |
|
أذكرتها فيما ذكرتـا |
إنّ السّراح من النجـا |
|
ح إذا شقيت بما طلبتا |
وقال آخر:
في تصديك للمطالب إذكا |
|
رٌ بوعدٍ جرى به المقدار |
وكتب بعض الكتاب إلى صديقٍ له: إن من العجب إذكارَ معنيٍّ، وحث متيقظٍ واستبطاء ذاكرٍ؛ إلا أن ذا الحاجة لا يدع أن يقول في حاجته، حلّ بذلك منها أو عقل. وكتابي تذكرةٌ والسلام.
وقال الطرِمّاح:
ألِحسن منزلتي تؤخر حاجتـي |
|
أم ليس عندك لي بخيرٍ مطمع |
وقال حمزة بن بيضٍ لمخلد بن يزيد بن المهلّب:
أتيناك في حاجةٍ فاقضهـا |
|
وقل مرحباً يجب المرحب |
ولا تكلّنا إلى مـعـشـرٍ |
|
متى يعِدوا عدةً يكذبـوا |
وقال من تأخرت حاجته عند بعضهم :
حوائج الناس كلّها قضـيت |
|
وحاجتي لا أراك تقضيهـا |
أناقة اللّه حاجتي عقـرت |
|
أم نبت الحرف في نواحيها |
وقال جريرٌ لعمر بن عبد العزيز:
أأذكر الضّرّ والبلوى التبي نزلت |
|
أم تكتفي بالذي بلّغت من خبري |
وقال آخر:
أروح لتسليم عليك وأغتـدي |
|
وحسبك بالتّسليم منّي تقاضيا |
كفى بطلاب المرء ما لا يناله |
|
عناءً وباليأس المصرّح ناهيا |
وقال آخر:
ما أنت بالسّبب الضّعيف وإنما |
|
نجحُ الأمور بقوّة الأسـبـاب |
فاليوم حاجتنـا إلـيك وإنـمـا |
|
يدعى الطبيب لكثرة الأوصاب |
وكتب بعض الكتّاب إلى بعض السلطان: أنا أنزّهك عن التجمّل لي بوعدٍ يطول به المدى ويعتزله الوفاء، وأحبّ أن يتقرر عندك أن أملي فيك أبعد من أن أختلس الأمور منك اختلاس من يرى في عاجلك عوضاً من آجلك، وفي الراهن من يومك بدلاً من المأمول في غدك، وألا تكون منزلتي في نفسك منزلة مَن يصرف الطرف عنه وتستكره النفس عليه ويتكلّف ما فوق العفو له، وأن يختار بين العذر والشكر؛ فاللّه يعلم أنّ أثر الحظّين عندي أحقّهما عليك، وأصوبهما لحالي عندك.
وقال أبو عطاء السّندي في يزيد بن عمر "بن هبيرة":
ثلاثٌ حكتهن لقـوم قـيسٍ |
|
رجعن إليّ صفراً خائبات |
أقام على الفرات يزيد شهراً |
|
فقال الناس أيّهما الفـراتي |
فيا عجباً لبحرٍ فاض يسقي |
|
جميع الناس لم يبلل لهاتي |
حال المسؤول الكريم عند السؤال
في معنى هذا العنوان قال الشاعر:
سألناه الجزيل فما تلـكّـا |
|
وأعطى فوق منيتنا وزادا |
مراراً ما أعـود إلـيه إلاّ |
|
تبسّم ضاحكاً وثنى الوسادا |
وقال آخر:
قومٌ إذا نزل الغريب بدارهـم |
|
تركوه ربّ صواهلٍ وقـيان |
وإذا دعوتَهـم لـيوم كـريهةٍ |
|
سدّوا شعاع الشمس بالفرسان |
لا ينقرون الأرض عند سؤالهم |
|
لتلمّس العلاّت بـالـعـيدان |
بل يبسطون وجوههم فترى لها |
|
عند السؤال كأحسن الألـوان |
وقال آخر:
يجعل المعروف والبرّ ذخراً |
|
ويعدّ الحمد خير التّجـارة |
وإذا ما جئتـه تـجـتـديه |
|
خلته بشّرْتـَه بـبـشـاره |
فترى في الطّرف منه حياءً |
|
وترى الوجه منه استنـاره |
وقال آخر:
إذا غدا المهـديّ فـي جـنـده |
|
أوراح في آل الرسول الغضابِ |
بدا لك المعروف في وجـهـه |
|
كالضوء يجري في ثنايا الكعاب |
وأنشدني العتبيّ:
له في ذرى المعروف نُعمى كأنها |
|
مواقع ماء المزن في البلد القفر |
إذا ما أتاه السـائلـون تـوقـدت |
|
عليه مصابيح الطلاقة والبـشـر |
والمشهور في هذا قول زهير:
تراه إذا ما جئته متـهـلّـلاً |
|
كأنّك تعطيه الذي أنت سائله |
حال المسؤول البخيل عند السؤال
وسأل رجل من الأعراب رجلاً "فلم يعطه" شيئاً؛ فقال:
كدحت بأظفاري وأعملت معـولـي |
|
فصادفت جلموداً من الصّخر أملسا |
تشاغل لما جئت في وجه حاجـتـي |
|
وأطرق حتى قلت قد مات أو عسى |
وأجمعت أن أنـعـاه حـين رأيتـه |
|
يفوق فواق "الموت" ثم تنـفّـسـا |
فقلت له لا بأس، لـسـت بـعـائذٍ |
|
فأفرخ تعلوه الكـآبة مـبـلـسـا |
وقال مسلم:
أطرق لما أتيت ممـتـدحـاً |
|
فلم يقل "لا" فضلاً على "نعم" |
فخفت إن مات أن أقـاد بـه |
|
فقمت أبغي النّجاء من أمـم |
لو أنّ كنز البـلاد فـي يده |
|
لم يدَعِ الاعتلال بـالـعـدم |
وقال الحارث الكندي:
فلما أن أتيناه وقـلـنـا |
|
بحاجتنا تلوّن لون ورس |
وأض بكفّه يحتكّ ضرساً |
|
يرينا أنه وجعٌ بضـرس |
فقلت لصاحبي أبه كزاز |
|
وقلت أسِرّه أتراه يمسي |
وقمنا هاربين معاً جميعاً |
|
نحاذر أن نزنّ بقتل نفس |
قال الأصمعي: دخل أعرابّي على المساور الضّبي وكان عاملاً على الرّي، فسأله فلم يعطه شيئاً، فأنشأ يقول:
أتيت المسـاور فـي حـاجةٍ |
|
فما زال يسعل حتى ضـرط |
وحكّ قفاه بـكـر سـوعـه |
|
ومسّح عثنونه وامـتـخـط |
فأمسكت عن حاجتـي خـيفةً |
|
لأخرى تقطّع شرج السفـط |
فأقسمُ لو عدت في حاجـتـي |
|
للطّخ بالسلح وشي النـمّـط |
وقال غلطنا حساب الخـراج |
|
فقلت من الضّرط جاء الغلط |
قال: فكان العامل كّلما ركب صاح به الصّبيان: " من الضرط جاء الغلط " فهرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان.
وقال نهار بن توسعة في قتيبة بن مسلم:
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها |
|
وكلّ باب من الخيرات مفتوح |
فبدّلت بعده قرداً نـطـيف بـه |
|
كأنما وجهه بالخلّ منـضـوح |
يقول عثمان قدري : (والحقيقة أن قتيبة كان رجلاً عظيماً وبطلاً صنديداً أخضع الصين لسطوةالخلافة الأموية ، وأرى الشاعر نهاراً جانب الصواب وافترى على قتيبة بن مسلم رحمه الله )
وقال آخر:
لا تسأل المرء عن خلائقه |
|
في وجهه شاهدٌ من الخبر |