من قواعد الأصوليين في قراءة النص القرآني
من قواعد الأصوليين في قراءة النص القرآني
ذ. امحمد رحماني
3 – دلالة الخطاب ( حمل الخطاب على الظاهر )
ومن الضوابط والشروط التي عمل الأصوليون على تأصيلها في قراءتهم للنص ضابط حمل الخطاب على الظاهر ويقصد بهذا الضابط أن المفسر يجب أن يلتزم بأعراف اللغة العربية ومنطقها في الإفهام .
وقد كان المفسرون الأوائل يعتمدون كثيرا على هذا الضابط في الفهم والتفسير لأن الظاهر كما هو متعارف عليه بين الأصوليين والمفسرين هو ما يعطيه النص بدلالته اللغوية الواضحة ، كما دل على ذلك اصطلاح التخاطب الذي اتفقت عليه الجماعة اللغوية .
والظاهر كما هو محدد بين الأصوليين هو المعنى المتبادر من تداول الخطاب لأن التخاطب يخضع لشروط ومقتضيات مسبقة بين المتخاطبين وهو المسمى عند الأصوليين بعادة العرب في الخطاب أو عرف التخاطب وأن تخطي أو تجاوز هذا القيد يعد من قبيل تحريف الخطاب عن محله .
على هذا الأساس وقع الاتفاق بين الأصوليين والمفسرين على ضرورة حمل الخطاب على الظاهر في التفسير لأن هذا الحمل يفضي إلى إدراك المعنى الحقيقي للخطاب بطريقة علمية وموضوعية بعيدا عن الذاتية والقناعات الشخصية وبعيدا عن كل ما من شأنه أن يحدث شرخا في عملية قراءة النص.
فالأصل في دلالة الألفاظ على المعاني هو المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن والجاري حسب عوائد العرب في القول والفهم وأن الأصل في كلام الشارع ونصوص أحكامه أنها قوالب لمدلولاتها الظاهرة والواجب العمل بهذه الظواهر : المطلق على إطلاقه والعام على عمومه ما لم يرد دليل مقنع يبيح العدول عنهما إلى غيرهما فقد " تقرر أنا متعبدون بالجريان على مقتضى الألفاظ اللغوية إذا صدرت من الشارع ولم يثبت مخصص مانع من إجراء مقتضى اللفظ "(1) لا يجوز أن يحمل الكلام على خلاف ظاهره إلا بمعونة الأدلة إن اختلفت الأدلة حصل القطع بأن الظاهر مراد(2) وفي هذا يقول ابن القيم " إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه عل ظاهره .. والأدلة إنما تدل على ذلك وهذا حق لا ينازع فيه عالم والنزاع إنما هو في غيره إذا عرف هذا فالواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب ولا يتم التفهم والفهم إلا بذلك ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه قال الشافعي [ وحديث رسول الله r على ظاهره ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم فهو ملبوس عليه ملبس على الناس فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط وبطلت فائدة التخاطب وانتفت خاصية الإنسان وصار الناس كالبهائم بل أسوأ حالا]"(3).
والدعوة إلى الالتزام بظاهر الخطاب في القراءة لا يعني أن الأصوليين لا يعترفون بالتحول الدلالي لألفاظ الخطاب الموضوع للإفهام وإنما يشترطون التقيد بمنطق اللغة العربية في هذا التحول الذي يمس دلالة الألفاظ(4) وقد ظن بعض الدارسين أن الالتزام بالظاهر في التفسير يعد شكلا من أشكال الجمود عند المعاني الحرفية للنصوص لكن الحقيقة ليس كما ظنوا إذ من المؤكد بين الأصوليين أن الألفاظ في دلالتها على المعاني يعتريها نوع من التحول تبعا لسياق استعمالها وأن مراعاة سياق الخطاب أمر ضروري في التماس معنى النص وقد ذكر ابن خلدون حاجة دارس أصول الفقه بأنه " يتعين عليه النظر في دلالة الألفاظ ولك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة ..ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام فكانت كلها من قواعد هذا الفن ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية "(5) .
وحيث أن النص المعني بالقراءة والتفسير والتأويل هو النص الديني الشرعي الذي جاء موصولا بألفاظه ومعانيه بما درج عليه العرب في طرق بيانهم وملابسات خطابهم فينبغي أن يقرأ بما يناسب لغتهم ومعطيات سياق كلامهم وفقا لمقتضى طريقة العرب في كلامها ومعهود خطابها ومقاصدها في كلامها وأساليب معانيها ومنوالها في توزيع المعاني على الألفاظ ، وهو أمر ضروري لتأسيس الفهم وتشكيل الدلالة ، ومن ثم فقد كان من ضوابط القراءة الصحيحة عند الأصوليين أن مقاربة أي نص لغوي تستدعي الوقوف على حدود لغته التي تحمل بلاغه ومعرفة مقاصد أصحابها في كلامهم وأن يؤخذ الكلام بما يوافق معهود الخطاب المتبادل بين المتكلمين وعرف المخاطب وعاداته المطردة في كلامه فكل متكلم له عرف في لفظ إنما يحمل لفظه على عرفه(6) وإن آفة النص أن يقرأ غريبا عن معهود خطابه في لغة أخرى عند قوم آخرين فتكون قراءة مضيعة لبلاغته ومدمرة لسياقه ومقاصده ومدلولاته ومغيبة للعديد من خصوصياته في إجراء اللغة وتحليل الخطاب وفهم دلالة الألفاظ على مقتضى ورود الخطاب فيكون من الخطأ والدلس على نحو ما نراه في القراءات الحداثية التي تقرأ النص الشرعي قراءة نص نثري مات صاحبه كما في المنهج البنيوي أو المنهج التفكيكي الذي يقوم على الشك في كل الأنظمة والأعراف والمقاصد والمعطيات والدلالات والقول إلى ما لا نهاية المعنى وميتافيزيقية الدلالة حتى يكبر حجم التأويل ويزداد كثافة وتماسكـا فيؤدي بطبيعة الحال كما هو معروف إلى انزلاقات دلالية لا حصر لها ولا عد توصل إلى مراد أصحابها من انتهاك حرمة النص الشرعي كما هو واضح في قراءة محمد أركون ومدرسته بين التونسين ممثلة بعبد المجيد الشرفي والصادق بلعيد وبسام الجمل ويوسف صديق وقراءة علي حرب وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وطيب تزيني وجورج طرابيشي وأدونيس ، فأسباب الفساد في التأويلات كما يقول علماء الأصول " الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود "(7) فكان من ضوابطهم " كلما كان السامع أعرف بالمتكلم وقصده وبيانه وعادته كانت استفادته للعلم بمراده أكمل وأعم "(8) وهذا ما يفسر لنا سبب تأكيد الإمام الشافعي في رسالته على أهمية امتلاك اللغة والإحاطة بأساليب كلام العرب " ذلك أن من شأن الجاهل بتنوع لسان العرب واتساعه وتداخل المعاني فيه أن يخلط في فهم الخطاب الشرعي "(9) قال ابن تيمية "فاللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التي بها يتكلم وهي عادته وعرفه التي يعتادها في خطابه ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادية اختيارية فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغته ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول r ومراده بها عرف عادته في خطابه وتبين له مراده ما لا يتبين لغيره ولهذا ينبغي أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث أن يذكر نظائر ذلك اللفظ ماذا عنى بها الله ورسوله r ؟
فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله r التي يخاطب بها عباده وهي العادة المعروفة من كلامه ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره كانت النظائر كثيرة عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة لا يختص بها هو r بل هي لغة قومه ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه"(10) وقد بحث الأصوليون قضية دلالة الخطاب وفاقت عنايتهم بها اهتمامات جميع المتخصصين في حقول اللغة فالأصولي بحث في الدلالة وركز عليها لتعينه على استنباط الحكم الشرعي بظروفه وأقسامه بالكشف عنها بوساطة المعنى المستخرج من النصوص(11) .
وقد تحقق للأصوليين فهم المعنى بمستوياته المختلفة :
المعنى الحقيقي : وهو ما وضع اللفظ بإزائه أصالة وهذا ما يتكفل به علم المعجم.
والمعنى الاستعمالي : وهو الذي تجاوزت اللغة فيه ذلك المعنى الأصلي فاستعملت اللفظ في غيره على سبيل المجاز أو الكناية وهذا ما يتكفل به علم البيان .
والمعنى الوظيفي : وهو ما تؤديه الكلمة بمالها من معنى حقيقي واستعمالي في أثناء تركيبها مع غيرها وهذا ما يتكفل به علم النحو .
فضلا عن المعاني السياقية والقرائن المتنوعة والنظرة الكلية لمجموع النصوص التشريعية على أنها وحدة إعجازية متكاملة وذلك لأن معرفة طرق دلالة النص تتوقف على معرفة هذه المعاني من معهود خطاب العرب ، فأهم ما يشغل الأصوليين هو الدلالة أو ضبط العلاقة بين اللفظ والمعنى في الخطاب الذي يستثمرونه وهو الخطاب الشرعي .
وقد بحث الأصوليون العلاقة بين اللفظ والمعنى من جهتين :
نظرية وتطبيقية .
أما النظرية فتهتم بأصل اللغة وكونها توقيفا أم اصطلاحا وهو امتداد لنقاش اللغويين وكذلك القياس في اللغة جوازه أو عدمه ودلالة الأسماء الشرعية والأسماء الدينية كالصلاة والصيام والإيمان والكفر وغيرها .
أما التطبيقية فتعنى بتفسير الخطاب الشرعي فتدرس أنواع الدلالة ودلالة اللفظ على المعنى من خلال استقرائهم لها في كلام العرب قال الزركشي في البرهان " ما يستفاد من اللفظ نوعان : أحدهما متلقى من المنطوق به المصرح بذكره ، والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو المسكوت عنه لا ذكر له على قضية التصريح ، فأما المنطوق به فينقسم إلى النص والظاهر ..وأما ما ليس منطوقا به ولكن المنطوق به مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم ، والشافعي قائل به وقد فصله في الرسالة أحسن تفصيل ونحن نسرد معاني كلامه : فمما ذكره أن قال : المفهوم قسمان : مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة،فأما مفهوم الموافقة فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى وهذا كتنصيص الرب تعالى في سياق الأمر ببر الوالدين على النهي عن التأفيف فإنه مشعر بالزجر عن سائر جهات التعنيف .. وأما مفهوم المخالفة فهو ما يدل من جهة كونه مخصصا بالذكر على أن المسكوت عنه مخالف للمخصص بالذكر كقوله عليه السلام « في سائمة الغنم زكاة » هذا التخصيص يشعر بأن المعلوفة لا زكاة فيها ، وذكر الأستاذ أبو بكر بن فورك في مجموعاته فصلا لفظيا بين قسمي المفهوم فقال : ما دل على الموافقة فهو الذي يسمى مفهوم الخطاب وما دل على المخالفة فهو الذي يسمى دليل الخطاب وهذا راجع إلى تلقيب قريب "(12) .
* - باحث مغربي
1 – انظر البرهان 1/357 .
2 – انظر نفائس الأصول 3/1107-1109-1129 .
3 – انظر إعلام الموقعين 3/109 .
4 – فتحي الدريني : بحوث في الفكر الإسلامي المعاصر الفصول المخصصة لمنهجية الطبري في التفسير .
5 – انظر المقدمة 360 .
6 – انظر نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي 2/589 – 3/1136 .
7 – انظر الموافقات 4/327 .
8 – انظر مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/121 .
9 – انظر الرسالة ص: 179 -235 .
10 – انظر فتاوى ابن تيمية 7/115-169-432 .
11 – انظر البحث الدلالي عند ابن سينا : مشكور كاظم العواد ص : 24 .
12 – انظر البحث الدلالي عند ابن سينا ص : 25 .