الأدب بين إمتاع الأسماع وتقويم الطباع

عبد الله رمضان

[email protected]

يختصر عنوان المقال -على نحو ما- وظيفة الأدب في الحياة؛ فهي ذات بعدين: البعد الجمالي وما يتعلق به من تذوق وعاطفة وخيال، والبعد الرسالي وما يتعلق به من فكر ورؤية وتوجيه للسلوك.

وإذا رجعنا إلى تراثنا المعجمي للكشف عن المعاني التي تتجلى في كلمة "أدب" نجد ثراء وتنوعا يجعل للكلمة الكثير من الدلالات التي تطورت منذ القديم وحتى الآن؛ فقد عرف الجاهليون كلمة "أدب"، وكانت تعني ضمن ما تعني "الدعاء" و"الجمع"، والآدِبُ هو الداعي، قال طرفة بن العبد في معرض حديثه عن الكرم:

نحن في المَشْتَاةِ نَدْعُو الجَفَلَى          لا تــرى الآدِب فينا يَنْتَقِر

وأدب البحرِ -بالتحريك– كثرة مائه، عن أبي عمرو، يقال: جاش أدَب البحر، وأنشد:

عن ثَبَجِ البَحْرِ يَجِيشُ أَدَبُهْ(1 ).

والمَأدُبَة من الأدَبِ طَعَامُ الدّعْوَةِ ... والمُؤْدِبُ: صاحِبُ المَأدُبَةِ ... وأدَبْتُ القَوْمَ على أمْرِ كذا آدِبُهم وآدُبُهم أدْبًا: أي جَمَعْتُهم عليه، ومنه مَأدُبَةُ الدّعْوَةِ( 2).

وفي لسان العرب ذكر ابن منظور أن الأدب سُمِّيَ أَدَبًا لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إلى المَحامِد، ويَنْهاهم عن المقَابِح. والأَدَبُ كذلك الظَّرْفُ وحُسْنُ التَّناوُلِ ... وفلان قد اسْتَأْدَبَ: بمعنى تَأَدَّبَ. ويقال للبعيرِ إذا رِيضَ وذُلِّلَ: أَدِيبٌ مُؤَدَّبٌ. وقال مُزاحِمٌ العُقَيْلي:

وهُنَّ يُصَرِّفْنَ النَّوى بَين عالِجٍ ونَجْرانَ، تَصْرِيفَ الأَدِيبِ المُذَلَّلِ( 3)

واصطلاحًا تدل كلمة "الأدب" على الكلام البليغ الذي يرجو به صاحبه التأثير في قارئيه وسامعيه، وقد يكون هذا الكلام شعرًا أو نثرًا.

ويجب أن يشتمل كل قسم من أقسام الأدب أو فرع من فروعه على السمات الخاصة به التي تعارف عليها أهل التخصص.

الأدب والرقي الحضاري

يمثل الأدب مرآة تدل على حضارة أمة من الأمم أو وحشيتها وتأخرها وانحدارها، فكلما ارتقت الآداب ارتقت الأمم، وإذا "أراد العاقل أن يعرف درجة التمدّن التي بلغها شعب من الشعوب يبحث عن انتشار الآداب بين أهلهِ؛ ولذلك ترى المؤرخين يقدمون في تاريخهم تاريخ الآداب على تاريخ الوقائع، وربما أفردوا للآداب تاريخًا قائمًا بذاتهِ يثبت ما يختص بالعلوم والمعارف في كل ملّة مخبرًا عن نشأة الآداب بينها واتساع نطاقها وأسباب ترقيها ونتائجها الطيبة في إصلاح العموم وتحسين أخلاقهم ودفعهم إلى المشروعات الأثيرة والمساعي الخطيرة"( 4)، ويتضح ذلك جليا في حضارتنا الإسلامية أيام ازدهارها؛ فقد ارتقت الآداب العربية وتعددت ألوانها وطرائقها وأساليبها، وكان لها آثار واضحة على آداب الأمم الأخرى في الشرق والغرب.

أثر الأدب في السلوك والطباع

للكلام البليغ لذة خاصة ومتعة مميزة وأثر واضح لتحسين القدرة التعبيرية للسامع والقارئ خصوصا إذا تلقاه من أهل الفصاحة والبلاغة، وفي ذلك يقول الجاحظ: "إنّه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتَعُ ولا آنَق، ولا ألذُّ في الأسماع، ولا أشدُّ اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفَتَقُ للِّسان، ولا أجودُ تقويماً للبيان، مِن طول استماعِ حديثِ الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماءِ البلغاء، وقد أصابَ القومُ في عَامَّة ما وَصَفوا"(5).

ومن وظائف الأدب الإمتاعية أنه يذهب الملل ويشرح الفؤاد، "وكان علي بن أبي طالب يقول: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة"( 6).

وللأدب دور في تكوين الشخصية السوية التي يمكن الاعتماد عليها وإيكال الأمور العظام إليها، فقد كتب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضي "أما بعد، فإنني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير ذي عفّة، ونزاهة طعمةٍ، قد هذّبته الآداب، وأحكمته التجارب؛ ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه؛ إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلّد مهمًّا من الأمور أجزأ فيه؛ له سنٌّ مع أدب ولسان، تقعده الرزانة ويسكنه الحلم"( 7).

ومن سمات العاقل الذي يسعى للمعالي ويطلب النفيس والغالي أن يحرص على "مجالسة الرجال ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار، وأن يحسن في السؤال، ويتثبت في المقال، ولا يكثر الكلام والخطاب، إن سئل عمّا يعلمه أجاب، وإن لم يسأل صمت للاستماع، ولم يتعرض لمكروه الانقطاع"(8 ).

وفي هذا السياق يذكر ابن عبد البر القرطبي أن "أولى ما عني به الطالب، ورغب فيه الراغب، وصرف إليه العاقل همه، وأكد فيه عزمه -بعد الوقوف على معاني السنن والكتاب- مطالعة فنون الآداب، وما اشتملت عليه من وجوه الصواب"(9 ).

ويحدد كنه هذه الفنون وأنواعها ووظائفها فيقول عنها: إنها "أنواع الحكم التي تحيي النفس والقلب، وتشحذ الذهن واللب، وتبعث على المكارم، وتنهى عن الدنايا والمحارم، ولا شيء أنظم لشمل ذلك كله، وأجمع لفنونه، وأهدى إلى عيونه، وأعقل لشارده، وأثقف لنادره؛ من تقييد الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والفصول الشريفة، والأخبار الظريفة، من حكم الحكماء، وكلام البلغاء العقلاء: من أئمة السلف، وصالحي الخلف، الذين امتثلوا في أفعالهم وأقوالهم، آداب التنزيل، ومعاني سنن الرسول، ونوادر العرب وأمثالها، وأجوبتها ومقاطعها، ومباديها وفصولها، وما حووه من حكم العجم، وسائر الأمم"(10 ).

ويرى أن في الاهتمام بالآداب والسير والأخبار فائدة عظيمة تنضاف إلى الفوائد الإمتاعية، وهي التأثير الإيجابي على السلوك، والاقتداء بما ورد في الآداب والأخبار من أخلاق حسنة ومسالك طيبة وتلميحات ذكية، يقول ابن عبد البر: "ففي تقييد أخبارهم، وحفظ مذاهبهم، ما يبعث على امتثال طرقهم واحتذائها، واتباع آثارهم واقتفائها"(11 ).

قال الشعراء عن الأدب والأدباء

يأسى أبو تمام حبيب بن أوس الطائي على حال الأدباء في زمان علا فيه شأن الدهماء، وتراجع الاهتمام بالنجباء والعلماء والأدباء؛ فيقول:

أَرَى الحشوَ والدَّهْماءَ أضحوا كأنَّهمْ          شعوبٌ    تلاقَتْ   دوننا  وقبائلُ

غَدَوا   وكأنَّ   الجهلَ  يجمعُهمْ  بهِ          أبٌ وذَوو الآدابِ فيهم نوافلُ(12)

وقال الحميدي: حضر عقيل بن نصر مجلسًا فيه أحداث من الكتاب، فاختلفوا في شيء من الآداب إلى أن أفضى بهم ذلك إلى السباب، فقال عقيل على البديهة، وأنشدنيها بعض الرؤساء ولم يعلم قائلها:

تعس الزمان لقد أتى بعجائبٍ          ومحا رسوم الفضل  والآدابِ

وأتى بكتابٍ لو انبسطت يدي          فيهم رددتهمُ إلى الكتابِ(13)

وقال شاعر يذم بخيلا، فيعيب عليه بخله ويعيب عليه كذلك عدم روايته من الآداب شيئًا، وكأن الافتقار إلى رواية الآداب يتساوى مع البخل وغيره من مساوئ الأخلاق، بل إن هذا البخيل لو روى شيئًا من الآداب فلا يروي إلا ما يعضد أخلاقه الذميمة:

يـحصّنُ زَاده عن كلِّ iiضرسٍ
ولا يَـرْوِي مـن الآدابِ iiشيئًا
قـلـيـلُ المالِ تُصْلِحُهُ iiفيبقى


ويُـعْـمِلُ ضِرْسَهُ في كلِّ iiزادِ
سـوى  بـيتٍ لأبرَهَةَ الإيادي
ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ(14)

وقال كشاجم مادحًا رجلا بكمال الآداب والمكرمات:

يا  كاملَ  الآدابِ   مُنفردَ  العلا          والمكرمات ويا كثير الحاسدِ

شَخَصَ الأنامُ إلى كمالك فاستعذ          من  شر أعينهم بعيبٍ واحدِ

ويمتدح ابن النقيب ملح الآداب ولا يرى شيئًا يضاهي حسنها وبهاءها:

وللقريضِ  فكاهاتٌ  يرنّ بها          طيرُ البيانِ إِذا ما عزَّ مِرْنانُ

يا حبّذا ملحُ الآدابِ من مُلَحٍ          فكلُّها  رقّةٌ  حسنٌ  وإِحسانُ

ويتحدث ابن طبا طبا العلوي عن "شموس الآداب" بوصف رائق أخاذ فيقول:

شموسٌ مِن الآداب تَطلع في الدُجى          وَتُلقي عَلى أُفق الضَمير شُعاعَها

مَعانٍ   تَوافَت   في   ضَمير  كَأَنَّها          أَمانيُّ قَد صادَفَت مِنها اجتِماعَها

وقال آخر مادحًا العلم والأدب ومبينًا فضلهما على سائر الأفضال وقدرهما على باقي الأقدار:

من كان مفتخرًا بالمال والنسبِ          فإنما     فخرنا     بالعلم   والأدبِبِبِبِبِبِ

لا  خير  في  رجل حر بلا أدب          لا لا.. وإن كان منسوبا إلى العربِ(15 )

وبعد.. فالأدب الأصيل له وظيفة، لا تقتصر على الإمتاع فقط؛ بل تتعداه إلى التأثير في السلوك والطباع، والأفكار والمعتقدات؛ فكم من فكرة طارت بها قصيدة، وكم من حكمة انطلق بها مثل سائر وقول صادر.

وكل الأمم تحمل حكمتها وخبرتها وثقافتها في آدابها؛ لذلك لا يجوز أن نقف كثيرًا عند التوجهات التي تجرد الأدب والفن من الفكرة بدعوى أن الأدب للأدب أو الفن للفن؛ فالأدب بدون فكر محض تهاويم ليس لها أرض ثابتة تقف عليها، وغيوم لا طائل من ورائها، والفكرة دون بلاغة أخاذة وخيال جامح وعاطفة مشبوبة محض كلام لا يختلف كثيرًا عن لغة العوام أو صياغات العلماء التي تهتم بدقة المعلومة على حساب رقة العبارة وهيئتها الإبداعية.

** باحث في النقد الأدبي.

1. تاج العروس من جواهر القاموس – محمد مرتضى الحسيني الزبيدي – تحقيق: علي هلالي ط2 (مطبعة حكومة الكويت – دولة الكويت – سنة 2004م) ج 2/ 14 (مادة: أدب<>

2. انظر: المحيط في اللغة – الصاحب بن عباد – تحقيق: محمد حسن آل ياسين – (دار عالم الكتب - بيروت) (مادة أدب).

3.   انظر: لسان العرب – ابن منظور (دار المعارف – القاهرة) (مادة: أدب).

4. تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر وفي الربع الأول من القرن العشرين لويس شيخو (دار المشرق – بيروت) (مقدمة الكتاب).

5.   البيان والتبيين – الجاحظ – تحقيق: فوزي عطوي (دار صعب - بيروت) ج1/91.

6. أدب المجالسة – يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري - تحقيق: سمير حلبي – ط 1 (دار الصحابة للتراث – طنطا – جمهورية مصر العربية) ج1/107.

7. الأمالي في لغة العرب – أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي (دار الكتب العلمية – بيروت – سنة 1978م) ج1/253.

8. انظر: الموشى أو الظرف والظرفاء – أبو الطيب محمد بن إسحق بن يحيى الوشاء تحقيق: كمال مصطفى (مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة – سنة 1993م).

9. بهجة المجالس وأنس المجالس وشحن الذاهن والهاجس – ابن عبد البر القرطبي تحقيق: محمد مرسي الخولي (دار الكتب العلمية - بيروت) (مقدمة المؤلف).

10.  السابق.

11.  السابق.

12.  الحماسة المغربية – أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي – تحقيق: محمد رضوان الداية – ط1 (دار الفكر المعاصر – بيروت – سنة 1991م) ج1/376.

13.  انظر: بدائع البدائه لابن ظافر الأزدي – والأبيات لأبي العيناء الإخباري قالها في هجاء كاتب يدعى أسد بن جوهر، انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي – دار الكتب العلمية سنة 1991م، 5/407.

14.  ديوان المعاني – أبو هلال العسكري (دار الجيل - بيروت) ج1/186.

15.  معجم الأدباء - ج1/ص45.

               

* باحث في النقد الأدبي