العلاقات الدولية واختلال الموازين

هايل عبد المولى طشطوش

[email protected]

لاشك أن الأمن والاستقرار هو هاجس الإنسان  منذ أن ووجد على وجه هذه البسيطة ، فهو يسعى وبشتى الوسائل لتحقيق هذا الهدف ، ولكن تتصارعه نوازعه الداخلية التي تدعوه الى العدوان تارة والى البحث عن الأمن والسلام تارة أخرى ،لذا فهو في حيرة من أمرة منذ ذلك اليوم والى اليوم .

وقد تطورت هذه النوازع بعد أن كبرت المجتمعات وتعقدت نظم العلاقات والاتصالات بينها وخرجت الى السطح على شكل حروب ومشاكل ومصالح تعيشها الأمم وتحيى في ظلها الانسانيه ، مما كون ما يعرف بعالم المجتمعات الحديثة والعلوم الاجتماعية والانسانيه بعلم العلاقات الدولية الذي يعنى بدراسة أحوال البشرية وأنماط العلاقات بينها والظروف التي تحكمها وتتحكم بها ،لذا فقد مرت العلاقات بين الدول بحالات من الشد والجذب والمد والجزر وحكمتها أنماط متعددة من النظم (systems)  تراوحت بين نظام متعدد الأقطاب ونظام ثنائي القطبيه والمرحلة الأخيرة التي تعيش في ظلها الانسانيه وهي مرحله القطب الواحد الذي تهيمن فيه قوة واحدة على مجريات الأحداث في العلاقات الدولية .

عاشت البشرية ظروفا صعبه وعانت من ويلات الهيمنة والسيطرة والرغبة في التسلط التي كانت النظم(systems) تمارسها -ومن خلال القوى العظمى المهيمنة- ، أهمها الاستعمار والتسلط واستغلال خيرات الشعوب وثروات الأمم الضعيفة مما كان له الأثر الأكبر في تخلف مناطق واسعة من العالم وتأخرها وتراجع دورها الإنساني في بناء الحضارة وجعلها رهينة بيد هذة الدول المتسلطة ، وان أكثر ما عانى من ويلات الاستعمار وظلمه وقهره هو بلادنا العربية ومنطقتنا الاسلاميه حيث خضعت ولقرون عديدة ولفترات مديدة من الهيمنة العثمانية التي حولتها الى بلاد متخلفة علميا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، وما ان انتهى الاستعمار العثماني حتى وقعت بلادنا فريسة لتنازع وتقاسم الدول الكبرى التي كانت جزء من النظام المتعدد الأقطاب الذي كان سائدا في العالم آنذاك .

ونتيجة لهذا التصارع والتنازع بين الدول الكبرى فقد قامت الحروب الطاحنة والمعارك الشرسة والتي كان من نتيجتها الحروب العالمية الأولى والثانية التي أنهكت البشرية ومات خلالها ملايين البشر الأبرياء واستنزفت الملايين بل المليارات من المبالغ المالية التي استخدمت لإعادة بناء ما هدمته الحرب  ، هذا وما زالت البشرية تعاني الى اليوم من ويلات هذه الحروب الشرسة التي أحرقت الأخضر واليابس وكانت نهايتها هو إحراق الأرض والإنسان بأسوأ ما صنعته يد الإنسان من سلاح فتاك وهو السلاح النووي الذي حسم النتائج وأنهى مرحله هامه من حياة العلاقات الدولية وهي نهاية النظام المتعدد الأقطاب وبداية نظام أخر هو النظام الثنائي القطبية الذي تزعمته القوتان العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كل منها يحمل ايدولوجيتة المناقضة لايدولوجيه الطرف الآخر والتي يريد ان يفرضها على أصقاع الأرض وينشرها في أرجاء المعمورة ولو بالقوة ، مما حدا بهذا القوى إلى نشر مفاهيم جديدة في فضاء العلاقات الدولية كان أهمها مفهوم الاستقطاب (polarization ) الذي كان مبنيا على التنافس والتسابق في جذب كل طرف لأكبر عدد ممكن  من الدول الى جانبه ، وهذا بحد ذاته كان يخفي صراعا وتسابقا محموما بين طرفي النظام الدولي كانت نتيجته هو سيادة علاقات تنافسيه وتصارعيه بينهما كان لها أثارها السلبية على العالم .

لقد كانت الويلات والحروب الطاحنة من أهم مميزات النظام المتعدد الأقطاب حيث كانت البشرية تأمل مع نهايته في إنهاء عقود من التعب والضنك والويلات والمعاناة وما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى ظهر الى الوجود النظام العالمي الجديد الثنائي القطبية الذي كانت أهم ملامحه هو التسابق والتنافس المحموم بين القوتين في امتلاك كل منهما لأكبر وأقوى ترسانة من السلاح وخوف كل طرف من الطرف الأخر ، مما جعل ميزان العلاقات الدولية يتأرجح بين حاله من الاختلال والتوازن ، حيث مرت العلاقات بينهما في حقب ومراحل تراوحت ما بين التوتر والذي سمي بالحرب الباردة الأولى والتي كانت نهايتها انفراج أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا ثم مرحله الوفاق والانفراج التي أعاد الطرفان فيهما بناء الثقة بينهما من خلال توقيع اتفاقيات تحد من تسلح الطرفين ، وما لبثت ان عادت الحرب الباردة الجديدة الى الظهور لتشتعل حمى التنافس والتسابق في التسلح والاستقطاب .

ما ان أشرقت شمس العقد الأخير من القرن الماضي حتى كانت بوادر الانهيار والمرض تبدو على العملاق السوفيتي الكبير، حيث ظهرت سياسة (البيروسترويكا) التي كانت تهدف الى إجراء إصلاحات جذريه في مسيرة البلاد الداخلية والخارجية ولكن يبدو ان الأمور خرجت عن سيطرة جورباتشوف ، وكانت النزعات الداخلية الداعية الى الاستقلال أقوى بكثير من أدوات  الضبط والسيطرة  التي كانت بيد الرئاسة السوفيتية آنذاك ،وبدأت تظهر في الأفق تحولات جذريه تمهد لانهيار الاتحاد السوفيتي وكانت الظروف الداخلية التي يعيشها العملاق هي بداية الانهيار التي عجلت برحيله وظهور فجر نظام عالمي جديد آحادي القطبية تهيمن عليه قوة واحدة هي الولايات المتحدة الاميركيه.

تربعت الولايات المتحدة الاميركيه على سدة العرش العالمي وهيمنت على مجريات العلاقات الدولية وبدأت تسيرها وتحدد الأدوار فيها وتفرض السياسات التي تتوافق مع مصالحها وذلك لتهيئه البيئة الدولية كلها بشكل يضمن استمرار هيمنتها وسيطرتها على العالم ،لقد كانت بداية العقد الأخير من القرن الماضي (1990) هي نقطه التحول الرئيسية في حياة العالم ، حيث دخلت القوات العراقية الكويت في آب 1990 وقد شكل هذا الحدث الدافع للولايات المتحدة لإظهار هيمنتها وقوتها كزعيمه وسيدة للعالم وظهر ما يعرف بتاريخ العلاقات الدولية بحرب الخليج الثانية التي جمعت فيها الولايات المتحدة كل حلفائها من اجل مساندتها في مهامها وبدأت باستصدار قرارات دوليه وذلك لإضفاء الشرعية على ما تقوم به ،وبدأت الأحداث تتوالى بما يخدم مصالح الولايات المتحدة كقطب أوحد يحكم العالم ، وكذلك بما يخدم حلفائها بالدرجة الثانية ، وقد كانت الأحداث جسيمه لدرجه أنها أثرت على المنطقة برمتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وكان لها انعكاساتها الطويلة الأمد وذلك بسبب الحصار الذي فرض على المنطقة والذي ما زالت عواقبه الوخيمة تعاني منها دول المنطقة الى اليوم ، ان النظام العالمي الجديد أنهى الحرب الباردة ولكنه ساهم في إشعال حروب كثيرة ، وعزز من اشتعالها ما تشهده البشرية من تسارعات هائلة وتطورات متلاحقة في مجالات متعددة وخاصة التكنولوجية والاقتصادية وظهور ما يسمى بحقبه (العولمة)(globalization) والتي هيمن فيها النظام الرأسمالي على اقتصاد العالم وظهر ما يسمى باقتصاد السوق الحرة واشتعال حمى المنافسة التي لا هدف لها سوى تراكم رأس المال والذي لا نتيجة له إلا ازدياد الأغنياء غنا وازدياد الفقراء فقرا ، فازدادت الفجوة بين الشمال والجنوب وبدلا من ان يقل عدد الفقراء والجوعى والمشردين واللاجئين في ظل هذا النظام العالمي الجديد ازدادت أعدادهم بشكل بدأ يؤرق البشرية ويقض مضجعها ، وبلغت الأمور حدا لم يكن يتوقعه احد حيث انبرى المفكرون والباحثون في الغرب ليعلنوا أن هذه هي (نهاية التاريخ ) لان البشرية وصلت إلى أعلى درجات الرقي والتقدم في ظل سيادة النمط الغربي وهيمنه الحضارة الغربية على العالم ؟!!! ،وبدلا من سيادة الوفاق والحوار في العالم ظهرت أصوات أخرى تنادي (بصدام الحضارات)(civilization clash) بدلا من تحاورها وتلاقيها !!!، كل ذلك ساهم في زيادة التوتر واحتقان النفوس فازداد التطرف وظهر إلى السطح وبشكل مرعب مفهوم الإرهاب الذي بدأ يؤرق البشرية ويقلق نومها وتحرق نيرانه كل أركانها دون استثناء ،فاشتعلت  (الحرب على الإرهاب) التي ما زالت مستمرة ولا احد يعلمها عواقبها ونتائجها ، انه اختلال واضح في ميزان العلاقات الدولية لا يستطيع احد انكارة أو تجاهله ولا احد يعلم ما هي عواقبه ونتائجه !!!.