سلسلة المعرفة 30
سلسلة المعرفة
الحلقة الثلاثون
الجزء الأول – الروابط الفاسدة
إن من الواجب على المسلم أو المؤمن العلم بطبيعة الرابطة التي فرضها الله على الناس، والتي يجب أن تربط المسلمين بعضهم ببعض، ويجب أن يقيموا على أساسها علاقاتهم، و يُنشئوا بها بناءهم الإجتماعي . لذا سنبين هنا أنواع الروابط بشكل عام، التي يرتبط بها بني الإنسان عادة، الصالح منها والفاسد، وأثر كل رابطة من هذه الروابط على أصحابها .
على رأس الروابط التي تربط الناس بعضهم ببعض الرابطة المصلحية، حيث تجد الناس بفطرتهم وغريزة البقاء عندهم يجتمعون ويتفرقون بهذه الرابطة، ويتعايشون مع بعضهم البعض من أجلها، وتستقيم علاقاتهم طالما أن كل واحد منهم يقوم بما تتوجبه هذه الرابطة من صدق وأمانة وإعطاء الحقوق، وعدم التعدي على حقوق الآخرين .
لذا فإن هذه الرابطة لشدة حساسيتها في حاجة إلى نظام شامل عادل يُسيّر عملية المصالح بين الناس وتبادلهم إياها من خلالها، ويلزمهم عليها بقوة النظام إلزاماً لتسييرها بحسب هذا النظام، وإلا انقلبت هذه الرابطة إلى شر عظيم بين الناس كما هو حاصل اليوم، فيتسلط ضعاف النفوس والمتسلطين الأقوياء على الضعفاء والمساكين، وعلى التجارة والأموال، وتتسلط العصابات الدولية على مقدرات الشعوب، فجعلوا الفطرة السليمة وغريزة البقاء تنقلب من التراضي معاً من أجل البقاء، إلى صراع من أجل البقاء، على مستوى فردي أو جماعي أو دولي .
قال الله تعالى في سورة آل عمران 14 :
) زُيّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسنُ المآب (
ويعيش الناس في أرض واحدة أي في موطن واحد، بمختلف ألوانهم، بما رسمت لهم غريزة البقاء من نزوع نحو الهدوء والإستقرار والعيش بأمان وسلام، ولكن قد ينغّص عليهم عيشهم تفرّق نفوسهم، وتعاديهم على المصالح، ومشاكل عديدة فكرية أو نظامية، فيتدنى مستوى الحب فالترابط بينهم والإتفاق الآمن على معايشهم، ولكن نجدهم يترابطون فجأة ترابطاً قوياً عندما يتعرضون أو تتعرض أرضهم للإعتداء من خارج موطنهم، فيهبون للدفاع عن الوطن ، وتستمر هذه الرابطة بإستمرار الإعتداء، ولكن عندما يرتفع عنهم هذا الإعتداء تختفي هذه الرابطة ويعودون إلى ظلمات العلاقات فيما بينهم.
هذه الرابطة هي التي تُسمى الرابطة الوطنية، وهي رابطة كما هي موجودة في الإنسان فهي موجودة في الطير والحيوان، وهي ذاتها العلاقة التي يروّج لها حكام البلاد العربية والبلاد الإسلامية، الخاضعون لأمريكا والخاضعون لعرّاب الرأسمالية، شأنهم في ذلك شأن أوليائهم، وهي الرابطة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وهي التي لا يُستطاع الإعتماد عليها في إصلاح شؤون الناس وقضاء حوائجهم ووحدتهم، ووحدة فكرهم، ولا يُستطاع الإعتماد عليها في الحفاظ على حقوقهم وحمايتهم من بأس بعضهم البعض، وما يحتاجه الناس إلى نهضتهم، وهي رابطة لا تعتمد على أي فكر أو نظام راقي، ولا حتى نظام منخفض .
ويعيش الناس في العائلة الواحدة والقبيلة الواحدة والمجتمع الواحد، تربطهم علاقة الإنتماء العرقي التي هي في أصلها رجع غريزي مستند إلى غريزة البقاء، وهي أرقى قليلاً من الرابطة الوطنية، هذه هي الرابطة القومية، وهي علاقة ترابط قد تكون أحياناً قوية وذات بأس، ولكنها كما أنها قوية داخل إطار الإنتماء العائلي أو القبلي، فهي ذات بأس وقوة كذلك على أصحابها، لأنها تصطحب معها كذلك المفاخرات والمنازعات العرقية بينهم، والتطاول في الأنساب والأحساب، وبالتالي التطاول في طلب السلطان والزعامة، وبالتالي تجر إلى منازعات غير محمودة العاقبة .
والرابطة القومية مجردةً، رابطةٌ لا تصلح أبداً لأن تكون خيراً على أهلها، فهي ليست رابطة فكرية، ولا تحمل في طياتها نظاماً ينظم شؤون أصحابها ويكفيهم بأسهم، فهي لا تنظم علاقات الإنسان لا بربه ولا علاقة الإنسان بغيره، ولا علاقته بنفسه، فلا ترسم أخلاقاً ولا تصنع أعرافاً راقية، ولا تنشيء عادات طيبة .
الرابطة القومية رابطة إستغلها السياسيون الكفار وأعوانهم من الحكام لأن يقسموا بلاد المسلمين على أساسها، فأوجدوا في بلدان المسلمين كما فعلوا فيما بينهم، أوجدوا كيانات ودول تقوم على أساس عرقي أو طائفي، وعززوها بمسميات جديدة، وأعلام يقدسها الناس، ويقاتلون بعضهم من ورائها، وقاموا بتأصيل هذه الدعوات بإنشاء الحدود السياسية بين المسلمين، والقتال والفداء دون هذه الحدود القومية الباطلة بالسيف والقلم .
ويعيش المسلمون اليوم وهم يصرخون ويشتكون تراجع القيم في تعاملاتهم، وتراجع البر والإحسان فيما بينهم، وتدهور المستوى الخلقي، وإهمال الحقوق، ويعجبون كيف يتأتّى لهم أن يكونوا جميعاً مسلمين وتربطهم رابطة الإسلام، ولم يؤثر ذلك في انضباط سلوكهم، وفي الوفاء بعهودهم ووعودهم، ولم يؤثر في أداء أماناتهم والحقوق المكلفين بها، هذه الرابطة التي يُتوهّم وجودها، وفي الحقيقة لم تؤثر على أصحابها، ولم تغير فيهم وهم يدينون بدين واحد، وهم يُقرّون بكتاب الله وسنة رسوله محمد r، هي في الحقيقة رابطة روحية، وليست رابطة إسلامية كما يُظن، فهي رابطة شعورية لا أكثر، فكون أننا مسلمون ولكننا لا نتبع ما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله في كافة علاقاتنا الإقتصادية والسياسية وغيرها، تبقى العلاقة شعورية، والإنتماء لدين الإسلام أو دين آخر إنتماء شعورياً، ليس له أثر على حياة الواقع وعلاقات الناس ونهضتهم، فهي إذن علاقة خالية من النظام، وهي لا تنفع أصحابها، بل تشوه علاقاتهم، بل ويستغلها كثير في النصب والإحتيال وتمييع الحقوق وتضييعها، ويستغلها الحكام الكافرون وعلماء السوء لتشويه حقيقة الإسلام بالدعوة لهذه العلاقة الفاسدة، ويستغلونها لتشويه وصرف نظر المسلمين عن صورة الرابطة الصحيحة في الإسلام، ويستغلونها لخداع الناس بها .
هذه هي الروابط الفاسدة، التي على المسلمين أن يعوها، وهي التي عليهم الحذر منها، لأن العدو يتربص بهم من خلالها، وبنى لهم من خلالها قصوراً من الوهم، وها قد رسموا للمسلمين وغيرهم دولاً كرتونية من خلالها، عربية وأعجمية، لأن يقيموا على أساسها علاقاتهم، وهي هي التي أنكرها الإسلام على الناس ومنعهم منها، وحذرهم أشد التحذير من الوقوع فيها، وجعل العقاب عليها وخيماً .
قال الله تعالى في سورة المائدة 104:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ
قال الله تعالى في سورة الحجرات 13:
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
قال رسول الله في حديث جابر بن عبد الله فيما ورد في الحديث عن الدعوة القبلية :
" دعوها فإنها مُنتنة " رواه البخاري في صحيحه