إمَّا العدل وإمّا الموت
إمَّا العدل وإمّا الموت..
أ.د/
جابر قميحةأبو جعفر المنصور (95- 158 هـ) هو الخليفة الثاني في دولة بني العباس. حكم لمدة واحد وعشرين عاما (137 - 158 هـ) كان شجاعا حازما, ولكنه كان جبارا ظالما, فقتل خلقا كثيرا ظلما وعدوانا, ومن ضحاياه الإمام أبو حنيفة الذي سجنه, وقتله بالسم لأنه أفتي بالخروج عليه. ومن عجب أنه استهل حكمه بقتل أبي مسلم الخراساني الذي لولا سيفه ما قامت الدولة العباسية. ومن ظلمه واستهانته بالرعية أنه ألزم الناس بلبس القلانس الطوال علي رءوسهم, والقلانس أغطية للرأس كالطواقي أو الطرابيش المدببة من أعلي. كما يُحسب عليه أنه أوقع بين العباسيين والعلويين, وكانوا قبله قوة واحدة تعيش في تلاق وصفاء.
ومن غدره أنه خلع عمه عيسي بن موسي من ولاية العهد, وكان السفاح - مؤسس الدولة العباسية - عهد إليه من بعد المنصور, فخلعه, وعهد إلي ولده المهدي....
* * * * * * * * *
ولظلمه خرج عليه كثيرون بالسيف,ومنهم من عمل على إثارة الناس وتحريضهم علي الخروج عليه, ويشد النظر من هؤلاء جميعا «بشير الرحَّال», وكان واحدا من كبار وجوه البصرة المعتزلة الذين عُرفوا بالعبادة والزهد, وإنما لُقب بالرحّال لأنه كان له سنة رحلة إلي الحج, وسنة رحلة إلي الجهاد في سبيل الله. ولما رأي من ظلم المنصور في الناس ما رأي أعطي لله عهدًا ألا يختلف في أمر المنصور سيفان إلا كان مع الذي عليه منهما.
وعاش آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر, شديدا في جنب الله, لا يخشي في الحق لومة لائم, وكان يوجه كلمات كالسهام إلي المهادنين للظالم, النائمين الراضين المستسلمين لسطوته, وخصوصا أعيان الناس و كبارهم. ويروي أنه في المسجد أشار إلي هؤلاء وقال:".... والله لولا هؤلاء ما نفذت لله معصية.. وأقسم بالله لئن بقيتُ, لأجهدن في ذلك جهدي, أو يريحني من هذه الوجوه المشوهة المستنكرة في الإسلام".
ووقف يعرًّض بأبي جعفر المنصور, ويخطب في الناس بصوت قارع "... أيها القائل بالأمس: إن وُلينا عدلنا, وفعلنا, وصنعنا, فقد وُليت, فأي عدل أظهرت? وأي جور أزلت? وأي مظلوم أنصفت? آه, ما أشبه الليلة بالبارحة. إن في صدري نارا لا يطفيها إلا برد عدل, أو حر سنان".
ورأي ذات يوم بعض رجال السلطة يتجسسون علي الناس, وقد تقنعوا, ولكن «بشير الرحال» كشفهم, وقال : «.. ويتقنعون, وينظرون من بعيد, أفلا يتقنعون لله عز وجل في الحديد? - أي ياليتهم لبسوا عدة الحرب, ومنها أقنعة الحديد, للجهاد في سبيل الله. "
وكان الناس يخافون الاقتراب منه اتقاء لعسكر المنصور. وقُبض عليه, ووقف أمام المنصور, فقال لبشير: أأنت القائل: إن في صدري نارا لا يطفيها إلا برد عدل, أو حرّ سنان? قال: أنا ذاك. فقال المنصور: والله لأذيقنك حد سنان يشيب رأسك. قال بشير: ولكني لا أعينك علي معاصي الله...». قال الراوي: فمدّوا يده فقُطعت, ثم مدوا الأخري فقُطعت, فما قطَّب, ولا عبس, ولا تململ.
وفي الموقف نفسه كان «مطر الوراق», وهو صنو بشير الرحال في الخروج علي المنصور. خاطبه المنصور قائلا: يا مطر, نسيت الحرمة, وطول الصحبة? قال: نسيناها بنسيانك كتاب الله, وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم, وتضييعك أمور المسلمين. قال المنصور: فتخرج عليّ مع من لم تأنس منه رشدًا? فهذا خلاف مذهبك. قال: لو خرج- اىتمرد- عليك الذرّ - وهم أضعف الخلق - لخرجتُ معهم, حتي أؤدي ما افترض الله عليّ فيك.
قال المنصور: يا ابن حسنة الزانية, قال مطر: إنك تعلم أنها خير من سلامة- وهى ام المنصور - ولولا أنه قبيح بذي الشيب السّفه لأعلمتك ما تكره, ولا تطيق رده, قال المنصور: خذوه. قال مطر: إن بعد موقفك هذا موقفا, وإن بعد أخذتك هذه أخذة. فانظر لمن تكون العاقبة».. قال الراوي: فجزع المنصور من قوله جزعا شديدا ظهر فيه. ثم قتله.
* * * * * * * * ** * * * *
ومات المنصور, وعلي يديه استشهد بشير الرحال, ومطر الوراق, وجاءت بعد العصر العباسي عصور, ودُفن الحاكم المتجبر الظالم تحت ركام من لعنات التاريخ. وبقيت كلمات الشهيدين منارة للأجيال علي هديها يمضي الأطهار الأحرار, والدعاة الشامخون الأعزة الأباة:
- إن في الصدر نارا لا يطفيها إلا برد عدل أو حرّ سنانن.
- لا ولاء لحاكم أغفل الكتاب والسنة, وضيع أمور المسلمين.
- أيها الظالم إن بعد موقفك هذا موقفا بين يدي الله.
- أيها الظالم تذكّر أن العاقبة ليست لك, ولكنها للمتقين.
وكلها كلمات من دستور أهم آلياته الخالدة : الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وهما - كما قال حجة الإسلام الغزالي «القطب الأعظم في الدين, وهو المهمّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين. ولو طُوي بساطه, وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة, واضمحلت الديانة, وعمّت الفترة (الضعف), وفشت الضلالة, وشاعت الجهالة, واستشري الفساد, واتسع الخرق, وخربت البلاد, وهلك العباد, ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد».
ويقول شهيد الإسلام عبدالقادر عودة " ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حقا للأفراد يأتونه إن شاءوا, ويتركونه إن شاءوا وليس مندوبا إليه يحسن بالأفراد إتيانه, وعدم تركه, وإنما هو واجب علي الأفراد, ليس لهم أن يتخلوا عن أدائه, وفرض لا محيص لهم من القيام بأعبائه".