صيد الخاطر

حارثة مجاهد ديرانية

صيد الخاطر

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

ليس هذا المقال عن كتاب ابن الجوزي في الواقع، وإن كنت معجباً بالكتاب وعنوانه جداً، وإنما عن معنى هذه الجملة؛ إذ ليس معظمُ الإبداع شحذَ ذهن يجوع إلى الابتكار، بقدر ما هو "صيد الخاطر المناسب" حينما يمر على الذهن، مثل صياد يتجول بشبكته وهو يلتفت يميناً وشمالاً والحشرات تعج من حوله بالمئات حتى "يصيد" مبتغاه.

والذي يحصل في واقع الذهن البشري أن تتابع الأفكار يتناسب عكسياً مع تركيز الذهن، ومن أجل ذلك كانت لحظات التركيز والنشاط في النهار أوقاتاً مقفرة يكاد الذهن يخلو فيها من أية أفكار سوى تلك التي هي شأن صاحبها وعمله، ولأجله كان أحسن أوقات صيد الأفكار لحظاتِ الاسترخاء الشديد، مثل الاسترخاء الذي يسبق النوم. فحينئذ يكون تتابع الأفكار على الذهن غزيراً إلى حد مدهش، ولكنه تتابع عشوائي لم ينظمه تركيز ولا قصد. وكثيراً ما تمر فكرة إبداعية جميلة بسرعة خاطفة، إلى درجة أنها قد لا تحتمل إلا أجزاء من الثانية، فإذا لم "يصد" صاحبنا المفكر هذه الفكرة قبل أن تطير من ذهنه فإنها ستتلاشى تماماً، اللهم إلا إذا "أمسك" بها قبل أن تطير وركز عليها وكبرها، ثم قام ودوّنها على ورقة.

أحسب أنك قد بصرت بالسبب وبات واضحاً جلياً بالنسبة إليك الآن، السبب الذي يدفع كثيراً من الكتاب والمفكرين إلى أن يحتفظوا بقلم وورقة بجانب السرير، لأنه وقت الاسترخاء المثالي الذي يتسارع فيه استطراد الأفكار. وقد يشتكي بعض أولئك المفكرين من أنهم يستيقظون في اليوم التالي فلا يفهمون -مما قطعوا نومهم لأجل أن يدونوه- شيئاً!

لكن مجرد الاستلقاء وترك الأفكار تأتي من تلقاء نفسها حتى نصيدها ليس إلا الخطوة الأخيرة في عملية "صيد الأفكار"؛ إذ أن هذه الأفكار التي يولدها العقل الباطن (الذي ينشط هو حينما يكون عقلنا الواعي مسترخياً) لا بد أن يكون الذهن قد شُحذ بمواردها في أثناء اليقظة. ولذلك لم يكن السخفاءُ من الناس فارغو الفؤاد أبداً مفكرين، لأن المفكر شخص قد ملأ ذهنه بالمعلومات من قبل، وهي المواد الأولية التي تتفاعل كي تنتج أفكاراً مثمرة.

وكثير منا تمر بباله أفكار مثمرة فنتركها تطير دون أن نستفيد منها، ولعلها كانت ذات نفع لنا وللناس لو أننا لم ندعها تذهب وركزنا عليها، ومقالي هذا دعوة للاستفادة من قدرة العقل الباطن الجبارة بأمرين:

أولهما أن نعوّد أنفسنا "صيد" الأفكار النافعة حينما تمر بأذهاننا، وهو ليس أمراً بالسهولة التي قد تتصورها، إذ يشبه الأصل الوليد لفكرة (ينبغي أن تنمو وتنضج فيما بعد) بذرة تنبت شجرة كبيرة نافعة، ولن تعي، حينما تمر ببالك البذرة الوليدة للشجرة، إنك لن تعي أن هذه البذرة الحقيرة[1] ستنبت شجرة نافعة مثمرة ما لم تكن ذا بعد نظر وما لم تكن معوداً نفسك ألا تترك هذه البذور تفلت من بين يديك.

وأما الثاني فهو أن الأفكار التي تتفاعل في العقل الباطن لا تأتي من هواء، و"كما تزرع تحصد". ولذلك أقول إن الأفكار التي ندخلها نحن إلى عقولنا هي التي تحدد النتائج التي سوف نحصل عليها. فالذي لا يفكر إلا في السيارات والسيارات حياته لا يتوقعن أن تخطر بباله -ذات يوم- خواطر علمية أو اقتصادية نافعة. ونحن نقول بالعامية "هذا شخص مليان"، نعني بذلك أنه ملأ رأسه بالمفيد من المعرفة والحكمة، فلنسعَ إذن لنكون أناساً "مليانين"!

إن مقالي هذا لا يخص الكتاب والمفكرين وحدهم كما قد يحسب البعض؛ فكل إنسان مفكر، والمؤمنون الحقيقيون هم الذين "يتفكرون"، وبينما كنت قد تحدثت في مقال آخر عن إعمال "العقل الواعي" في كون الله البديع، فإنني تحدثت هنا عن كيفية استثمار قدرات "العقل الباطن" التي قل منّا مَن استفاد منها حق الفائدة.

               

[1] الحقير في اللغة أصلاً هو صغير الشأن ولا يأخذ الأبعاد التي يوحيها اللفظ حينما نستعمله في لغتنا العامية.