حضارة الرجل الأبيض
جميل السلحوت
علينا الاقرار أوّلا بأنّ الثورة العلمية وما أنتجته من تكنولوجيا وصناعات وتطوّر هائل هو في غالبيته من انتاج عقول تنتمي الى الجنس البشري الأبيض، في أوروبا والولايات المتحدّة الأمريكية، وومع ذلك فإن أسلحة الدّمار الشامل التي حصدت أرواح مئات ملايين البشر هي نتاج لعقلية الرجل الأبيض، تماما مثلما هي العقلية العنصرية والاستعمارية هي نتاج "حضارة الرجل الأبيض" أيضا والذي يتكلم دائما عن حقوق الانسان.
والرّجل الأبيض الذي استغل تقدّمه العلمي والتكنولوجي لم يرحم الشعوب الفقيرة التي لم تنل حظوظها من التعليم وبقيت "تنعم" ببحور الجهل والتخلف.
ونحن هنا لا نتكلّم من منطلقات عنصرية، فهذا ليس من أخلاقنا ولا من تربيتنا أو ثقافتنا، وإنما نستعيد تاريخا ظلاميا كنّا ولا نزال ضحايا له. وما يلفت الانتباه في هذا المجال هو دعوات مشايخنا في خطب صلوات الجمعة والأعياد في مساجدنا، والتي تدعو الله أن يأخذ "الكفار" والمقصود هنا "أتباع الديانتين السماويتين السابقتين للاسلام" أخْذَ عزيز مقتدر، وأن يبيدهم عن بكرة أبيهم لأنهم يناصبون المسلمين العداء، ومع أنّه لا إكراه في الدّين، إلا أن "داعش" أعطت مهلة ثلاثة أيّام لمسيحيي المناطق التي سيطروا عليها لاعلان اسلامهم، أو الرّحيل عن ديارهم، وإلا فإن السيف على رقابهم. لكن "المتأسلمين الجدد" لم ينتبهوا أنّهم ينفذّون أجندة دول أجنبية تدين غالبية شعوبها بالمسيحية، وهي التي تموّلهم وتدرّبهم وتزوّدهم بالمال والسّلاح عن طريق وكلائها في المنطقة.
ورغم تذيّل الاسلام السياسي للعالم الغربي رغم استهدافه المنطقة العربية عبر تاريخه، إلّا أنّه لا الأنظمة العربية، ولا التنظيمات والأحزاب السياسية الاسلامية تعلمت من تاريخ علاقاتها مع الدول الامبريالية، ولم يغيّر الطرفان سياساتهما في العلاقات غير المتكافئة التي تربطهما، لكن "الاسلاميين" الذين لا يفهمون التاريخ إلّا من المنظار الديني، لم ينتبهوا لمصالحهم مع شعوب الشرق والذين يشكلون حوالي نصف سكان الأرض، مع أنهم شعوب لا تدين في غالبيتها بديانات سماوية، ولا تعادي الاسلام والمسلمين. ولا أطماع لدولهم في المنطقة العربية.
فهل استطاعت الدّول الامبريالية التي تبحث دائما عن مصالحها الاقتصادية اقناع العرب والمسلمين بأنّ الصراع العالمي هو صراع ديانات لا صراع مصالح؟ أم أنّ العرب والمسلمين لا يفهمون الصّراع إلا من منطلقات دينيّة بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، وأنّ صموئيل هنينجتون عندما كتب كتابه "صراع الحضارات" في بداية تسعينات القرن الماضي هدف منه تنمية هذا الفهم؟
واذا عدنا الى التاريخ فإن حروب الفرنجة- كما سمّاها المؤرخون العرب- في حين سمّاها المؤرّخون الأوروبيون "الحروب الصليبية" التي استهدفت المشرق العربي في القرن الحادي عشر الميلادي، وأمعن فيها الغزاة قتلا بالمناطق التي اجتاحوها، بحيث أنهم قتلوا جميع سكان القدس وعددهم سبعون ألفا وهم يحتمون بالمسجد الأقصى.
وبعد اكتشاف القارة الأمريكية في العام 1492 وما تبع ذلك من هجرات أوروبية اليها أمعنوا في قتل مواطنيها الأصليين في حرب إبادة، وقتلوا منهم سبعين مليون نسمة، ومن نجوا منهم فانهم اختبأوا في الغابات بعيدا عن عيون الغزاة القتلة. ويقدّر عددهم الآن بسبعة ملايين شخص. ثم قام غزاة أمريكا بغزو السواحل الغربية لافريقيا وقتلوا واستجلبوا ملايين الأفارقة بقوّة السلاح واستعبدوهم كرقيق للأرض الزراعية الخصبة.
ثمّ واصلت "حضارة الرّجل الأبيض" الأوروبية تمديد نفوذها واستعمرت افريقيا كاملة وغالبية المناطق في قارة آسيا، ونهبت ولا تزال خيرات هذه الشعوب، وقامت بتقسيم هاتين القارتين الى دويلات متناحرة، لترسيخ استعمارها لها بأشكال مختلفة.
وفي القرن العشرين عملت بريطانيا على تنشجيع الهجرات اليهودية الى فلسطين والتي تتوجت في العام 1948 باقامة دولة اسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني، وفي أواخر ثلاثينات القرن الماضي اشتد الصراع بين الدول الأوروبية وقامت الحرب العالمية الثانية التي دمّرت أوروبا نفسها، وحصدت أرواح حوالي سبعين مليون شخص.
ولا تزال أوروبا وأمريكا حتى أيّامنا هذه ورغم تغنيها بالسلم العالمي، وحقوق الانسان هي المسؤولة عن غالبية الصراعات والحروب الدّامية في مختلف دول العالم، وإن كان تركيزها على المنطقة العربية، وذلك لتأمين مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
فهل ينتبه "العربان والمتأسلمون" الى مصالحهم؟ وهل هم قادرون على تغيير تحالفاتهم من الغرب الى الشرق؟ أم أنّ الضّحيّة تقدّس جلادها؟