المرأة.. وخطاب بلا انتماء
ابتهال قدور
مشكلة "اللاانتماء"، تباعد بيننا وبين رؤيتنا السليمة للأمور، وبما أن كل تخطيط ينبثق أساساً من رؤية واضحة، فلا غرابة في كوننا مازلنا نتخبط في قضية المرأة...
وقضية المرأة، ما كانت لتشكل معضلة لو أننا أعلنا بجرأة ووضوح، انتماءنا إلى فلسفة لها قواعد وأصول إنسانية راسخة وثابتة...فلسفة ساوت من الأساس بين الذكر والأنثى في إنسانيتهما، وفي قيمتهما، وفي أهميتهما لبناء الأرض وإعمارها...جنبا إلى جنب!
ثم تجاوزت هذه الفلسفة الراقية مرحلة "تحديد القيمة"، لكلا الجنسين، ولم تقف عندها كثيراً، و تعاملت معها على أنها "بديهية"، أو هكذا يراد لها أن تكون..!
وانتقلت إلى مرحلة أكثر أهمية، وأكثر دقة، ألا وهي مرحلة تبيان الإرشادات العامة التي تحكم عملية التقاء الذكر والأنثى في شتى المجالات، وبما أن المجالات واسعة أمامهما لإتمام عملية إعمار هذا الكون، اعتماداً على الآية الكريمة : "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، كان لابد من بناء مظلة أخلاقية ترشدهما، وتحكمهما، لكي لا تكون الحاجات الغرائزية هي المرشد والحكم ...ثم تم تبيان الحقوق والواجبات بينهما بشكل واقعي ومدهش، يتناسب مع تركيبة كل منهما...
وبالرجوع إلى تاريخ بني البشر، نجد أن المرأة ما كانت يوماً في تراثنا مشكلة ولا معضلة، ولا كانت لها قضايا عامة تُضَخم بشكل منعزل عن قضايا المجتمع ككل، فهي وحدة أساسية فيه، تسير بتناغم جميل مع باقي وحداته وتندمج معها وتؤثر فيها، وتتأثر بها...
وفي الوقت الذي كانت المرأة فيه،في مجتمع الإسلام، تتمتع بأنبل الحقوق الإنسانية بشكل تلقائي وعفوي، في الوقت الذي كانت فيه تصنع الرجال، وتؤثر في مجريات الأحداث، وتجيز الفقهاء والعلماء، وتحاور الخلفاء والملوك والأمراء، كانت المرأة في الغرب قابعة تنتظر نتائج جدليات الذكر في شأنها، هل هي إنسانة أم حيوانه أم بين هذا وذاك..
هل هي روح خبيثة، هل هي خادمة، أم أنها خلقت لتلبية شهوات الذكر، هل هي شيء ككل الأشياء التي تورث؟ هل يحق لها أن تمتلك مالاً ومتاعاً، أم أنها قاصرة لابد من لها من وصي..!!؟
مؤخراً فقط، توصلت النقاشات بشأنها إلى أنها تساوي الرجل في الإنسانية، ولكنها لعدم امتلاكها بوصلة واضحة كالتي تمتلكها المرأة المسلمة، تاهت في معمعة
المساواة، وتخبطت حتى ظلمت نفسها وظلمت أبناءها وظلمت مجتمعها...فهي حديثة عهد بمثل هذه القضايا ، وستوصلها التجارب بلا شك، إلى ما عشناه واستوعبناه نحن منذ قرون..ولكن أي ثمن فاحش ستدفعه لكي تصل إلى ذلك؟!
فنحن إذاً أصحاب فلسفة أنثوية راقية، وأصحاب تجربة أثبتت نجاحها، حين كان الانتماء إلى تلك الفلسفة واضحاً ومحدداً، وتلك النجاحات جعلت منا أصحاب سبق في قضايا المرأة، مرحلياً ونوعياً، نظرياً وتطبيقياً، استمر هذا الحال إلى أن تهالكت مجتمعاتنا فتهالك معها وضع المرأة!
والمثير في ما يحدث لنا منذ عقود، هو أننا نجد أنفسنا تحت ضغوط، ماذا تريد منا هذه الضغوط؟
تريد منا تجاهل تلك الفلسفة الراقية، وتجاهل تطبيقاتها المشرفة على مدى قرون، بل إنكار حدوثها، وإنكار أن المرأة عندنا ازدهر حالها وقت ازدهار مجتمعها بشكل لم يحدث في أية حضارة أخرى.
يضغطون علينا لكي نواكب حراكهم، ومواكبة حراكهم يعني أن نعود إلى الوراء السحيق...، نخوض جدليات للإجابة عن سؤال: هل المرأة والرجل متساويان في النوع؟ ثم ننطلق من أرضيات خاطئة، ونذوق وبال التجارب المريرة، هذا إذا ما أردنا - من وجهة نظرهم- أن نكون منصفين عادلين في قضية المرأة!!
فهل يعقل أن يعود المتقدم إلى المتخلف، لكي ينطلق معه من جديد؟!
بأي منطق إذاً يُطلب منا ذلك؟!
وهناك من سيداتنا من اقتنعت بجدوى العودة إلى الوراء، فقادت الحملات لذلك، حملات غُلّفت بالشعارات الجميلة الناعمة التي تزرع الوهم، وتدعي أنها تحصد نتائج على الأرض، ولكن وعلى الرغم مما يقال من جني المكاسب فإن الإحصاءات تشي بالحقائق المحزنة والمؤلمة، مما يشير إلى فشل كل تلك الحملات، فلا شيء يدل على حدوث نتائج إيجابية على الأرض، على الرغم من كل ما يقال أمام الكاميرات ومن فوق المنصات...
تم إيهامنا أن حصول المرأة على مقعد في البرلمان، أو كرسي في وزارة، سيرتقي بالمرأة ويحل مشكلاتها المتفاقمة، وتُصَنف الآن هذه الإنجازات مع النجاحات والمكاسب التي حصلت عليها المرأة بفعل تلك الحملات!
ولو أننا اتفقنا على تصنيف هذا الأمر مع المكاسب، فكيف سنتفق على أن هذا المكسب الضئيل في أهميته، وأثره قد حسن من أوضاع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية؟! أو أنه قد ردَّ عنها بعض الظلم والضيم الذي تتكبده؟!
تلك الحملات الداعية إلى تحرر أنثوي استطاعت أن تخلق طبقة سيدات مخملية تتحدث عن مكاسب، ولكنها لم تستطع أن تحد من الفقر وآثاره على المرأة، ولا أن تقلص من حجم الأمية، ولا أن تغرس الوعي اللازم للنهوض، كما أنها لم تنقذ المرأة من مظالم الذكر عموماً والزوج خصوصاً، ولم تحمها من العنف بأشكاله، ولم تقلص نسب الطلاق، ولا مشاكل العنوسة المتفاقمة في صفوف الرجال والنساء معاً، بل على العكس من ذلك رحنا نشهد مشاكل من نوع جديد مضافة إلى النوع القديم، كمشكلة الاستيلاء على مرتب الزوجة، ومشكلة هرب الأزواج، وظهور المرأة كمعيل وحيد للأسرة، وازدياد أعداد المتاجرات بأجسادهن، وتخلي الجد أو العم عن مسؤولياته التي كان يتحملها في السابق، وإلقاء الحمل المادي كاملاً على الأم الأرملة أو المطلقة أو المهجورة.
ومن ناحية أخرى لم تعبأ تلك الحملات بحماية المرأة وأطفالها في أماكن الحروب، وما يحدث للمرأة في فلسطين المحتلة، من ظلم وقهر وفقر وتجويع وتشريد وعجز عن تلقي العلاج المناسب، أو الحصول على الدواء المناسب، دليل صارخ على ذلك، وأيضاً ما يحدث لها في العراق، وفي الصومال، وفي أفغانستان،كل هذا دليل على لامبالاة تلك الحملات، بالقضايا الفعلية التي تؤذي ملايين النساء في عالمنا العربي والإسلامي، وتدمر منظوماتهن النفسية والجسدية والعقلية...
فعن أي مكاسب يتحدثون؟؟ وما فائدة أن تصبح المرأة نائبةً أو وزيرةً أو تعتلي أرقى المراكز، إذا كان ذلك لا يؤثر على الوضع العام للشريحة الكاسحة من نساء المجتمع؟؟!
انفصام غريب بين الخطاب والإنجاز!
لعل من أبرز أسبابه هو أن الخطاب غير واضح الانتماء، فلا هو خطاب إسلامي، يعالج قضايا المرأة من زاوية إسلامية سليمة، ولا هو خطاب عربي القيم، يعالج القضايا من زاوية المصلحة العربية، ولا هو غربي بالكامل، إنه عملية تلقف أشياء من هنا وأشياء من هناك، الأمر الذي جعل منه خطاباً مجتزءاً، قاصراً، هجيناً غير قادر على رسم رؤية سليمة متناسبة مع طبيعة المجتمعات وثقافاتها وقيمها...
ومن الأسباب أيضاً، أن المشروع الذي يطرحه الخطاب في هذه الحملات هو مشروع يركز على قضايا سطحية، لا تشكل الأذى الأعظم للمرأة، قضايا فئة مرفهة منعمة من النساء، كالأكثر تعلماً والأكثر غنىً والأكثر شهرة..
سيدات المجتمع الراقي يعشن في مؤتمراتهن عالماً، بينما تعيش المرأة عالماً آخر، يتحدثن عن مطالب قيادية، وطموحات سياسية، ويقمن الدنيا، ويعبئن المجتمعات الدولية لنيلها، لكن المرأة في القاعدة تظل بلا مكاسب، ولا تحسينات...
خطاب بلا انتماء، متخبط ، غير مدرك لأسباب الظلم الحقيقية الواقعة على المرأة، لم و لن يؤد إلاّ إلى تفاقم الوضع...لم ولن يؤد إلاّ إلى الاهتمام بالقشور، وبمعالجة النتائج.
بينما علاج الأسباب يحتاج إلى الانطلاق من أرضية فلسفية واضحة، لكي نتمكن من تحديد مساراتنا، ثم حصر أسباب التردي الفعلية، ومصادرها، وضع اليد عليها، وبذل الجهود القصوى في علاجها علاجاً ثقافياً شاملاً..
في يوم المرأة، أبث أحزاني لطاقات نسوية تفانت في محاربة أمور ثانوية كالحجاب، وتعدد الزوجات، وحيثيات القوامة...وعوضاً عن محاربة الظلم، وعوضاً عن البحث في وسائل فعالة لإصلاح الممارسات الخاطئة التي تتسبب فعلياً في إيقاع الظلم على المرأة، وعوضاً عن البدء بالأهم، فالمهم، فالأقل أهمية... عوضاً عن كل ذلك، راحت تحارب تراثاً إنسانياً، يحوي حلولاً للكثير من مشاكلنا الاجتماعية - إذا ما استخدم في إطاره السليم المتعافي- فأفسدت بوصلتها، وضَيّعت الاتجاهات، وراحت تسبح في فضاءات أمم أخرى، بينما النجوم والكواكب والشمس والقمر في فضائها...
*كاتبة سوريه مقيمة في الكويت