شروط التوثيق
شروط التوثيق
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
ذكر الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في الإحياء أنه :(إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر (السكن)، وأصحابه في السفر، ومعاملوه في الأسواق ، فلا تشكوا في صلاحه)(1).
تختلف موازين توثيق الرجال من شخص إلى آخر ، حسب الخلفية التي يرتكز عليها ، فيستعمل المعايير التي تتناسب وهذه الخلفية، فهناك من يستعمل المال كمعيار ، وهناك من يستعمل الجاه والنسب، وهناك من يستعمل العلم والمعرفة ، وهناك من يستعمل العمل والسلوك ، وهناك من يستعمل المظاهر والشكل ، وهناك من يستعمل القدرة على الخطابة وتزويق الكلام وتدبيجه وهكذا ، وكل هذه المعايير إما منقوصة أو مغلوطة أو مغشوشة، وقد استعمل البعض أحد هذه المعايير المنقوصة في عهد عمر رضي الله عنه ، فردّه الفاروق إلى المعايير الحقيقية والمتكاملة في التوثيق، فقد شهد عند عمر شاهد ، فقال له : ائتني بمن يعرفك ، فاتاه برجل فأثنى عليه خيرا ، فقال له عمر : أنت جاره الأدنى (الأقرب)الذي يعرف مدخله ومخرجه ؟
قال الرجل: لا، فقال له عمر: كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟
قال الرجل : لا ، قال له عمر : فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل؟
قال: لا، فقال عمر : أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن ، يخفض رأسه طورا ويرفعه أخرى ؟
قال الرجل : نعم ، فقال عمر : اذهب فلست تعرفه ، وقال للرجل الشاهد : اذهب فأتني بمن يعرفك)(2).
إن قضية معايير التوثيق وشروطه تعتبر قضية مهمة ، حدثت بجهلها فتن عمياء ، كان يمكن أن نكون بمنأى عنها لو عرفناها وعلمناها وخبرناها وطبقناها بعيدا عن المجاملات والمعاملات البروتوكولية .
وقد ذكر حجة الإسلام الغزالي ثلاثة معايير رئيسية ، وشروط أساسية لتوثيق الرجال ، وجزم أن من استكملها فقد استكمل الصلاح وهي:
ــ أولها: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر :
والجيرة الصالحة من الأخلاق الأصيلة ، ومن أخص ميزات الرجال التي يفضلون بها غيرهم ، فما أكثر من تراهم تحسبهم قد بلغوا الذروة ، فلما تختبرهم في هذا الجانب تجدهم أصفارا ، لذلك كان لحسن الجوار قيمة كبرى عند السلف وكان من المعايير ذات الأولوية التي يوزن بها الرجل عندهم ، فقد روي أن محمد بن الجهم كان جارًا لسعيد بن العاص عاش سنوات ينعم بجواره فلما عرض محمد بن الجهم داره للبيع بخمسين ألف درهم ، وحضر الشهود ليشهدوا ، قال : بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص ؟ قالوا : إن الجوار لا يباع ، وما جئنا إلا لنشتري الدار .
فقال : وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك ، وإن سكتَّ عنه بادرك بالسؤال ، وإن أسأت إليه أحسن إليك ، وإن هجته عطف عليك ؟ فبلغ ذلك الكلام جاره سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال له : أمسك عليك دارك.
والعكس كذلك ، إذ كان سوء الجوار سببا في رخص الديار حيث قال شاعرهم:
يلومنني أن بعت بالرخص منزلي ولم يعرفوا جارا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنــه بجيرانها تغلو الديار وترخص
ــ ثانيها: إذا أثنى عليه أصحابه في السفر :
والسفر محطة مهمة من المحطات التي يوزن بها الرجال ، فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال كما قيل ، وكم من رجل يعجبك في مظهره ومعاملته وسلوكه ، حتى تعتقد ويصور إليك أنه من أهل القمم ، بل تعرفه وتعاشره سنين ، وأنت تثني عليه خيرا وتمدح أخلاقه ، وماإن تسافر معه حتى يسقط من عينك ، وتفاجأ بحاله وتعرف حقيقته ، وتدرك أن السفر فعلا يعرّي المرء من كل الأقنعة التي كانت عليه، وتتأكد أن السفر ميزان الأخلاق ، وأنه سمي كذلك :( لأنه يُسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافيا منها)(3).
وقد أوصى الشاعر الحكيم :
إذا أنت صاحبت الرجال فكن
فتى كأنك مملوك لكل رفيـق
وكن مثل طعم الماء عذب وبارد على الكبد الحري لكل صديق
لذلك كان السلف
ــ
رحمهم الله
ــ
يعلمون حق رفيق السفر، فيحسنون صحبته،
ويواسونه بما تيسّر لديهم من طعام وشراب، وكان كل واحد منهم يريد أن يخدم أخاه
ويقوم بأعماله، لا يمنعه من ذلك نسبٌ ولا شرفٌ ولا مكانة عالية.
قال أنس رضي الله عنه
:(
خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني وكان جرير أكبر من أنس
)(البخاري ومسلم).
وقال مجاهد :(صحبت ابن عمر لأخدمه فكان يخدمني )(ابن أبي عاصم وابن عساكر).
وقد قدم أحد السلف لك دليل المسافر ، وسماه مروءة السفر، فقال ربيعة رحمه الله:( المروءة في السفر بذل الزاد ، وقلّة الخلاف على الأصحاب ، والمزاح في غير مساخط الله عزّ وجل).
ــ ثالثها : إذا أثنى عليه معاملوه في الأسواق:
فالورع في المعاملات المالية ، صفة أساسية وشرط ضروري من شروط التوثيق ، فكثيرا ماتغرنا مظاهر أناس وكلامهم ، فإذا عاملناهم بالدرهم والدينار ، ودخلوا السوق تجارا وبائعين ومشترين ومتعاملين ، ذهبت تلك الصورة التي كنا قد رسمناها لهم ، ووجدناهم ذئابا ضارية ، همهم الربح لاغير، على حساب دينهم وأخلاقهم ومبادئهم ، يمارسون الميكيافلية بأبشع صورها ، غاياتهم تبرر وسائلهم ، وإذا لمتهم أو نصحتهم أو نبهتهم ، برّروا منطقهم ومسلكهم هذا بمبررات واهية ، ماأنزل الله بها من سلطان ، ورحم الله الفاروق رضي الله عنه الذي كان قد سنّ قانونا في عهده أنه : (لايبيع في أسواقنا إلا فقيه)، أي يعرف أحكام البيع والشراء ، ويزن كل معاملاته المالية بميزان الشرع ، ويتقي ربه ويخشاه ، ويستحضر رقابته سبحانه عند كل تصرف .
فهذه ثلاثية الشروط لتوثيق الرجال ، والشهادة لهم أو عليهم من خلالها ، لابد أن تتوفر مجتمعة حتى تكتمل الصورة ، ويحكم بصلاح الرجل وأمانته وعفته
1) ــ إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص 151.
2) ــ إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص 151.
3) ــ لسان العرب 4/368.