الإيحاء
من السحر الى التنويم المغناطيسي
الى البرمجة اللغوية العصبية
سامي احمد الموصلي
حينما يقول العلماء ان الإيحاء قوة نفسية تولد طاقة فيزيائية تؤثر في الإنسان، فإن هذا القول يسلم بداهة بأن الإيحاء إنما هو سحر، لأن السحرتأثير نفسي قبل كل شيء ينعكس على الإنسان في جسده وفي غيره،واذا كنا نقول ان السحر لاحقيقة له فإننا لن نزيد على القول ان السحر هو ايحاء لأن الإيحاء يحدث تأثيره حتى وان كان نابعا عن وهم ، وهو بهذا يتفق مع السحر ، واذا كان تفسير تأثير السحر عبر مفاهيم التخيل الوهمي –يخيل اليه من سحرهم انها تسعى-وسحروا أعين الناس وجاؤوا بسحر عظيم-، فإن هذا هو المضمون الحقيقي للايحاء حينما يمارس عبر التنويم المغناطيسي فما الذي يختلف فيه السحر عن الإيحاء؟
إن جوهر عمل السحر هو إيحاء على الآخرين في حين قد يكون الإيحاء على الإنسان نفسه، فالساحر يصب عمله على الآخرين لا على نفسه فهو يعرف الخط الفاصل بين الوهم والحقيقة، ولهذا يبقى هو واعيا بنفسه مدركا لحقيقته –وهذا ما جعل سحرة فرعون يؤمنون لموسى لأنهم رأوا عمله على حقيقته الاعجازية ولو كان سحرا من سحرهم لقالوا كما قال فرعون لهم -انه لكبيركم الذي علمكم السحر – ولكن في حالة الإيحاء فان الإنسان حينما يوحي لنفسه بإيحاءات ايجابية معينة ويزرع لاشعوره –كما يقول علماء النفس-بمفاهيم وافكار ومعتقدات وانفعالات تزرع الصحة وتطرد المرض والوساوس، فانه هنا يتصرف لا كساحر وانما كطبيب يداوي نفسه ويشفي مرضه، فالساحر اذن لايسحر نفسه ولكن الإيحاء يوحي للانسان ذاته ويؤثر فيها.
اذن فالسحر والإيحاء هما حالة واحدة حينما يصبان التأثير على الآخرين وهما حالتان مختلفتان حينما يصب تأثير احدهما على ذات الموحي نفسه ويبقى الآخر في حدود تأثيره على الآخر.
فإذا ما جئنا الى التنويم المغناطيسي نراه يفصل بين التنويم الذاتي والتنويم الغيري، فالتنويم الذاتي يستخدم ايحاءات ذاتية في حين التنويم الغيري يستخدم إيحاءات للتأثير على الآخر –المنوم-ولا يغيب مفهوم السحر هنا ايضا ولكن بمفهوم ضيق جدا من حيث التشابه في الإيحاء المنصب على الآخر لا على الذات،
أما اذا جئنا الى البرمجة اللغوية العصبية –وهي احدث التوظيفات لهذه المفاهيم-فاننا نجده يكون ايحاءا ذاتيا وبرمجة ذاتية، أي انه ايحاء ذاتي وبرمجة ذاتية لا تتعلق بالآخر.
وبغض النظر عن الاختلافات البسيطة بين كل هذه الآليات الا ان الإيحاء يتصرف هنا كقوة نفسية ذات تأثير فيزيائي او فسلجي داخل الجسم او النفس،
ان تعدد تعريفات الإيحاء وغموض آليات التنويم المغناطيسي وعدم معرفة حدودها واسرارها جميعا –كما سنرى- ومن ثم تعقيدات العمل السحري منذ الإنسان القديم وحتى اليوم، كل ذلك جعل اختلاط المفاهيم العلمية بالمفاهيم السحرية بل والخرافية يأخذ مساحة كبيرة في سوء الفهم لهذه الحالات الثلاث، ولا يمكن فهمها علمياعلى ضوء تقدم العلوم الفسيولوجية والنفسية والباراسيكولوجية ….الخ الا من خلال التحليل الدقيق لهذه الآليات علىوبضوء الاكتشافات الحديثة في دراسة الدماغ والجهاز العصبي والهرموني والغددي …الخ.
فما دام الإيحاء قوة نفسية فيجب البحث عن حقيقته داخل النفس البشرية وآلياتها وداخل الجسد الإنساني ووظائفه، فإذا فهمنا كيف تتحول القوة النفسية المعنوية الى طاقة فيزيائية مادية مؤثرة داخل الجسد وخارجه عرفنا حقيقة الإيحاء والسحر والتنويم المغناطيسي، وعرفنا بالتالي كيف يتعامل المعنى العقلي مع اللفظ اللغوي ليتحول الى حركة فيزيائية مادية منظورة، واذا كشفنا حقيقة هذا الإيحاء وقوته النفسية وتأثيراته الاجتماعية ونتائجه في غسل الدماغ واعادة برمجة الفرد وصولا الى تسيير المجتمع آليا عرفنا عن حقيقة الإنسان وطبيعته اكثر وعرفنا الطبيعة الاجتماعية للانسان كانعكاس سيكولوجي لمجموعة الافراد في تواصلهم.
ان هذه الدراسة محاولة لإلقاء الضوء على المفاهيم الغامضة للسحر والتنويم المغناطيسي والبرمجة اللغوية العصبية انطلاقا من اللفظة الإنسانية ذات الايقاع الفسيولوجي على العقل كمعنى وعلى الدماغ كمادة، وهي تحاول القاء الضوء ايضا على نهاية ما قدمته وتقدمه العلوم المعاصرة من طب وبايلوجيا وكهربائية وانظمة سيبرناطيقية ….الخ
ان العقل الإنساني الذي حار في تفسير معطياته الفلاسفة والمفكرون عبر التاريخ الإنساني بحضاراته المتعددة نجده اليوم عبر دراسات تجريبية وعلمية وبضوء التقنيات الالكترونية الحديثة يشرح لنا العقدة والهوة التي وقف امامها حائرا عبر هذه الفترة الطويلة الا وهي تحول المعنوي الى مادي او العقلي الى دماغي او بالعكس، فلم يبق هناك حدود ولا ثنائيات بين العقل والدماغ والنفس او الروح والجسد فقد كشفت العلوم الحديثة وخاصة دراسات الإيحاء عن الحلقة المفقودة بينهما.
ان الإنسان هو واحد واما تحليله الى معنى ومبنى او نفس وجسد او عقل ودماغ انما لمحاولة فهمه فقط، نعم قد يكون هناك اهمية اكبر للنفس على الجسد وللعقل على الدماغ وللمعنى على المبنى، ولكن لا يمكن تعريف الإنسان بأحد شقيه فهو روح وجسد وعقل ودماغ شئنا ذلك ام ابينا كما ان هناك تداخلا حيا بين هذه المسميات جميعا رغم تقدم البعض على البعض الآخر في الاهمية النسبية في حياة الإنسان.
لقد كان جو فريزر اعمق دارس للانثروبولوجيا الإنسانية وصاحب أكبر موسوعة في هذا الاطار –الغصن الذهبي-قد حلل معطيات السحر لدى الإنسان البدائي القديم والمعاصر في مجتمعات لازالت تعيش بدائيتها وتوصل الى قانون الفعل في السحر المبني على ما أسماه السحر التعاطفي والتشاكلي والسحر التواصلي كما سنشرحهما في هذا الكتاب ، ولو ربط العلماء بين بعض معطيات الفيزياء النوووية المعاصرة وخاصة في التجربة الشهيرة او ما يسمى تناقض انشتاين –برودولسكي-روزين والتي تذهب الى ان التأثير المتبادل بين الكترونين او اشعاعين لليزر اذا كانا متحدين ثم انفصل احدهما عن الآخر وبمسافة آلاف الكيلومترات فإذا اصاب احدهما تأثير معين نجد أن رد الفعل نفسه يحدث للآخر الذي يبعد عنه آلاف الكيلومترات وكأنه هو ايضا تعرض لنفس التأثير، هذه التجربة التي اثبت علماء استراليون مصداقيتها اليوم عبر تجربة واقعية وكان العلماء حائرون في تفسير انتقال هذا التأثير للشعاع الآخر حيث أنه حتى لو سار بسرعة الضوء فانه يجب ان يستغرق زمنا الا انه لايستغرق أي زمن وكأنما ما وقع على الأول انما وقع على الثاني بنفس الوقت مع ان الاول هو فقط الذي تعرض للتأثير وقد كان من تفسيرات انشتاين المجازية ان هناك تخاطرا بين الجسيمات حيث انتقل التأثير للثاني بنفس الوقت ، هذه المسألة العلمية الدقيقة التي حار في تفسيرها علماء الفيزياء وبقيت معلقة حتى اليوم نجد أن السحرة القدماء كانوا يستخدمونها –كمعطى معرفي يبنون عليه عملهم السحري الاتصالي والتي تقول ان أي شيء ينفصل عن شيء آخر كان متصلا به فإن أي تأثير على احدهما ينتقل الى الآخر مهما بعدت المسافة بينهما أي ان هناك وحدة اتصال لا تزال قائمة رغم الانفصال المادي بينهما ، ويمارس السحرة تأثيراتهم من خلال هذه البديهية المفترضة فكريا لديهم .
وهكذا نرى ان مفردات الفيزياء النووية المعاصرة تطرح مفاهيم فلسفية لرأب الصدع في هذا التأثير حيث تفرض ان هناك نوعا من السيكولوجية الموحدة في الكون من الذرة الى المجرة ومن هنا ظهرت بحوث السايكوفيزياء والسايكترونيك وما شاكل ذلك فهل ياترى ان العلم الفيزياوي اليوم يجد حل معضلاته في معطيات السحر القديم ونظرياته الخرافية ؟
وهل ان البحث اليوم في الربط بين السيكولوجيا والفيزياء ، بين اللاشعور او العقل الباطن والمجال او الحقل الفيزيائي سيحل اشكالات العلم التجريبي ؟ وهل ستصدق نظريات يونغ في اللاشعور الجمعي والنماذج والاطر المعرفية حتى داخل الذرات الاولى لتشكل الواقع المادي للكون مع معطيات الفيزياء النووية المعاصرة التي تقف في حيرة امام مثل تناقض انشتاين-بودولسكي-رودين ؟ هل ترى ستصل الفيزياء اليوم الى فرض وجود نوع من الوعي داخل الذرة والجسيم لتلتقي مع ما قالته الأديان الاولى والاسلام خاصة من ان كل شيء يسبح الله حسب علمه وطبيعته وحركته ولغته ….الخ ؟
واذا ما راجعنا الاسلام كدين والقرآن كرسالة الهية –وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه-وتتبعنا آليات الإيحاء التي استخدمها في تقوية ايمان المؤمن وزيادته والحفاظ والحصانة ضد آليات ايحائية كافرة ، فإننا سنجد ان هذه الآليات قد جاءت مبنية على احدث المعطيات العلمية التي اكتشفت اليوم ،
لقد قرر الاسلام والقرآن آليات معينة على الإنسان المسلم منطلقا من حقيقة فسلجية اثبتها العلم المعاصر اليوم ،الا وهي تأثير الكلام والصوت الإنساني على اللاشعور الإنساني بمقدار يجعل تحقيق وتعميق الاعتقاد يكون طوع ارادة الفرد الذي يتقبل هذه الحقائق والآيات القرآنية فيرددها في كل وقت وحين من بدء النهار وحتى نهاية الليل .
ان الاختيار الإنساني للايمان بيد الإنسان ذاته اما الحفاظ عليه فقد جعل له القرآن –كلام الله عز وجل –آليات تنسجم مع طبيعة تفكير الإنسان ونفسيته ، انه ينطلق من حقيقة سيكولوجية يؤكدها العلم الحديث اليوم في دراساته ، وهذا انما يدل على سبق القرآن لهذه العلوم –فليس القرآن كتاب تجريب علمي وانما هو كتاب توظيف ايماني اعتقادي مبني على اساس علمي ومعرفة حقيقية بطبيعة الإنسان والتأثير في غرس وتعميق الايمان عن طريق آليات اللفظ والموسيقى والتكرار ، وحين يحرص الاسلام على خمس أوقات للصلاة في اليوم إنما لتعميق الايمان وزيادته في نفس المؤمن لما يكرره من آليات الصلاة وقراءة القرآن فيها والتسبيح …الخ كذلك حين جعل لقاريء القرآن كذا من الأجر ولمستمع القرآن أيضا كذا من الأجر ….الخ فانما ليساعد الإنسان المؤمن على برمجة لاشعوره أو نفسه بمقويات الإيحاء اللغوي واللفظي المنعكس بالتالي على سلوكه الايماني حتى وجدنا هناك من المسلمين من يسمع آية واحدة وهو عاص يتوب وآخر يسمع آية معينة يغشى عليه من الخوف وآخر يسمع آية معينة يموت في مكانه….الخ .
فالاسلام استخدم اسلوب السلوك المعزز كما يسميه علماء نفس السلوك واستخدم في تعزيزه أقوى الآليات المتوفرة لدى الإنسان وسيكولوجيته لهداية المسلم ثم لتوبة العاصي ثم لتعميق وزيادة الايمان في كل ممارسة من ممارسات الدين الاسلامي وصولا الى استخدام الجوع –الصوم-ذاته مع آليات الصلاة والقرآن لتعميق الايمان أكثر فأكثر ،.
ان الاسلام يستخدم قوة الإيحاء اللفظية في القرآن وموسيقاه –عبر الترتيل-ومعانيه استخداما علميا لم يصل العلم الى حدوده إلا اليوم ,ولعل هذا ما اكتشفه بلغاء العرب الجاهليين حينما اضطروا الى ان يصفوه بالسحر لأن وعيهم له كان كبيرا لدرجة اعتبروه من خارج القدر ة الإنسانية البلاغية المعروفة لديهم ولم يكن لهم القدرة على التعبير عن قوته الايحائية الا بالقول أنه سحر وما هو بسحر فالسحر يعتمد الوهم أما كلام الله فيعتمد الحقيقة وشتان بين السحر والدين وبين الوهم والحقيقة وبين كلام الإنسان وكلام الله .
هذه هي بعض مفردات هذا البحث عسى الله ان ينفعنا بأن يهدي به من ضل ويعقل به من جن ويشفي به من مرض انه سميع مجيب.