محاذير في ترجمة الفكر الغربي

محاذير في ترجمة الفكر الغربي

نازك الملائكة

الترجمة، من وجهة النظر الاجتماعية، ضرب من الصلة بين مجتمع ومجتمع، تتيح للمترجم فرصة يحتك فيها ذهنه بذهن أجنبي له ظروف المترجمة أشد إثارة وأعمق أثراً في أذهان القراء وأرواحهم، ومن شأن الأمم المتحضرة أن تلتمس المعرفة وسعة الفكر، فهي تقبل على قراءة آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها، ملتمسة فيها وجهة نظر جديدة تستعين بها على حياتها، ووسائل تعبيرية توسع آفاق لغتها وفكرها.

وقد كان من مظاهر الانبعاثة العظيمة التي انتفضت بها الأمة العربية في هذا القرن، أننا أقبلنا على الترجمة سواء من الغرب أم من الشرق من آداب الهند والصين وحكمتهم، علماً أن الغالب علينا اليوم هو النقل عن الغرب بحيث باتت المترجمات الأوربية والأمريكية تغرق مكتباتنا وأسواقنا، وما زال هذا التيار يشتد ويتلاطم حتى بات علينا أن نتأمله ونرقبه.

وأول ما نحب أن نقول: إن حماستنا في ترجمة الفكر الغربي أمر لا تنقصه المبررات:

إن الغرب الذي سبقنا إلى التطور الحديث قد خاض قبلنا في كثير من القضايا الفكرية الجديدة والمسائل الاجتماعية المعاصرة وغيرها مما نتعرض إلى أن نخوضه في بلادنا، ولذلك نستطيع أن نفيد من تجاربه في مجابهة بعض قضايانا المشكلة، غير أن في موقفنا من هذه الترجمة محذورين خطيرين قد نقع فيهما إن لم ننتبه.

أولهما: أن بعض المترجمين يتخذون مما يترجمونه موقفاً ضعيفاً فيه هوان واستخذاء، فيفترضون في قراراتهم أن الأمة التي تحتاج إلى الترجمة، هي بالضرورة أضعف شخصية وفكراً من الأمة التي تترجم عنها فكما لا يخفى أن هذا موقف مغلوط يسيء إلى أية ترجمة تنقل إلى لغتنا، لأننا ندرك أن الأمم تتباين في التفكير والتعبير، وتختلف في الاتجاه والمعتقد، ومن ثم فإن قراءة آداب الأمم الأخرى تلمس أذهاننا لمسة الإيحاء، وتشق لنا دروباً جديدة من المعاني، ولا تظن الأمة التي ينقصها الفكر المحلي الناضج تنتفع بالترجمات، وإنما تقع في التقليد والنسخ والمحاكاة فيمسخ ذلك شخصيتها ويضيع مكانتها.

وقد يكون من المفيد، في مداواة هذا الإحساس، أن نتذكر أن الغرب الذي يعطينا فكره إنما رد إلينا اليوم بعض ديونه القديمة المتراكمة، فكم قد أخذ في غابر القرون عن ابن سينا وابن الهيثم وابن رشد والغزالي والمعري وابن خلدون وسواهم من أعلام الفكر العربي، ثم إن حاجتنا العربية المعاصرة إلى دراسة الفكر الغربي لا تكاد تقل عن حاجتنا إلى دراسة الفكر العربي، فإنما نحن متأخرون لأننا هبطنا عن مستوانا العربي نفسه، وإن المرء ليحزن حين يدرس تاريخ الفكر العربي والمستويات الثقافية العالية التي بلغها، ويقارنها بما نحن عليه اليوم من خمول وضحالة.

والمحذور "الثاني" أن إعجابنا الشديد بالفكر الغربي قد يشل قدرتنا على تمييز ما ينفعنا مما يضرنا، فنترجم كل ما يكتبون ونتخذ من المواقف والفلسفات ما يتخذون بمعزل عن حاجتنا وظروفنا، ومنشأ هذا المحذور انبهارنا بمدنية الغرب الآلية، فما نكاد نتأمل صواريخه وأقماره وكشوفه العلمية الجبارة حتى نتخيل أن أخلاقه توازي علومه، وأن مبادئه لا تقل روعة عن مستواه العلمي، وأن شخصيته أرفع من شخصيتنا، ولذلك ينبغي لنا أن نأخذ بكل ما يقول ويعمل.

ولقد سادت في بعض أوساطنا المبهورة بالغرب فكرة مضمونها أن كون الأمة العربية تعيش عصراً واحداً مع الغرب يجعل من الممكن والمعقول أن تكتب بأساليبهم وتعشق آراءهم وتستعمل أحكامهم الأدبية في نقد آثارنا، وهذه النظرة على ما فيها من جانب مصيب، تتجاهل أن لكل أمة شخصية وطبيعة وأسلوباً وأن مرجع ذلك إلى تواريخ سحيقة في القدم عاشتها الأمم وتكون خلالها إرثها من الدم والروح واللغة.

إن هذه الحقيقة تتحكم فيما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من الفكر الغربي المترجم، فكل فرق في الشخصية والتاريخ بيننا وبين الغرب ينتج إلزاماً بالحذر من أن يجرفنا الفكر الذي ينتجه، ولسوف ندرس فيما يلي هذه الفوارق القائمة بيننا وبين الغرب، وهي –كما سترى- تحد استفاداتنا من إنتاجه وقد تجعله مضراً بنا أشد الإضرار أحياناً.

1- فارق الاتجاه الحضاري:

كان الشعب العربي، منذ أقدم العصور يمثل اتجاهاً حضارياً يختلف عن اتجاه الغرب، ولعل الوصف الصادق لنفسيتنا هو "الروحانية والتأمل والخشوع" بينما يتصف الغربي عموماً "بالمادية والحسية". وفي وسعنا أن نلاحظ هذا الاتجاه الغربي منذ بداية التاريخ المعروفة، فاليونانيون القدماء مثلاً، في عهد "هوميروس" كانوا لا يشغلون بالهم بالأخلاق وإنما يعيشون الحياة دون تحفظ أو تقيد، يدل على ذلك أنهم ابتدعوا لأنفسهم آلهة ترتكب الشر والخير معاً ولا تعرف بينهما فرقاً أو –على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جان ماري كوبو في كتاب له(1): "أن الطبيعة لا ترى في الخير والشر تضارباً ولا تعارضاً، وإنما هما عندها، مثل الحرارة والبرودة، كلاهما درجة في المحرار الأخلاقي، وكلاهما ضروري لأن الواحد منهما يوازن الثاني في الخليقة، وإنما كان الإغريق يقدسون الحياة كلها، فكل ما فيها يرتفع عندهم إلى مرتبة الألوهية سواء أكان خيراً أم شراً، كما يقول نيتشه(2)، ويتضح هذا المعنى في ما تراه لهم من صور وتماثيل تشير إلى تقديس الجسد والانطلاق من قيود الأخلاق.

ولو درسنا الفلسفات الأوربية الحديثة لوجدنا أغلبها مشوباً بلمسة الاتجاه المادي، ويشاهد أثر ذلك حتى لدى الفلاسفة المتدينين مثل القديس أوغسطين، فلعل أي قارئ لاعترافاته يلاحظ المسحة الحسية العنيفة في حبه لله وأثر العاطفة في مناجاته له، فهو يصف الله بأنه زوج الإنسانية، وتعبر الفقرة التالية عن مجمل شكل هذا الحب الذي يكنه أوغسطين للخالق:

"حين أحب الله فأنا إنما أحب الضياء والنغم والعطر والطعام والعناق، وإنه لضياء لا يمكن أن يسلبني إياه زمان، وعطر لا تستطيع رياح أن تبدده، وطعام لا ينقص مهما أكلت منه، وعناق أرقد فيه فلا يوقظني منه ارتواء، ذلك ما أحبّ حين أحب الله(3)".

كل هذا يشير إلى موقف حسي من الذات الإلهية يخالف موقفنا في الوطن العربي حيث نعتقد ألا شيء يقربنا من الله مثل التأمل الخالص المنزه عن تأثيرات الحواس، إننا نلمح الزهد والحكمة والتأمل حتى في شعر العرب الذين مجدوا الخمر وعالم الحواس مثل طرفة بن العبد، وما يلبث اللاهون المعنون في المجون حتى يتوبوا تنحدر دموع الندم على خدود كهولتهم مثل أبي نواس.. فكأنما النفس العربية بطبعها متأملة خاشعة فما تكاد تنطلق حتى تعاودنا نزعتها الفطرية، ومع أن الصوفيين في الأدب العربي لا يمتنعون عن مناداة الله بالنجوى الحسية، غير أن كل حسية لديهم إنما هي رمز لمعنى روحاني، فهم يتحدثون –كما يقول ابن الفارض- عن "معنى وراء الحسن"(4) ونحن نعلم من مطلع التائية الكبرى أن الحبيبة التي ترمز إلى الله ذات محيا "يجل عن الحسن" والعقيدة العامة لدى العربي أن الحواس بنهمها وضجيجها، تشغل الذهن عن الارتقاء، ولا يتم إدراك الله تعالى من دون ارتقاء، ولسنا وحدنا في هذه النزعة فإن الشرق كله يكاد يشاركنا إياها، وكل من يلم بفلسفة "بونما" في "الباغافادغينا" Baqavad-Gita الهندية يدرك أنها تنتهي إلى مثل ذلك لا بل إنها تزيد عليه زيادات قاسية من الرياضة الروحية تهدف كلها إلى تطهير النفس من سطوة الحواس.

ولعله ثابت أن الفرد العربي، مهما قل نصيبه من العلم والثقافة، يمتلك في أعماقه حساً صوفياً يمنحه خشوعاً دائماً أمام الله والحياة والغيب، ومن مظاهر ذاك إيمانه بالرؤيا وتأويلها، وبالدعاء وآثاره، وبعالم الروح وخلود الموتى، كما يتميز العربي بأنه يذكر الله في حياته اليومية كثيراً.. وقد تركت النزعة الروحية آثارها في تاريخنا قديماً وحديثاً، وهو أمر لا يكاد نجد له مثيلاً في كتب الغرب.

بعد هذا العرض العاجل للروحية العربية والمادية الغربية يصبح واضحاً أن ترجمة الفكر الغربي إلى لغتنا ينبغي أن تتم في كثير من التحفظ، لا لأننا نخشى أن نهدم طبيعتنا فإن طبائع الأمم لا تهدم قط، وإنما لأن انبهارنا بمدنيّة الغرب يستطيع أن يجعلنا نتيه فنتمرد على طبيعتنا كما يتمرد صبي غر، وبذلك تضيع فترة من الزمن حتى نرجع إلى أنفسنا، ولسوف نكتشف يوماً بعد يوم أن طبيعتنا هي ضمان إبداعنا لمجرد أنها طبيعتنا والمرء لا يبدع إلا في حدود طبيعته، هكذا أبدع العرب بالأمس، وهكذا تبدع أوربا اليوم، ونحن في الوطن العربي نحتاج اليوم إلى كل لحظة من حياتنا، فلا ينبغي أن نبدد شيئاً في الضياع والتيه.

2- فارق الموقف الاجتماعي:

تبدو لنا محاذير الاندفاع في ترجمة الفكر الغربي إلى اللغة العربية أشد وأخطر حين ندرس الفرق الظاهر بين الموقف الاجتماعي الذي تقفه الأمة العربية والآخر الذي يقفه الغرب، وينشأ ذلك الفرق بدءاً من أن الغرب يقف في نقطة من تاريخه الفكري والحضاري تختلف عن النقطة التي نقف فيها نحن اختلافاً ملحوظاً، فقد بلغ الغرب مرحلة النضج الحضاري منذ قرون، وعرف هذه المدنية الحديثة معرفة مباشرة، وعاش مراحلها النامية عيشة متدرجة على مدى مئات السنين، ولذلك فإن المدنية المعقدة المعاصرة لم تفاجئ الغربي كما فاجأتنا وإنما لاحت له دائماً قضية بديهية يعيشها كما عاشها آباؤه وأجداده، لقد ولد فوجد المدن الشامخة مبنية حوله، والقاطرات تزحف تحت الأرض، والكشوف العلمية قائمة وإن زادت نضجاً مع السنين، كما وجد أمامه مجتمعاً كاملاً عريقاً في نظمه وآدابه وثقافته، كل هذا يخالف موقفنا في الوطن العربي حيث جاءتنا المدنية تركض ركضاً أشبه بموجة جبارة من أمواج بحر عظيم، ولقد كان لهذا الاختلاف بين الغرب وبيننا في ملتقى المدنية الحديثة نتيجتان مهمتان:

الأولى: أن الفرد الغربي باعتباره لمدنيته، يفقد نشوة المفاجأة واللذة التي يجدها الفرد العربي، يرى الغربي مدنيته شيئاً طبيعياً مألوفاً بينما نراها نحن باهرة سحرية الجمال بما تجدد من حياتنا ومجتمعنا، إن مفاجأة الانتقال من البدائية إلى المدنية قد أحدثت في الأرض العربية هزة حياة عظيمة، فكأننا أرض حية أقفرت وأجدبت قروناً ثم أفاقت فجأة على انهمار سيول متلاحقة من مياه باردة منعشة تغلغلت في كل شبر منها فتفجرت لمرورها الخصوبة النائمة، أو كأننا موجة بلغت قراراتها السفلى واستجمعت قواها جميعاً لقفزتها التالية.

وهكذا نجد المجتمع العربي أشبه بعملاق سليم البنية نام طويلاً واستجمع قواه، حتى إذا أفاق وفتح عينيه وجد حوله فجراً عذب الجمال يمتد ويغمر الدنيا، إنه يحس في أعماقه فرحاً مائجاً، ويستشعره رغبة جارفة إلى أن ينهض ويعمل ويعيش ملء حياته، وهو في موقفه هذا يختلف عن المجتمع الغربي الذي ألف مدنيته فلا مفاجأة تسحره ولا يقظة تهزه فهو يعيش في برودة وسأم.

والنتيجة (الثانية): هي أن الفرد الغربي الذي بلغ ذروة مدنيته قد فقد الهدف العام الكبير الذي نمتلكه نحن، إنه يولد فيجد المدن قد بنيت وقامت حوله، لقد بناها له أجداده فوجدها جاهزة بمعاملها وأحيائها ومدارسها ودوائرها وأنظمتها، فكأنه جاء إلى الوجود متأخراً أو هكذا يحس، ويجعله ذلك كله يفتقد الشعور بقيمته في المجتمع، فالمدنية الجاهزة تفرض عليه سطوتها وسيطرتها وتبدو له جبارة ظالمة مبهمة، ويعرف قراء الأدب الغربي المعاصر كيف يحس الفرد هناك نحو المدنية التي يعيش فيها، فهو يسميها عدوة ويصفها بالقبح والفجور ويرى نفسه بين يديها حيواناً صغيراً ضعيفاً لا حول له ولا قوة.

وأما نحن فإن حياتنا العربية تمنحنا أهدافاً شاسعة نتعطش إليها ونسعى بحيث لا يبقى لنا فراغ، إن مدنيتنا يافعة تنمو وتستقي الضياء من الشمس ومن سواعدنا المتعطشة للعمل، والوجود بين أيدينا خام يسألنا أن نعيش ونبني ونزدهر، إن حولنا مئات من القفار العربية المشتاقة إلى السواعد العاملة وعلينا أن نسقيها ونزرعها خضرة ومدناً وحضارة يضاف إلى ذلك أن ديارنا ترزح تحت وطأة الاستعمار البغيض، وإسرائيل تقوم في قلب أراضينا وذلك وحده يعطينا من الانشغال والعمل ما يملأ حياتنا ويضنيها خلافاً للغربي الذي حقق استقلاله منذ أزمنة بعيدة وبذلك فقد الهدف الكبير وامتلك مكانه فراغاً وترفاً وحياة لينة ما يلبث حتى يسأمها ويحس رتابتها وجدبها، إن خيرات الوطن العربي، مما يسرقه الاستعمار، ما زالت تتدفق على أفراد غربيين يملكون كثيراً من المال والفراغ وقليلاً من الأهداف، فلا عجب في أن تنهار نفسية الفرد الغربي، ويطبق الظلام على المجتمع هناك كما يصور لنا الأدب الغربي المعاصر، إن علماء الحضارة والسلالات يقررون مبدأ عاماً ثبتت حكمته هو أن الشعب الذي يفرغ من الكفاح ويخلد إلى البطالة والترف ينتهي إلى الزوال، والعرب يقولون إن الفراغ مفسدة، وقديماً شخص الرسول الكريم هذا المعنى فقال لأمته" اخشوشنوا فإن الترف يزيل النعم".

وينعكس إحساس الفرد الغربي هذا في إنتاجه الفكري والأدبي وهو كله تقريباً من شعر وقصة ومسرح ونقد وفلسفة وفنون، كله يعكس اليوم اليأس والغيظ والتشاؤم والرعب، فكأن الفرد قد استنفد حيويته وصار إلى القنوط والذبول، وليس "غثيان" جان بول سارتر الصورة الوحيدة لما نقول، فقد تبعه وقلده مئات في الغرب، ومن هذه الصور كلها نستنتج أن الفرق العام وراء الفكر الغربي المعاصر هو أن الإنسان وحيد في الوجود، وأن حياته عبث لا طائل وراءه، فخير ما يمكن أن يصنعه أن يموت، ونجد في رواية La Cindition Hvmaine للكاتب الفرنسي المعاصر أندريه مالرو هذه العبارة "يستطيع الإنسان أن يجد الرعب في أعماق نفسه دائماً، وكل ما يحتاجه أن ينظر عميقاً".

ولعل هذه العبارة تصلح مفتاحاً لنفسية الغربي اليوم، إنه مرعوب، تلك هي صفته الأولى ومنها يتفرع القلق والنهم الجنسي والجريمة، ومنها أيضاً تنبع معاداة المجتمع واحتقان نظمه، إن هذا الفرد الغربي يحتقر الأخلاق فيسخر في كتبه من الرحمة والصدق والعفة والشرف سخرية وقحة يستنكرها العربي كل الاستنكار، ويزيد الغربي فيزدري الوطنية ويضحك من الإخلاص للمجتمع ويستخف بفكرة الأسرة والعائلة، ولذلك نجد في رواية مشهورة لألبير كامو L'etranqer أن بطلها يذهب في يوم وفاة أمه ليلهو على الشاطئ مع صديقة له، ويتحدث عن أمه المتوفاة بلهجة خالية من الشعور خلواً عجيباً، وهذه النغمة قد شاعت شيوعاً عظيماً في أدب الغرب المعاصر لأن المثل الأعلى للشخصية اليوم هو الإنسان الذي لا يحب أي أحد ولا يحترم أية مثل ولا يدين بأي مبدأ، إن الحب بأشكاله كلها يبدو له تقييداً لحريته، سواء أكان حباً للوطن، أم حباً للمجتمع، أم حباً لحبيبة أو زوجة أو أم، أم حباً للحياة نفسها، وحتى حب الله يتعارض مع حريته ولذلك نسمع "أوربست" بطل مسرحية "الذباب" لجان بول سارتر يخاطب إلهه قائلاً: "أنت الله، وأنا حر".

ومن صور هذه الفلسفة في الفكر الأوروبي الحديث مسرحيات لويجي بيراند يللو وهي في مجملها تقوم على إحساسه بأن الحياة عقدة لا حل لها وأن الحقائق تزوغ ولا تثبت فلا يبقى للإنسان غير أن يجن ويفقد عقله مثل "هنري الرابع" وعندما نقرأ ج. ب بريسلي في مسرحياته الجميلة "كورنيليوس" أو "الزاوية الخطرة" أو "الزمن وآل مونري" أو "أناس في عرض البحر" نخرج متشائمين كارهين للحياة، وماذا نجد في مسرحيات يوجين أونيل الأمريكي: إن مسرحياته "الحداد يلائم ايليكترا" و"القرد ذو الشعر" و"الحوار الغريب" مملوءة بالظلام واليأس وسوء الظن بالإنسان، وماذا عن آرثر ميلر وتنسي ويليامز وسواهما من مسرحيي أميركا المعاصرين؟ إن المرء ليحس بالضيق والتشاؤم من قراءة كل هذا الإنتاج المظلم المريض فكأن الغرب قد مات روحياً ولم يعد يعطي أبناءه إلا المرض والغثيان والجريمة.

ومن المحزن لي أن أجد كثيراً من أدبائنا وفنانينا اليافعين المعجبين بالفكر الغربي، يندفعون في التأثر بهذا الأدب وتلك الفنون اندفاعاً شديداً وبذلك يبددون مواهبهم وخصوبة أذهانهم، وطالما هزني الشوق إلى أن أقرأ أدبهم بما أعرف لهم من موهبة واقتدار، فما أكاد أبدأ حتى يصدمني الظلام والجريمة واليأس، فأكف عن القراءة آسفة، وإلى الموهوبين اليافعين العرب أتجه بهذا البحث.

إن هذه النظرة إلى الحياة، في شطريها اللاأخلاقي والتشاؤمي ليست هي النظرة العربية، فقد كانت العروبة منذ أقدم عصورها متمسكة بالأخلاق والمثل، ذلك على الرغم من وجود المروق في كثير من الفترات، ولم يصبح الانحلال الخلقي فلسفة لدينا على الإطلاق، وإنما كان يعد، حين يقع، خروجاً فاسداً على قانون المجتمع، وسرعان ما كان المارق يزهد ويتوب مثل أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة.

يضاف إلى ذلك أن التحلل والتشاؤم وازدراء الحياة مواقف لا تلائم حياتنا العربية اليوم، ذلك أننا لكي نبني مجتمعنا الجديد ونحرر ديارنا من عبودية الاستعمار، نحتاج إلى الأخلاق والعمل والتفاؤل، وما من شيء يستطيع أن يفسد علينا جهودنا مثل تبنينا الفكر الغربي المريض، فإذا اتخذ شبابنا نماذجه الأدبية والفكرية من أعلام الغرب المعاصر مثل سارتر ومورافيا وكافكا فإلى أين سننتهي؟ أقول هذا وأنا أول المعجبين بهؤلاء الأعلام، غير أن الإعجاب الأدبي لا يعني أن أتخذ مواقفهم الاجتماعية والفكرية، وإنما أحب مقدرتهم الذهنية الرائعة وأساليبهم الأدبية المكتملة وصورهم وغير ذلك، وفي إنتاجهم كثير ينفعني ويشحذ ذهني، أما مالا ينسجم مع عروبتي وحياتي فأنا أقرأه في تحفظ وأقف منه موقف الناقد المحلل.

والحقيقة أن اتجاهات الكتب المترجمة عن الغرب في السنوات الأخيرة تقلقنا، حتى أصبحنا نخشى على نفسية القارئ العربي من رشاش هذه الموجة التي تأتينا راكضة من الغرب، وقد تصف هذه الموجة "بالتبذل" ولا يعني ذلك أننا غافلون عما فيها من فكر وأسلوب وثقافة، ذلك لأن "التبذل" هو صفتها من وجهة نظر الأمة العربية، فليس تعنينا صفتها من أية وجهة نظر أخرى، إن لنا حاجاتنا العربية، وهي تملي علينا أحكامنا الاجتماعية وينبغي أن تمليها.

3- فارق الموقف الأدبي:

وعلينا أن نتذكر أن مترجمي هذه الكتب أكثرهم حسنو النية وإنما ينقلونها إلى لغتنا لإيمانهم بحرية الفكر غير أن الذي يفوتهم أن "حرية الفكر" ليست كلمة عامة معزولة عن مصلحة من يؤمن بها، فإنما تكون الأمم حرة الفكر بمقدار ما تستطيع التوفيق بين مبادئها ومصالحها، وأما أن تعجب الأمة بالآراء التي تهدمها وتسيء إليها فما تلك بحرية فكرية وإنما هي، إذا تأملناها عبودية ومذلة، ولذلك ينبغي أن نتحكم في تيار الكتب المترجمة إلى لغة الضاد فنختار منها ما ينفعنا وننبذ ما يضرنا.

وهو فارق يفرض نفسه فإذا تجاهلناه ونحن نترجم آثار الغرب كنّا نحن الخاسرين، ولقد عاش الأدب العربي في السنوات الأخيرة من تعسف الترجمات وتجاهلها لروحية آدابنا ما جعل الغبن يقع على أكتاف الأمة العربية كلها.

وأول ما يشكو منه الباحث المتأمل هو الفكرة المغلوطة التي شاعت في الأوساط العربية المثقفة حول الشهرة وطبيعتها، إن طائفة من المترجمين والقراء يحسون أن كل ما هو مشهور في الغرب قابل لأن يكون عالمياً ومن ثم فلابد أن ينال الشهرة عينها في الوطن العربي، والواضح أن هذه الفكرة تتجاهل الفروق بين الشعوب، بينما تبقى تلك الفروق تتحكم في شهرة المفكرين، والواقع أن الأديب إنما يشتهر في أحد الأوساط بسبب ثلاثة مقومات يضمنها أدبه في ذلك الوسط:

أولها: أن أدبه يعبر عن الحياة الاجتماعية التي يحياها ذلك الوسط مثال ذلك أن مسرحيات بيرانه يللو تقدم أشخاصاً ذوي آداب وآراء أوربية بحيث تجري اجتماعاتهم وأحاديثهم وفقاً لتقاليد المجتمع الأوربي الحديث، ولذلك يجد الأوربي لذة في شهود تلك المسرحيات.

إن الأديب يعبر عن متوسط المستوى الفكري العام للأمة، مثال ذلك أن الآداب الغربية المعاصرة مفعمة بالتعقيد الفكري والحيرة الفلسفية والإحساس بضياع الحقيقة على وجه يألفه المتعلم الغربي الحديث بكثرة ما قرأ من أمثاله وشهد على المسرح منذ عشرات السنين، وليس من الممكن أن يتذوق مواطننا العربي هذا المستوى من التعقيد بطفرة، وإنما يصبح ذلك معقولاً إذا تدرجنا سنين طويلة في تدريبه على ذلك بإطلاعه على النماذج الأبسط من آداب الغرب ومهما يكن فإن درجة التعقيد في فكر الأمة مسألة اجتماعية محضة تتحكم فيها آلاف العوامل، وإن من الأمم من يؤثر البساطة بفطرته فلن تقبل التعقيد مهما دربناها.

ومن الطبيعي أن تكون اللغة "ثالث" مقومات الشهرة، فمهما قلنا عن مضمون الأدب فإنه يبقى ظاهرة لغوية قبل كل شيء، ولعله أساليب متباينة في الاشتقاق والصياغة وتركيب العبارة ولفتات البلاغة، وكلما كان أدب الأديب أكثر عناية بالبلاغة كان نقله إلى اللغات الأخرى أصعب من نقل النثر، ويعرف الذين درسوا شكسبير أن نقله إلى العربية يكاد يكون محاولة عقيمة وذلك لكثرة ما في شعره من استعارات وتشبيهات ومجازات وتلوين وبلاغة وسوى ذلك مما لا ينقل من لغة إلى لغة، وأما ما ترجموا من مسرحه فلا يزيد على نقل "حكايات" ذلك المسرح.

وبعد استذكارنا لهذه العوامل يحق لنا أن نحتفظ فيما نختاره للترجمة إلى لغتنا، فليس كل كتاب مشهور لسارتر أو سواه يستحق أن يترجم إلى  لغة الضاد، وقد تستهجن أوساطنا مسرحية مشهورة لبرناردشو أو رواية لجيمس جويس ويكون ذلك منها دليلاً على قوة شخصيتها وأصالة ذهنها، ولن يكون الحكم علينا بانحطاط المستوى، أو فساد الذوق في هذه الحالة إلا حكماً من وجهة نظر غير عربية، و"الذوق" و"المستوى" ليسا كلمتين عامتين وإنما هما معنيان نسبيان تتحكم فيهما ظروف الأمم وحاجاتها.

ولهذه الأسباب كلها يدهشنا أن نجد أدب طائفة من كتابنا يغص بأسماء الغربيين مثل كوكول وبالزاك وولتر بيتر وبول جيرالدي وكأن هؤلاء الكتاب الأفاضل يفترضون أن الأعلام الغربية تستثير الذاكرة العربية كما تستثيرها أسماء عنترة والمتنبي والبهاء زهير.. والأمر بعيد عن ذلك، وإننا لنخشى أن يكون في ترديد الأعلام الأجنبية عبر رواياتنا وأبحاثنا لون من التعالي على المستوى العربي، لذلك نود لو كف مثقفونا عن حشد الأعلام الغربية في إنتاجهم، لا لأننا نريد أن نبقي قراءنا العرب في جهلهم لهذه الأعلام وما وراءها من ثقافات، وإنما لأننا لا نؤمن بأن هذا هو الأسلوب في تقديم الشهرة الأجنبية إلى الذهن العربي، ولسوف نعرض بعض اقتراحاتنا فيما بعد.

ولعل الوجه الأخطر من أوجه نقل الشهرة نقلاً ارتجالياً من الغرب إلينا هو نقل الآراء، فكأن شهرة الأديب الغربي تبرر للفرد العربي أن يعتنق آراءه الأخلاقية والاجتماعية جميعاً، وقد لاحظنا أن طائفة من كتابنا العرب يتبنّون آراء الغرب المتشائمة اللاأخلاقية فينقلون في أدبهم معالم من الجو المظلم الخانق الذي تتصف به آداب أوربا المعاصرة، ذلك على الرغم من الاختلاف الواضح بين ظروفنا المبشرة في الوطن العربي وظروف الغرب الذي بات يتحلل يوماً بعد يوم وتسير روحيته للانهيار، وما هذا المسلك من أدبائنا هؤلاء إلا نقلاً متعسفاً لشهرة كتاب غربيين لا جذور لنفسياتهم في الأرض العربية.

ويدخل في هذا الباب أيضاً ما دأب عليه جماعة من النقاد العرب في السنوات الأخيرة من نقل الأحكام الأدبية التي يصدرها نقاد الغرب إلى عالمنا دونما تمحيص أو تمييز، فإذا أبدى إيليوت أو أمبسن أو ريتشرد أو فركسن رأياً أدبياً، حسب نقادنا أن ذلك الرأي ينطبق بالضرورة على أدبنا، ومن ثم فهم يطبقونه على الأدب العربي فوراً، وتكاد حماسة هؤلاء النقاد العرب –ومنهم نقاد مبدعون ذوو أذهان حرة- تجعل مقالاتهم تغص بالأعلام الأجنبية، والاصطلاحات الدخيلة على آدابنا، وقد يكون مصدر هذه الظاهرة إعجابهم المفرط بالنقد الأوربي وانبهارهم بنظرياته، ونحن نقر ذلك ونشاركهم إعجابهم، لا بل إنني شخصياً تتلمذت على طائفة من كبار نقاد الغرب في دراستي للماجستير مثل الأستاذ فرانسز فركن وآلن تيت وريتشرد بلاكمر، فأنا أكن لهم الإعجاب والتقدير، غير أن هذا الإعجاب لا يبرر لنا أن نتعسف في تحكيم آرائهم في أدبنا المحلي لأن تراثنا يختلف اختلافاً كبيراً عن تراث الغرب وأما ما يصح أن نتعلمه من النقد الغربي فهو سعة الذهن، وأسلوب البحث وموضوعية الأحكام وأصالة الرأي، وقوة الاستنباط، والحق أن أدبنا العربي ينبغي أن يعطينا نظريات في النقد تخالف النقد الغربي لأنه سينتهي بنا إلى محذورين:

1- التعسف في تطبيق قوانين أجنبية على أدب عربي له تاريخه ومزاجه ولغته وأسلوبه.

2- إهمال جوانب مشكلة خاصة بآدابنا مما لا تتناوله كتب النقد في أوربا وأميركا لأن مشاكلنا الأدبية غير معروفة في آدابهم.

مثال: نحن والرومانسية.

نحب أن نورد مثالاً لما يوقعنا فيه نقل الأحكام الغربية إلى عالمنا الأدبي.

يحكم النقاد المعاصرون في الغرب بأن "الرومانسية" لون أدبي عتيق لا يلائم عصرنا، وقد بلغ من ازدرائهم لها أن باتوا يستعملون لفظ "روماسيكي" في نعت من ينتقصونه من الشعراء، وقد نقل فريق من الأدباء العرب هذا الحكم إلى عالم النقد عندنا فصار الشعراء اليافعون يتناقلون بينهم ازدراء "الرومانسية" وكأنها سبة يصاب بها الشاعر وكان بديهياً أن يصحب ازدراءهم هذا لما يزدريه الغربيون، إعجابهم بما يعجب به أولئك النقاد فانتشرت في الشعر الجديد عندنا الروح الغربية المعاصرة وقوامها التعقيد واليأس وتناقض الصور وازدراء المجتمع، أما من وجهة النظر العربية فإن "الرومانسية" ينبغي أن تكون مستحسنة في الشعر، لأن الغرب إنما سئمها بعد أن شاعت قرناً من الزمن تقريباً حتى لم تعد تؤدي غرضاً، أما نحن فلم نستعملها إلا لمحة في أدب جبران خليل جبران وبعض من عاصره مثل نقولا يوسف وطائفة من الشعراء، والحق أننا لم نعرف الرومانسية، فكم لها من أجواء وكم فيها مما لم نتذوق، وسنمر عليه مروراً عاجلاً في الفقرات التالية:

1- تدعو الرومانسية دعوة شديدة إلى الروح الفردية المستقلة، والنظرة الذاتية التي تنبثق عن شخصية الشاعر، وهذا يلائمنا لأننا نحب أن يتحرر الشاعر من سطوة القبيلة أو العشيرة أو العائلة، فكلما كان الشاعر ذاتياً كان ذلك أنفع لمجتمعنا حيث نحتاج إلى أن ننمي الروح الخلاقة ذات الفكر المتفرد.

ويتفرع من هذا إيمان الرومانسية بتمرد الفرد على الأوضاع الفاسدة التي تحيط به، لأنها في جوهرها دعوة إلى الإيمان بكل ما هو جميل وعظيم وأخلاقي، ومن ثم فهي تمجد البطولة.

2- تدعو الرومانسية إلى إحياء الآداب القديمة وتمجيد التاريخ القومي بإلقاء نظرة حديثة عليه فيها فردية الشاعر ونظرته الذاتية، وما أظننا نحتاج اليوم شيئاً كما نحتاج هذا، والرومانسية في ذلك بعكس الفلسفات الوجودية والعدمية المعاصرة لأن هذه الاتجاهات الجديدة تحتقر الإيمان بالمجتمع وتهزأ بالوطنية وتسخر من المثل.

3- تمجد الرومانسية العواطف الحية الخصبة، والعاطفية فيها تكاد ترادف الإنسانية، وأما ما في بعض الرومانسية من كآبة وحب للكآبة فليس ذلك ملازماً لها، واللمسة العاطفية ضرورية للشعر العربي والروح العربية لأن الصبغة العامة للفكر العربي عبر عصوره كانت صبغة ذهنية لا عاطفية، ولذلك شاعت الحكمة في الشعر وشاع السجع والبديع وعرف التعمل، فكل ذلك من عمل الفكر لا العاطفة، ومن ثم فنحن حين نتخذ من الرومانسية موقفاً إنما ندخل على ما ألفناه تغيراً ونوسع الحياة العربية في اتجاه جديد.

4- تؤمن الرومانسية بحيوية اللغات الإنسانية وقدرتها على النمو والتجدد، وقد عرف الرومانتيكيون بالجرأة في صياغة الصور والتشبيهات والاستعارات، ونحن في الشعر العربي نحتاج إلى ذلك على أن يتم في حدود الإطار العام للنحو والبلاغة.

5- من ملامح الرومانسية في الشعر صفة الغنائية والموسيقى العالية الرنين وهذه الغنائية هي نفسها تجديد بالنسبة لشعرنا الذي اتصف غالباً بالحكمة اللفظية المحكمة والإيجاز الشديد وشيء من النثرية ترد هنا وهناك فيه، يضاف إلى ذلك أن الموسيقية تضمن للشعر اليوم ما يتوق إليه من استثارة العواطف القومية في الجماهير الكبيرة، ولذلك نخسر خسارة كبيرة حين نتخلى عن الرومانتيكية ونعتنق اتجاهات إيليوت أو ياوند في الشعر لأن هؤلاء المعاصرين في الغرب يزدرون العاطفية والوضوح والموسيقى ازدراء ملحوظاً ولعل معهم الحق في أن يزدروا ما يشاؤون ما دام ذلك لا يضر أوطانهم ولا يمس قضاياهم القومية، أما نحن فإن تقليدنا لهم في هذا الازدراء يسيء إلينا ويعرقل تحررنا الاجتماعي، وإننا لنكون ضعفاء الرأي لو تخلينا عما نحتاج إليه لمجرد أن نقاد أوربا يستهجنونه. فنحن في ذلك أشبه بمريض يتوقع شفاؤه على شرب الحليب، ومع ذلك يقاطع الحليب لأن جاره السليم يكرهه، إن لنا ظروفنا وحاجاتنا فمالنا وللغرب؟ وليقاطعوا الرومانسية ما شاءوا.. لماذا نقاطعها نحن وهي تضمن مصلحتنا؟

المشكلة وحلها:

والآن بعد أن استعرضنا المحاذير في تقبلنا للأدب الغربي على علاته، يصح أن نتساءل عن دواء هذه العلة، فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟ أنستغني عن الفكر الغربي ونسد دونه أبوابنا؟ أم الأحسن أن نتحاشى مزالقه بوسائل نتخذها؟ ولا أظننا سنختلف في أن الاستغناء عنه غير ممكن ولا مقبول، فهو غني جميل فيه كثير ونحن نخسر باطراحنا له خسارة كبيرة، وإذن فلا يبقى لنا إلا أن نتخذ لأنفسنا وسائل حماية تقينا ما في هذا الأدب الوافد من شرور لتصفو لنا مزاياه وفوائده.

والواقع أن هناك طرقاً كثيرة تتحاشى بها الأمم أن تفقد شخصيتها في غمار ما تترجمه من آداب الأمم الأخرى، ولن نذهب بعيداً في التماس هذه الطرق، فإن تاريخنا العربي يعطينا درساً فيما نستفيد منه، فقد جابهت الأمة العربية عبر تاريخها عصر ترجمة مشهور هو عصر المأمون وما بعده، وما زال في وسعنا أن نتابع خطى أجدادنا العظام في هذا السبيل، ولسوف نجد أن قانونهم الأول كان الانتقاء: كانوا يقبلون آثار الأمم المتحضرة الأخرى وينتقون منها ما يلائم الحاجة العربية والظروف القائمة، وهكذا أقبلوا على ترجمة الفلسفة اليونانية في تعطش ولهفة ولكنهم حذفوا منها كل ما يتعلق بالشرك وتعدد الآلهة، ونراهم يترجمون عنهم الرياضيات والمنطق، غير أنهم تركوا المسرح الإغريقي فلم يرد في سجلاتهم ذكر سوفوكليس وبوريديس وارستوفان على شهرتهم في الفكر الإغريقي، وكان الأساس الذي يرتكزون إليه هو مصلحة الأمة العربية، لا مقاييس الشهرة في أوربا، ولا نجدهم قد قلقوا مما يمكن أن يقوله عنهم الغربيون، فلقد كانوا أفراد أمة عظيمة تثق بنفسها وبمواهبها وإنتاجها، فمقاييسها الشخصية هي المقاييس، ومصلحتها العربية فوق كل مصلحة،

وإذن فلم لا يكون هذا هو قانوننا اليوم أيضاً؟ لماذا نترجم كل ما هو مشهور في أوربا دون نظر إلى مقاييسنا واحتياجاتنا؟ إن علينا أن نخضع كل ما نترجمه عن الغرب لعملية تشبه "التعريب" على نحو ما فعل أجدادنا، ولسنا نقصد بالتعريب ما يقصد به اليوم من تحريف في اللغة والأفكار على هوى المترجم، وإنما نريد أن يصبغ الأثر المترجم بالروح العربية، كما صبغ أفلاطون وأرسطو من قبل فما أوضح الفرق بين أفلاطون كما في الفكر العربي، وأفلاطون الإغريقي، إن القارئ يكاد يحس أحياناً أنهما فيلسوفان لا فيلسوف واحد، ولم ينشأ ذلك عن تحريف أنزله العرب به وإنما ينتج من أن المترجمين العرب قرأوه قراءة عربية الطبيعة متأثرة بالتراث القومي والذهن اللغوي للأمة، وقد توسعوا في الجوانب التي تهمهم من أفلاطون فوقفوا عندها ونبذوا ما عداها، وبذلك أصبح أفلاطون عربياً على وجه ما، ومن أبسط صور هذا أنهم قالوا في تسميته "أفلاطون" فقلبوا التاء طاء، وكانت لهم شبه قواعد في نقل الأعلام وتقريبها بحيث يستسيغها اللسان العربي.

والواقع أن الأمم القوية الشخصية إنما تهضم ما تأخذ وتعيد بناءه وبذلك تترك طابعها، وما نراه اليوم من أسلوبنا في ترك أذهاننا نهبة للفلسفات الوافدة فهو ولا شك مظهر من مظاهر السلبية التي صارت إليها الأمة العربية، ولولا هذه السلبية لم نكن مستعمرين.

يضاف إلى ذلك أن أسلافنا العظام لم يكتفوا بالتعريب وإنما قدموا الترجمات للقراء العرب محفوفة بالحواشي والتعليقات المجزية بحيث يلوح وكأنهم كانوا يمتحنون الآراء الوافدة على محك الذهن العربي، وكانوا يضيفون إلى الأصل الكثير من عندهم يجعلونه في مقدمة الكتاب، فكان القارئ العربي يقرأ الترجمة ويقرأ بعدها رأي المفكرين فيها، وكان المفكرون بذلك يوجهون الأمة كلها، وهذا الأسلوب في الترجمة يجعل الأصل الغربي أغنى، ونحن على يقين من أن ت.س. أيليوت، وجان بول سارتر وسواهما يكتسبون أبعاداً جديدة من الخصوبة والإيحاء حين تمر على آثارهم الروح العربية القوية الشخصية الواثقة بذاتها، وإذ ذاك يكون عطاؤهم لأمتنا أعمق وأغزر.

ومن الوسائل الحديثة التي نستطيع أن نتخذها لننجو من مزالق الفكر المترجم ألا نقدم المترجمات إلا وهي مسبوقة بمقدمات ضافية تكتبها أقلام عربية رصينة متمكنة من الأدب العربي ويكون هدف هذه المقدمات أن تشرح للقارئ العربي معاني هذا الأدب الوافد شرحاً وافياً يجعله يتذوقه حقاً، كما أنها تشرح للقارئ صلة هذا الأدب بحياة الغرب وتيارات الفكر فيه، ويأتي بعد ذلك جانب من المقدمة أخطر وأهم وهو دراسة الأثر الغربي من وجهة النظر العربية، فإذا كان فيه خروج على تقاليدنا الاجتماعية أو الأدبية وقفت عنده وناقشته وفندته وأثبتت بإزائه المفهوم العربي على أساس نظرتنا القومية الحديثة بكل ما فيها من تقدمية وتحرر فكري، وإذا وجدت اللغة في الأصل تخالف اتجاهات لغتنا درست ذلك وبينت ما فيه من إمكانيات قد نستطيع استخدامها في لغتنا إذا ما رضيها الجمهور المثقف العام، وبمثل هذه المقدمات يغتني الأثر الأدبي، ويكتسب قارئنا ثقافة واسعة جديدة فضلاً عن اغتنائه بالاستقلال الفكري والثقة بالنفس.

وأما أن تقدم آداب الغرب بلا مقدمات فإن ذلك يبلبل قراءنا ويزيدهم جهلاً بالفكر الوافد، لا بل إنه قد يسلم أذهان بعض القراء إلى الغرور والسطحية لأنه يساعد القارئ على حفظ الأعلام الغربية دون فهم، وتكاد هذه الظاهرة تكون ملحوظة عند طائفة من أدبائنا الناشئين.

ولابد لنا من أن نقول كلمة عن اللغة، فإن الترجمة العربية من بلاغة وقواعد وتراكيب، وذلك على شرط سلامة الجو في الأثر المترجم. والحق أن نقل أجواء الأدب من لغة إلى لغة لا يقتضي إطلاقاً أن تستعمل اصطلاحات اللغة الأصلية وأساليبها، ولذلك فإن من الخطأ أن يقع المترجمون في ترجمات حرفية: ترجم أحدهم هذه العبارة: Reason.Why فجعلها كما يلي "السبب لماذا" وكانت عنواناً لكتاب ديني، وما من شيء يقتل الآثار الأدبية مثل هذه الحرفية التي شاعت لدى طائفة من المترجمين، وما الحرفية في الواقع إلا استسلام المترجم إلى ذهن المترجم عنه استسلاماً أعمى، فهي إذا تأملناها لا تسيء إلى اللغة العربية وحدها، وإنما تشوه فوق ذلك جو الأدب المترجم أفظع تشويه، فكأنها تسد باب الذهن العربي بإزائه، وبذلك تخسر الجهد والوقت وفرصة تستفيد منها الأمة العربية من آداب الأمم الأخرى.

              

 (1) ترجمة شخصية عن كتاب غوبو

ASketch of Morality Indipendet of Obligation or Sanction  وهو مترجم ترجمة رائعة إلى العربية بقلم الأستاذ سامي الدروبي ويؤسفني ألا تكون ترجمته بين يدي الآن.

(2) كتاب نيتشه الممتع وهو فيما أعلم غير مترجم إلى اللغة العربية.

The birth of the tragedy from the spirit of music

(3) ترجمتي عن كتاب Auqestine ولا أظنه مترجماً إلى العربية the Confession of st.

(4) بيت ابن الغرض: ومعنى وراء الحسن فيك شهدته     به دق عن إدراك عين بصيرتي.