جنون العبقرية؟!
جنون العبقرية؟!
محمد محمود كالو
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
الجنون : هو ذهاب العقل أو فساده ، وإنما يعرف قانون الجزاء الجنون بقوله : إنه حالة اضطراب عقلي تسقط عن الشخص المسؤولية الجنائية المترتبة على سلوكه ، وذلك على أساس من أن المسؤولية تفترض القدرة على التمييز بين الخير والشر ، وعلى تكييف السلوك وفقاً لأحكام القانون .
وعلماء القانون يركزون على حالة المجرم عند ارتكاب الجريمة ، متسائلين هل كان مالكاً قواه العقلية أم لا، من غير اكتراث لحالته قبل الفعل أو بعده ، وهذا هو مجنون المارستان .
والجنون فنون، فهناك جنون البقر : وهو مرض خطير ظهر في الفترة الأخيرة في بريطانيا .
وهناك جنون الارتياب : وهو اضطراب عقلي يتميز المصاب به بخصال أبرزها الشك، والارتياب ،والحسد ، والشعور بالاضطهاد، وبإساءة فهم أية ملاحظة أو إشارة أو عمل يصدر عن الآخرين حتى ليتوهم المرء أن ذلك كله لا يعدو أن يكون سخرية به أو ازدراء له .
ومن المصابين بجنون الارتياب من يتوهم أنه عليم بكل شيء ، أو نبي عظيم ، أو مخترع كبير ، أو شاعر لا يشق له غبار !
وإذا سمع المرء أن رجلاً لا يفرق بين السروال والقميص ، ولا بين الجمعة والخميس، قال : إنه مجنون .
وهناك جنون الغرام ، حتى دعي قيس بن الملوح الذي عشق ليلى العامرية بمجنون ليلى .
وإذا شاهد رجلاً يعتزل في كوخ ، أو ينفرد في غار ولا يقبل على الدنيا قال : إنه مجنون .
ولكن الإمام الغزالي _ رحمه الله تعالى _ عاف الدنيا ، وحبس نفسه في أصل منارة الجامع الأموي بدمشق ، فهل كان حجة الإسلام مجنوناً ؟ أبداً .
وإذا سمع الإنسان أن أحداً نسي اسمه، قال عنه : إنه مجنون ، ولكن الجاحظ نسي كنيته ، وطفق يسأل عنها ، حتى جاءه رجل بالبشارة بلقياها ، وقال له: أنت أبو عثمان ! فهل كان عبقري الأدب مجنوناً ؟
ونيوتن ( 1643 – 1727) : الرياضي و الفيزيائي الإنكليزي ، يعتبر أبرز وجوه الثورة العلمية في القرن السابع عشر وأحد أعظم العباقرة في تاريخ العلم الحديث ، وضع النظرية الجسيمية في الضوء ، وقانون الجاذبية العام ، وقوانين الحركة .
كانت له في داره قطة كلما أغلق عليه بابه ، وقعد إلى كتبه ومباحثه ، أقبلت القطة تخرمش الباب بأظفارها ، فتشغله عن عمله ، حتى يقوم ويفتح لها الباب ، فلما طال عليه الأمر ، كدَّ ذهنه فاهتدى إلى المَخْلَص، ففتح في أسفل الباب فتحة تمر منها القطة، فاستراح بذلك من شرها ، ثم إنها ولدت ثلاث قطيطات ففتح لكل واحدة منها فتحة، لم يستطع هذا العقل الكبير ، الذي وسع قانون الجاذبية ، أن يتسع لحقيقة صغيرة ، هي أن الفتحة الكبيرة تكفي القطة الأم وأولادها !
فهل كان نيوتن مجنوناً ؟! كلا ولكنه جنون العبقرية !
وأمبير ( 1775 ـ 1836 ) : الرياضي والفيزيائي الفرنسي ، يعتبر أبا الكهرطيسية أوالمغنطيسية الكهربائية ، ابتكر جهازاً لقياس تدفق التيار الكهربائي ، ومن أجل ذلك سميت على اسمه وحدة قياس شدة التيار الكهربائي ، وقد كانت تعرض له مسائل في الطريق ، فلا يجد قلماً لها وورقاً ، فحمل معه حواراً (طباشير) فكلما عرضت له مسألة ورأى جداراً ، وقف فخط عليه ، وذات مرة رأى عربة واقفة ، فجعل يكتب عليها أرقامه ورموزه ، واستغرق فيها ملياً حتى سارت العربة ، فجعل يعدو خلفها وحواره بيده، وهو لا يدري ما يصنع ! فهل كان هذا العالم مجنوناً ؟! أبداً .
أما صاحب ( المعلمة التركية ) دائرة المعارف التركية المشهور » أمر الله أفندي « كان يركب البحر كل يوم ما بين داره في (اسكدار ) وعمله في (اسطنبول ) فركب ذات يوم، وكان إلى جنبه موظف كبير في السفارة البريطانية ، وكان في جيب البريطاني فستق حلبي، وكان » أمر الله أفندي « مشغول الفكر ، فجال بيده وهو لا يشعر ، فسقطت في جيب البريطاني ووقعت على الفستق ، فأخرج منه فأكل ، وظن البريطاني أنه مزاح فسكت ، ولكن الشيخ عاد حتى كاد يستنفد الفستق كله ، فأراد البريطاني أن يتلطف بالشيخ عسى أن يكف ، فسأله : كيف وجدت الفستق ؟
قال : عال ! وعاد إلى أكله وتفكيره .
فقال له : ولكن ليس في جوار الدار مثله فأشتريه للأولاد ، وإذا دخلت عليهم بلا فستق بكوا ؟
قال الشيخ : عجيب ! وعاد إلى أكله وتفكيره .
فقال له : أفلا تتكرم بإبقاء شيء لهم؟
قال : بلى بكل امتنان ، وأخرج طائفة من الفستق ، فدفعها إلى البريطاني وأكل الباقي ! فهل كان صاحب هذه المعلمة مجنوناً !
ولما ولي وزارة المعارف ، وأعطي سيارة ، فكان كلما بلغت به السيارة المنـزل ، وفتح له السائق الباب ، أخرج كيسه وسأله : كم تريد ؟
فيقول له : ياسيدي هذه السيارة لمعاليك ، فيتذكر ويقول : طيب .
وسألته امرأة ذات يوم ، وكان يمشي أمام داره : أين دار وزير المعارف يا سيدي ؟
فقال لها : ومن هو وزير المعارف الآن ؟
وعبد المسيح وزير ، كان من كبار موظفي وزارة الدفاع في العراق ، دخل عليه زائران من أحبابه فدعا لهما بشاي ، وتدفق الحديث وهو يشرب كأسه ، فلما فرغت وضعها وتناول كأس صاحبه ثم ثلَّث بكأس الآخر ، ولما جاء الفرَّاش ليأخذ الكؤوس قال لصاحبيه : سألتكم بالله ، هل تشربون كأساً آخر ؟!
أفكان هؤلاء مجانين ، أما في رأي العامة من الناس : فنعم !
ولكنه جنون العبقرية ، وقد قال الشاعر :
وكل الناس مجنون ولكن على قدر الهوى اختلف الجنون
حقاً إن الجنون فنون !