يهود دمشق
يهود دمشق:
نظام الحاخام خانة
شمس الدين العجلاني*
الحلقة الأولى
في بيان أوصاف الذات التي تنتخب للحاخام باشية
وصورة انتخابهم وتحليفهم
تعاطفت السلطنة العثمانية مع اليهود الناجين من المذابح الإسبانية و فتحوا لهم البلاد كلها على الرحب والسعة ، وبالفعل وصلت أفواج اليهود المهاجرين و المرحلين من الأندلس للبلاد الإسلامية وخاصة العربية منها وأقاموا وتمتعوا بالمواطنة كاملة و بقدر كبير من الاستقلال الذاتي والإداري والطائفي ، واتسم الموقف الرسمي منهم بالتسامح، (لقد تعرض اليهود إلى الاضطهاد الديني بعد انقسام المجتمع الأوروبي إلى كاثوليك و بروتستان ، نتيجه حركات الاصلاح الديني ، والحروب الدينية في العصور الحديثة . ويخل في إطار الاضطهاد الديني ، الحملات العنيفة التي شنتها المسيحية المنتصره في اسبانية و البرتغال على المسلمين و اليهود فيها ، لقد كان هنالك طرد متتال لليهود من قشتالة والبرتغال في عام 1492 ومن صقلية في عام 1493 ، ومن نابولي في سنه 1509 ، ومن ميلانو في 1597 ، ولقد انتقل هؤلاء إلى الدولة العثمانية ، وافريقية الشمالية - د . ليلى الصباغ ) فخلال الحكم العثماني ومن ثم الانتداب الفرنسي والحكم الوطني ، لم تتخذ أية إجراءات رسمية تناهض اليهود كطائفة أو تميز بينهم وبين سائر السكان. في الوقت ذاته كان اليهود يلاقون ألواناً متعددة من الاضطهاد والتنكيل والتشريد والمذابح في معظم الدول الأوروبية..
كان اليهود في ظل الخلافة الإسلامية العثمانية محل اهتمام سلاطينها وحظوا بكثير من التشريعات التي تكفل لهم حقوقهم، ويتضح هذا في محاولات السلطان مصطفى الثالث الإصلاحية (1757-1789) ومرسوم السلطان عبد الحميد الصادر يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1839 ومرسومه الصادر عام 1856.
وتكاد المصادر المختلفة تجمع على أن اليهود قد تمتعوا بجميع حقوقهم وحرياتهم وأن علاقاتهم مع المسلمين كانت طيبة للغاية، وأنهم لم يشهدوا ذلك "الغيتو" الذي شهده إخوانهم في الغرب. بل لقد قرر البعض أن الفكر اليهودي والفلسفة اليهودية وحتى القانون اليهودي ذاته قد تم تصنيفها وتشكيلها تحت تأثير الحضارة العربية الإسلامية. كما تطورت اللغة العبرية في قواعدها وألفاظها طبقاً للغة العربية، بل استخدم اليهود اللغة العربية في شتى الأغراض الدينية والدنيوية على عكس موقف اليهود من اللاتينية في أوروبا.
فحين سقطت غرناطة عام 1492م آخر معاقل المسلمين في الأندلس لم يجد يهود الأندلس إلا البلاد الإسلامية العربية ملاذا آمناً لهم من الإبادة الجماعية،
إن مدن الشام كان فيها جاليات ضخمة من اليهود تحت
حكم المسلمين و قد أصبحت قفراء منهم بعد استيلاء
الصليبيين عليها ، لقد نعمت
الطوائف الدينية بقدر هائل من الحرية التي كفلها
الإسلام ، فمع قيام الدولة
الفاطمية في مصر والشام تمتع اليهود بحرية كاملة من
خلال طوائفهم، وأصبح لكل طائفة
رئيس مستقل، فصار لليهود في القاهرة والقدس وكل
المدن التابعة للفاطميين رؤساء،
وصار لليهود عموما رئيس مستقل لقب بأمير الأمراء،
وخُولت إليه مهمة تعيين أحبار
اليهود في مصر والشام، وكتب له توقيع برئاسة سائر
الفرق اليهودية في جميع أنحاء مصر
والشام .
وفي ظل التسامح الإسلامي الذي يعبر عن جوهر الإسلام تمتع اليهود
بحرية واسعة في مباشرة نشاطهم الاقتصادي فاحتكروا
التجارة بين الشرق والغرب،
واتخذوا من المدن الإسلامية في شرق البحر المتوسط
·· نقاط ارتكاز أساسية حيث باشروا
مهامهم مع المدن الأوربية، وما كان لهم أن يحققوا
ذلك إلا بفضل تسامح المسلمين معهم
في شرق العالم وغربه·
الحاخام :
في عرف اليهود الحاخام هو مفسر الشريعة ومعلمها في آن واحد ، و للحاخامات اليهود حضورهم وتداخلهم الدائم في شتى الأمور الدينية والدنيوية فلا يقتصر عملهم على الشأن الديني فقط فالحاخاميه مركز قوة من الدرجة الأولى في حياة الطائفة الموسوية حيث تمتد سلطتها إلى نواحٍ عديدة من حياة المواطن اليهودي، كما أنها تتمتع بصفة قانونية رسمية. وقد ساهم الحاخامات على مر العصور في رسم الملامح السياسية البارزة لليهود ، وأصبحوا المحرك لها، ومفاتيح الكثير من القضايا الدنيوية ...وقد اولت الشريعة اليهودية الاهتمام البالغ للحاخامات و رفعت مكانتهم، وأحاطتهم بالقداسة والعصمة.
نظام الحاخام خانة :
سن العثمانيون نظاما خاصا للطائفة الموسوية عرف بنظام الحاخام خانة ، وورثت اغلب الدول العربية هذا النظام الذي أعطى اليهود حيزا كبيرا من الحرية في شتى مجالات الحياة ، أعطى هذا النظام الطائفة اليهودية شخصية مستقلة وخصها بامتيازات قانونية ومالية، و سمح لليهود بحرية اختيار رؤسائهم الروحيين، وفرض الضرائب، وحل الخلافات فيما بينهم، وكانت المحكمة اليهودية تحكم بينهم حسب الشريعة اليهودية. ولم يحدث أدنى تدخل بالأموال التي تجمع لمؤسساتهم الخيرية والتعليمية، وتمتعت مدارسهم الطائفية باستقلال ثقافي وذاتي . وكان الحاخام باش هو ممثل اليهود في كل أمر أمام الحكومة.. و ظل يعمل في نظام الحاخام خانة في الدول العربية ومنها سورية إلى ما بعد دخول المستعمر الفرنسي وزمن الحكم الوطني ..
أصدرت السلطات العثمانية بتاريخ 21 من آذار عام 1865 النظام الخاص للطائفة اليهودية التي تعيش ضمن أراضي السلطنة العثمانية ، طبعا بما فيها البلاد السورية ، وبقي هذا النظام مطبقا في سورية إلى ما بعد خروج العثمانيون من سورية بسنوات عديدة .. واشترط هذا النظام على من يسمى حاخام تمثيل كافة الطائفة اليهودية وتنفيذ تعليمات و أوامر الدولة العليا،كما اشترط على الحاخام أن يكون من تبعية الدولة العلية أبا عن جد ولم يسبق له أن ارتكب أي فعل شنيع ومعروف عنه حسن تنفيذ المهمات التي تكلفة بها الدولة وان يكون صحيح الجسم وسنه يتراوح بين الثلاثين و السبعين من العمر إلا أنه يمكن له تجاوز السبعين أثناء فترة تسميته حاخام على أن يكون صحيح العقل والجسم فحينها يمكن له الاستمرار في الحاخامية ، وعندما يشغر منصب الحاخام ترشح خمس شخصيات لهذا المنصب تنطبق عليها المواصفات المذكورة أعلاه بمعرفة المجلس الجسماني و الروحاني ويتم اعداد قائمة بالأسماء المرشحة وتعلق على احد جدران المجلس الروحاني ويختار أعضاء المجلس الروحاني بطريقة سرية احد هذه الأسماء ويضع كل عضو اسم من اختاره في صندوق اعد لهذه الغاية وعند انتهاء عملية الانتخاب يفتح رئيس كتاب سر المجالس الروحانية والجسمانية الصندوق علنا وتعد أوراق الرأي وإذا ظهر نقص في الأوراق ينادى علنا بان يتقدم للانتخاب من لم يدل بصوته وذلك ثلاث مرات علنا بحضور المجلس فإذا لم يتقدم احد يصرف النظر حينها عن النقص في الأصوات ومن ينال الأكثرية المطلقة للأصوات يكون هو المنتخب لمأمورية الحاخام باشية و لكن إذا لم تحصل هذه الأكثرية فيتم اختيار الشخصين اللذين حصلا على أعلى الأصوات ويتم إعادة الانتخاب بينهما وإذا لم يحصل احدهما على الأكثرية المطلقة فتجري عليهما القرعة في ذلك اليوم وذلك المجلس علنا لترجيح واحد منهما وعندما تنتهي الانتخابات يتم تحرير محضر يوقع عليه ويختم من طرف الأعضاء ويقدم إلى الباب العالي بواسطة القائمقام وإذا وافق ذلك إرادة الحضرة السلطانية السنية يرسل الطلب رسمياً من الباب العالي إلى الذات المنتخبة لتنصب وتتعين رسميا .
وبعد حصول موافقة الباب العالي على تسمية الحاخام يقسم الحاخام بحضور القائمقام والمجلسين الروحاني والجسماني على ان يخدم الدولة العليا والطائفة الموسوية و يطبق نظام الحاخام خانة .
وظائف الحاخام باشي:
الحاخام باشي مسؤول عن تطبيق نظام الحاخام خانة ومتابعة تنفيذه ، وكافة الموضوعات والقضايا التي تعرض أو تقدم إلى الحاخام مباشرة أو تحال إلية من الباب العالي يحيلها على المجلس الجسماني لدراستها واتخاذ القرار المناسب بها ويحرر بها محضرا ويصادق علية ، ولا يجوز للحاخام باشي أن يتأخر عن المصادقة على المضبطة التي تنظم في المجالس الروحانية أو الجسمانية مالم يكن القرار المعطى على مادة من المواد مخالفاً لنظام الحاخامية كذلك يمكنه أن يضع تلك المادة في موقع المذاكرة بحضوره مجدداً إذا كانت مخالفة للنظام لأجل إخراج ذلك على الظاهر .
عند وقوع أمرا مستعجلا لا يمكن تأخيره إلى يوم انعقاد المجلس الجسماني او الروحاني فيكون الحاخام باشي مأذوناً بأن يأخذ مسؤولية تلك المادة على نفسه ويراها أو يبادر لإجراء ما يقتضي لها وبعد ذلك يحيلها إلى المجلس المختص للمصادقة عليها و تسجيلها في دفتر المضابط .
إذ ارتكب أي من أفراد الطائفة الموسوية مخالفة لنظام الحاخامية أو ارتكب فعلا مخالف للقانون وعلم بذلك الحاخام باشي فيجب علية إحالته للمجلس المختص و محاكمته و تسجيل ذلك بمضبطة مختومة من طرف أكثر أعضاء ذلك المجلس .
إذا خالف احد أعضاء المجالس الجسمانية أو الروحانية أو العمومية نظام الحاخام خانة أثناء انعقاد هذه المجالس فان الحاخام يلفت نظر المخالف لذلك مرتين و يطلب منه أن يحافظ على النظام ثم في المرة الثالثة يراجع بذلك أيا كان من المجالس الروحانية والجسمانية التي ينتسب لها المخالف ويطلب تبديله بواسطة الأدلة التي يقيمها عليه .
لا يجوز أن يرشح أحد من أولاد الحاخام باشي ولا أحفاده أو أصهاره لعضوية احد مجالس الملية إلا إذا كان للحاخام باشي المنتخب أقارب وأولاد وأحفاد موجودين في الخدمة قبل انتخابه فلا يجوز عزلهم بل يبقون في خدمتهم كما كانوا ما لم تظهر بحقهم شكوى تستحق الاستماع .
كما ان اتهام الحاخام باشي بأحد الأفعال المشينة أو مخالفته للنظام ،هو من صلاحية المجلس الروحاني أو المجلس الجسماني بمعنى أنه إذا وقعت بحقه شكوى من طرف أحدى الهيئات أو أفراد الملة فتعرض على أحد المجلسين المذكورين ويحرر بها محضرا ويجتمع أعضاء المجلسين الروحاني والجسماني خلال 15 يوما برئاسة رئيس المجلس الروحاني ويتم مناقشة الشكوى المتعلقة بالحاخام باشي فإذا تبين للمجتمعين سوء حال الحاخام باشي ولزوم إعفائه يتم تحرير مضبطة يوقع عليها ثلثي الأعضاء على الأقل تبرز للحاخام ويكون حينئذ مجبوراً أن يقدم تقرير استعفائه إلى الباب العالي وإذا امتنع عن ذلك يعرض الأمر حينئذ على المجلس المختلط ويجري إيجابها .
أما الراتب الشهري للحاخام فانه يحدد من قبل المجلس العمومي، ولم يتدخل نظام الحاخام خانة بتحديد هذا الراتب ،بينما الزم هذا النظام صندوق الملة بتجهيز البيت المخصص لإقامة الحاخام باشي بالمفروشات وتزييناته وسائر لوازمه وتسلم للحاخام بموجب دفتر ولذلك عند ما يقع استعفاء من الحاخام باشي أو يفصل بصورة أخرى يسلم الأشياء المذكورة بتمامها إلى خلفه .
عند ما يستعفي الحاخام باشي أو يعزل يجتمع المجلس الروحاني والجسماني وينتخبا ذاتاً للقائمقامية من أرباب الاقتدار لأجل رؤية أمور الملة وخصوصياتها لحين انتخاب خلفا له ..
الحلقة ( 2 )
تعدادهم وأماكن تواجدهم
مقدمة:
يمر العالم اليوم بمرحلة الانتقال من مجتمع الثورة الصناعية إلى مجتمع المعلومات، وقد أدركت بلدان العالم أجمع أهمية دعم وتنمية قطاع المعلومات،فلا نشاهد اليوم دولة تضن بأية جهود في هذا السبيل، حتى لقد بنيت استراتيجيات للانتقال إلى مجتمع المعلومات في كل بلد على حدة، ثم على مستوى التجمعات الكبرى، مثل الاتحاد الأوربي الذي صاغ سياسته الخاصة بالانتقال إلى مجتمع المعلومات، رغم وجود استراتيجيات وطنية، ورغم وجود خبرات كبيرة لكل بلد أوروبي وحده، وإمكانات مادية هائلة،ويؤسفنا أن نتذكر أن الناتج الإجمالي القومي للبلدان العربية بما فيها البلدان المنتجة للنفط هو أقل من ناتج دولة صغيرة مثل هولندا، وهو لايتجاوز ثلث ناتج إسبانيا أو خمس ناتج إيطاليا، ورغم ذلك فإن هذه البلدان القوية اقتصادياً والتي تمتلك من الخبرات العلمية والتكنولوجية ما لا يمكن مقارنته بما نملك في البلدان العربية،هذه البلدان تشعر بحاجتها إلى التعاون في مجال المعلومات، رغم أن هذا التعاون يبدو أصعب بكثير من تعاون العرب في هذا المجال، ففي كل اجتماع أوروبي يضطر المجتمعون إلى استخدام الترجمة الفورية للتفاهم فيما بينهم..؟
برغم ذلك وبرغم أن العالم يعيش اليوم ثورة معلوماتية علمية حديثة وشاملة وذات علاقة جدلية بالوثيقة وعملية التوثيق ،لان الــوثيقة كانت ولا تزال مصـدرا أصليا للمعلــومات التي تــرتكز عليهــا الدارسات والبحوث العلمية والتاريخية في مختلف المجـالات ..
و اقتناعاً منا بأن الوثائق تبقى الأداة الأساسية للحفاظ على دفاتر المعرفة البشرية وانتشارها وإيماناً بأن الدور الذي تقوم به الوثائق يمكن تعزيزه عن طريق تبنّي سياسات من شأنها تشجيع استعمال الكلمة المطبوعة على أوسع نطاق..
و لان التوثيق جزء مهم في عملية الوقاية باعتبار التوثيق خير شاهد على التاريخ.و لان التوثيق هو ذاكرة الشعوب والعمود الفقري لأي عمل أو مشروع نسعى لإقامته ..ولان الوثائق هي مادة مهمة للتأريخ والبحث..وهو السلاح الفكري الذي يجب علينا إتقان استخدامه، و لان الكلمة الموثقة الصادقة هي الصورة الحقيقية والشهادة الحقيقية والتي لا يمكن نكرانها ، فالمعلومة الصحيحة الموثقة تؤكد الحق ، والكلمة المكتوبة هي سر التاريخ وسر الخلود ، والكلمة المكتوبة هي التاريخ وهي الوثيقة ورابط الإنسان الأهم بوطنه وتاريخه وهذا ما يجعلنا نسعى ونطالب ونعمل من اجل التوثيق والذي يعتبر أحد أسلحتنا التي نشهرها بقوة في سبيل الدفاع عن وجودنا وحضارتنا ..
وإزاء ذلك نحاول أن نروي قصصا وحكايات عن هؤلاء اليهود الذين عايشناهم وكانوا جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع السوري ..
كان ولم يزل موضوع اليهود في سورية موضع اهتمام الباحثين والرحالة والقراء في آن واحد ، فمنذ مئات السنين والرحالة العرب والأجانب يتحدثون عن المجتمع السوري ويصفون المدن والقرى والشوارع ويخصون اليهود باهتمامهم في كل ذلك ، وفي العصر الحديث ظهر عدد من الدراسات تناول فيها الباحثون أوضاع اليهود في سورية و دمشق تحديدا ، وكتبوا عن عاداتهم و لباسهم ومعتقداتهم و .. وتحدثوا أيضا عن جوبر وتادف وأقدم كنيس في العالم .. والآن نحاول في ( الأزمنة ) فتح ملف عن يهود دمشق أملين أن نعطي المعلومة الدقيقة معتمدين على ذلك بما لدينا من صور ووثائق تعود لسنوات طويلة ، والى أحاديث وحكايات العديد من أهل دمشق ممن عايشوا اليهود في الأسواق التجارية أو الأحياء والأزقة ، والى مشاهدات كنت شاهدا عليها . راجيا ممن يريد الاستشهاد بما نكتب أن يشير إلى المصدر حفاظا على جهد استمر لسنوات عدة وضمن الحقوق الفكرية ..
تعدادهم :
في الغالب يهود سوريا هم عبارة عن جماعتين، قدمت الأولى من الأندلس مبعدة مع العرب المسلمين منها، وسمي هؤلاء (السفارديم)، وكانوا يتكلمون فيما بينهم لغة (اللادينو) ثم أصبحت العربية لغة مشتركة بينهم وبين اليهود المحليين المتوطنين في بلاد الشام منذ حقب بعيدة ، وهذه المجموعة اقرب إلى العرب من المجموعة الثانية التي قدمت مع بداية القرن التاسع عشر من أوروبا الشرقية مع ظهور نظام الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية، وهم اليهود الأشكنازيون ويتكلمون لغة (البيدش ) ، ومع نهاية القرن التاسع ذابت الفوارق بين المجموعتين.
أقام يهود سوريا بشكل رئيسي في حلب ودمشق ثم القامشلي ، ولا اعتقد أن هنالك إحصاءات منشورة تشير إلى تعدادهم بشكل دقيق في المدن السورية ، فالمعلومات عن عددهم مصدرها بشكل عام الرحالة، وعلى أية حال فإن الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي الذي زار المنطقة في القرن الثاني عشر الميلادي قدم إحصائية لعدد اليهود في كل مكان زاره وقد وجد في دمشق ثلاثة آلاف يهودي.في حين بلغ تعدادهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر خمسة ألاف يهودي من أصل عدد سكان دمشق البالغ ما بين 125 ألف و 130 ألف نسمة حسبما يذكر رافالوفيتش الطبيب الروسي الذي أرسل إلى الشرق.. و يذكر الرحالة بيكنجهام الذي زار دمشق عام 1816 أن تعداد أهل دمشق مائه ألف نسمه منهم خمسه عشر ألف يهوديا ، و نعمان قساطلي يذكر أن تعداد اليهود في دمشق 5400 يهوديا من أصل عدد سكان دمشق البالغ 142757 نسمه وذلك عام 1878 م .
وقدر عددهم عام 1900 بخمسين ألفا عندما شرع كثير منهم بمغادره سورية إلى الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية، نتيجة إغراءات بحظ أوفر و نجاحات أكثر ، و بلغ تعدادهم في سورية عام 1925 زمن الانتداب الفرنسي وقيام دولة سورية 29612يهوديا ، قطن منهم في مدينة حلب 6524 ودير الزور 20 ولواء اسكندرون 323 ودمشق 6291 و حوران 3 وحمص 16451 وحماة لم يقطنها آنذاك أي يهودي ، بينما قدر عددهم عام 1932 ب 25 ألف يهوديا ، وفي عام1943 قارب عددهم ال 30 ألف يهوديا ، ولكن بحلول العام 1945اضحى عدد اليهود (15) ألفاً تقريباً، ثم تجاوز عددهم عام 1956 ال 33 ألف ً أقاموا بشكل رئيسي في دمشق وحلب ومن ثم القامشلي .
وقد قدرت الأنجلوأميركية عام 1946 أعداد اليهود في البلاد العربية بنحو 700 ألف أي 5 أو 6% من مجموع اليهود في العالم والذي كان يبلغ ما بين 16 و17 مليونا.
في حين يشير موقع الجزيرة نت على شبكة الانترنت أن تعداد اليهود في سورية عام 1950 يقارب ال 6000 ، وفي عام 1958 يقارب 5000 ، قي حين يقارب 4000 يهوديا في عام 1969 ، أما عام 1986 فقارب 4000 يهوديا ، وفي عام 1992 قارب 1200 يهوديا، أما آخر الإحصاءات اليهودية (2004) التي تتحدث عن عدد اليهود في العالم العربي فقد أشارت أن تعدادهم في سورية 250 يهوديا .
هجرتهم :
انخفض عدد اليهود الآن إلى العشرات، فقد شهدت دمشق هجرة واسعة لليهود في عقد التسعينيات لدى انطلاق مباحثات السلام في مدريد. حيث غادرها في عام 1993 حوالي 2500 يهودي من أصل حوالي 4500 يهودي سوري أغلبهم كانوا يعيشون في دمشق، تحت ضغوط خارجية، وينتشر اليهود الذين هاجروا من سورية بشكل رئيسي في الولايات المتحدة الأمريكية(زعيم الطائفة اليهودية السورية في نيويورك هو جاك أفيتال) والمكسيك وفنزويلا وقلة منهم هاجروا إلى إسرائيل وأسسوا هنالك منظمة مهاجري دمشق كما أسس يهود سورية في إسرائيل إتحاد مهاجري سوريا ويرأسه اليهودي السوري إلياهو حسون ..
..واليهود السوريين في المكسيك حسبما يقول عبد الواحد اكمير في كتابة المترجم ( الجاليات العربية في أمريكا اللاتينية ): هم المجموعة الدينية الأكثر تهميشا ورفضا من طرف المجتمع المكسيكي )، وان هجرتهم إلى المكسيك تمت بدعم من الرابطة الإسرائيلية العالمية ، ومن أشهر يهود دمشق في المكسيك هما الأخوان سليم و فرانسيسكو كوهن اللذان أسسا جمعية ( جبل سيناء ) لمساعدة اليهود ، وكانت هذه الجمعية تحت إشراف و مراقبة يهود دمشق ..
أما اليهود السوريون في الولايات المتحدة فيقول عنهم السفير السوري لدى واشنطن في لقاء مع تقرير واشنطن (يوم الاثنين 18 ديسمبر2006 (تحدث فيه عن السوريين الأمريكيين والدور الذي تقوم به السفارة لتقوية أواصر العلاقة بين أفراد الجالية ووطنهم الأصلي : هناك جالية يهودية سورية ضخمة في الولايات المتحدة لم تكن تحسب عادة في على أنها جزء من الجالية السورية. المكتب الوطني للإحصاء في الولايات المتحدة يصفها بأنها يهود أمريكان. هم عندما تذهب وتزورهم في بروكلين تجمعهم في منطقة أوشن باركواي وعددهم حوالي 110 ألاف شخص، تجد أنهم سوريون حتى النخاع، مفروشات منازلهم كلها موزاييك دمشقي، الطعام الذي يقدمونه كبه وتبوله وحمص وبابغنوج، ويتكلمون عن أنفسهم بأنا شامي وأنا حلبي، وهم يهود أمريكيون.)في حين يقول عنهم روبرت طوطل : ستسمع الجيران يدردشون بالعربية، وستجد الدكاكين تبيع سلعًا كـ"قمر الدين" والعدس والفول وغيرها من المأكولات المألوفة في المطبخ السوري.)هذا وقد وصلت أول موجة من المهاجرين السوريين إلى الولايات المتحدة عام 1893 خلال الحكم العثماني..
تعرض يهود سورية إلى العديد من الإغراءات و الضغوطات السياسية والنفسية من قبل إسرائيل و منظماتها وذلك لمغادرة سورية إلى الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية أو إلى إسرائيل ،كما لعب الظرف السياسي الذي تولد بعد حرب عام 1948 دورة في أحلام الهجرة اليهودية ،حيث تعرض اليهود السوريون إلى عنف جماهيري غير منظم كان وليدا للأحداث الدامية التي ارتكبت بحق العرب وخاصة الفلسطينيين. ففي مطلع كانون الأول 1947(إعلان نبأ قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين ) انفجر الوضع العام في البلاد و تعرض عدد من المعابد اليهودية والمحال التجارية إلى الاعتداءات من قبل الجماهير الغاضبة . وعلى الرغم من أن أحداً من اليهود لم يتعرض إلى أذى جسدي شديد ومباشر إلا أن الاهتياج العام ولّد عصفاً قوياً في ثقة الوسط اليهودي.
ولا يغيب عن ذهننا الخلفية الدينية المغرضه التي زرعتها بعض المنظمات اليهودية لدى بعض يهود سورية : ( ظهر في سورية نتيجة ، لوجود الجاليات الأوربية فيها على أنواعها ، تيارات فكرية جديدة ، انبثقت في صفوف الفئات الدينية غير الإسلامية ، المسيحية واليهودية . و بعض هذه التيارات كان لصالح المجتمع العربي الشامي ، مثل تيار الآداب العربية ، وانصرف المسيحيون بالذات لدراستها بعمق و تمعن ، ونشر المخطوطات العربية .. واخذ الصالح من مظاهر حضارته ، إلا أن بعضها الأخر كان وبالا على هذا المجتمع ، وهو بذر بذور التفرقة الدينية و الفكرية ضمن الطائفة الواحدة ، وخلق تيارات فكرية معادية لكيان المجتمع العربي الشامي ، و ترابطه ووحدته ، ويخص بالذكر العقيدة الكابالية اليهودية ، التي اتخذت طابعا قوميا ، والتي يمكن القول إنها البذرة العميقة للحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر - د. ليلى الصباغ ).
استمرت الاعتداءات على الطائفة اليهودية بعد كارثة عام 1948 ، حيث انفجرت قنبلة في كنيس يهودي بدمشق وتسببت في مقتل وجرح عدد من اليهود ، وختمت كلمة (موسوي) على البطاقات الشخصية لكل يهودي( ألغيت كلمة موسوي من البطاقات في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد ) و فرضت التقييدات على أموال اليهود ومنعوا من السفر ، وصودرت أملاك من هاجر منهم إلى خارج سوريه من مبدأ المعاملة بالمثل .ولكن لم يتعرض لهم احد في حرية ممارستهم لشعائرهم الدينية و بقيت دور عبادتهم مفتوحة .
قبل عامي 1947 و 1948 كان من المتعذر الفصل بين الطائفة اليهودية و أهل البلاد كون سورية تتمتع على مر العصور بالتسامح الديني ، لذا تغلغل اليهود في المجتمع الشعبي السوري وتكلموا لغته واخذوا الكثير من عاداته وتسموا بأسماء أهل دمشق وتكنوا بكنياتهم ، وفي الوقت نفسه حافظوا على تقاليدهم وعقائدهم ولغتهم التي كانوا يستخدمونها بشكل خاص في يوم السبت ، وقد شغلوا فيما مضى مناصب هامة في الدولة فكان منهم أصحاب البنوك،و الأطباء المرموقين و النواب في المجلس النيابي.. لكن الظرف السياسي والكارثة التي لحقت بالعرب من جراء تقسيم فلسطين ومن ثم قيام الكيان الصهيوني كان لهما الأثر الكبير على العلاقة بين يهود سورية وأهل البلاد ..ثم جاءت حرب 1967 لتفتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه فتضاءل عددهم إلى 6 الآف يهودي دمشقي. وخير دليل على كلامنا هذا أن المهاجرين المسلمين واليهود ( حسبما يقول ايغنازيو كليش ) إلى الأرجنتين في بدايات القرن العشرين ، نقلوا معهم عاداتهم و تعايشهم تحت سقف واحد فيشير إلى وجود جمعيات عربية تضم مهاجرين عربا من مختلف الطوائف بمن فيهم اليهود ، فالعلاقة بين يهود دمشق وأهل البلاد قبل بداية النزاع العربي – الإسرائيلي كانت علاقات طبيعية ودية لا يشوبها شائبة ..
ومن أشهر حاخاماتهم في العصر الحديث في دمشق خضر شحادة كباريتي و إبراهيم أبو حمرا (هاجر إلى إسرائيل ) الذي خلفه يوسف جاجاتي ، في حين اشتهر منهم الحاخام موسى أبو العافية والذي كان له اليد في جريمة قتل الأب توما التي شهدتها دمشق في عام 1840 ، حيث اتهم يهود دمشق بقتل أحد الرهبان الفرنسيسكان( الأب توما) وخادمه المسلم إبراهيم عمارة بعد أن تم اختطافهما ، ويقال أن الحاخام أبو العافية اسلم وأطلق على نفسه اسم محمد المسلماني،حين أعلن اعتناقه للإسلام أمام القاضي العثماني وخلع الرداء الأسود ولبس محلّه جبّة بيضاء ..؟
وقبل ان نسترسل في الحلقات القادمة عن يهود دمشق أود الإشارة إلى الجمل التالية التي وردت في رواية أعدائي لممدوح عدوان:
اليهود لم نعد نستطيع أن نفهمهم ، يهود يتبرعون للجيش العثماني ويدعون إلى التطوع فيه . ويهود يتجسسون لصالح الإنكليز ضد العثمانيين ، يهود يحتالون لسرقة الأراضي ويهجرون سكانها العرب ، ليقيموا فوقها مستوطنات تتحول إلى ملاجئ للعرب الهاربين من الأتراك …")
يتبع
ملاحظة : الرجاء ممن يود الاقتباس أو الأخذ مما ورد في هذه الحلقات الإشارة للمرجع ضمن الحقوق الفكرية .
* صحفي وكاتب