سلسلة المعرفة-26
سلسلة المعرفة
الحلقة السادسة والعشرون
القضاء والقدر
الجزء الثاني
محمد سعيد التركي
القدر : هو كل ما قدّره الله من خواص في الأشياء، فالحديدُ وصلابته، والخشبُ وقدرتُه على الإحتراق، والنارُ وقدرتُها على الإحراق، والماء وسيولته، ودخوله في حياة كل المخلوقات، والهواء وغازيته، والإنسان بطبيعة خلقه، وما جعله الله فيه من غرائز وحاجات عضوية، قدّرها الله فيه، فهذا هو القدر . وهو مما ليس له علاقة بأفعال الإنسان الإختياريةُ، إن أستخدم ما قدره الله في الأشياء من خواص، إن استخدمها في خير، أو إستخدمها في شر، فلا نقول أن الميل الجنسي مثلاً، مما قدره الله في الإنسان، إلزامي لفعل الفاحشة، أو المسدس إلزامي لقتل البريء، أو النار إلزامية للإعتداء بحرق أحدهم، أو حرق بيته .
قال الله تعالى في سورة الفرقان 2
وخلق كل شيء فقدره تقديرا
وقال تعالى في سورة القمر 49
إنا كل شيء خلقنه بقدر
أما اللوح المحفوظ فهو ما يتم فيه الخلط بينه وبين أفعال الإنسان الإختيارية والقضاء والقدر، فيقال عند حدوث أشياء من القضاء هذا مكتوب، وعند حدوث أشياء مصدرها فعل الإنسان وظلمه وسوء تصرفه وسوء إدارته وتدهور معيشته، هذا مكتوب، أو أن يقال عندما يقوم أحدهم بأفعال محرمة كالقتل أو الزنا أو شرب الخمر أو ظلم الزوجة والأبناء، هذا مكتوب، أو أن يقوم الحاكم بالحكم بغير ما أنزل الله هو ومن عاونه وناصره، ويتسبب في محاربة دين الإسلام، ويقوم بتدمير النهضة الصناعية أو الزراعية، والتسبب في الفقر والحاجة و ضياع بلدان المسلمين، وهتك أعراضهم وسفك دمائهم، وتدهور الأوضاع الإقتصادية والعلم والصحة، ويتسبب في ظلم الناس وضياع الشباب المسلم والشابات، أو بالإستسلام للأعداء وتقاسم المصالح معهم، يقال عن هذا كله أنه مكتوب .
نعم إن كل ما يحصل في الكون هو مكتوب في اللوح المحفوظ، خيراً كان أم شراً، من إختيار العبد أو مما هو مقضيٌ عليه، نتيجة فعله أم نتيجة فعل غيره، فقد كُتب في اللوح المحفوظ أن العبد فلان قد عُرض عليه فعل الفاحشة، فاختار العفاف مخافة الله، أو مخافة الناس، أو حياءً، أو حمية لسمعته، فيسُجل في اللوح المحفوظ ما سيختاره العبد ونيته وعواقب فعله وكل شيء.
هذا السجل وهذا التسجيل في اللوح المحفوظ هو علم الله المسبق عن خلائقه وأفعالهم وأقوالهم وتصرفاتهم وتجاوبهم مع رسائله ورسله لهم، وليس اللوح المحفوظ مقِرّراً تقريراً إجبارياً لما سيفعله أحدهم من ظلم أو إعتداء، أو ما سيفعله من خير وصدقة وحسن خلق وبر وطاعة، فكلمة مكتوب بجب أن تحمل مفهومَ أنه مقضيٌّ قضاه الله، وقد بينا ما معنى القضاء، وليس للإنسان دفع ما قضاه الله عليه، ولا يصح أن تحمل كلمة مكتوب مفهوم أن كل فعل يقع على الإنسان أو منه هو فعل إجباري، قد فرضه الله عليه وألزمه به، كما هو في اللوح المحفوظ .
ويجب أن نلفت النظر أن أفعال الإنسان الإختيارية لا تكون جبراً عن الله عز وجل، وإنما هي مما قرره الله على الإنسان أن أعطاه حرية التصرف بين الفعل والترك، وجعل عقله مناط التكليف، وفعله الإختياري مناط الحساب والعقاب، أي أن الله لا يقع في ملكه إلا ما يريد .
أي أن لو أخذنا مسألة الزواج وإنجاب الأبناء وعلاقتها بأفعال الإنسان الإختيارية، فإقتران شخصين بعينيهما بالزواج هو إقتران، قد إجتهد فيه الطرفان أو من يليهما بإختيارهما، كما أراد الله للإنسان أن يختار الشيء أو يجتنبه، ولكن هذا الإختيار للزوجين مُتَمَّمٌ إذا أراد الله له أن يتم، ولن يتم إذا لم يرد الله ذلك، وكذا إنجاب الأبناء، إذا لم يكن ما يريده الله أن يحصل، فلن تنفع إرادة المنجبين ومحاولاتهم للإنجاب، ولو إمتنعوا وأراد الله أن ينجبا طفلاً، فسيغير الله إرادة عبديه لأن يقوما بمحاولة الإنجاب، وينجبا بما أراده الله لهما، كل هذه الأفعال مما تم ومما سيتم ومما فُعل أو تُرك أو اُجّل قد علمه الله مسبقاً، وتسجّل في اللوح المحفوظ .
أما المحاسبة على الأفعال تكون فقط في إطار الأفعال الإختيارية للإنسان، أي في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان مختاراً، على مقياس ما أمر الله به عباده من النواهي والواجبات، كما ورد في الرسالات السماوية للشعوب والقرى المختلفة قبل الإسلام، وللناس كافة بعد رسالة سيدنا محمد r بالإسلام .
ولا تكون المحاسبة بالثواب والعقاب فيما إختاره الله لعباده وأراده لهم مما ليس في ملكهم وقدرتهم على فعله، وعلى هذا الأساس تكون المحاسبة على جميع الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها، ولا يكون العذر فيما كان الإنسان قادراً عليه ولا يقوم به، ولا يكون العذر فيما يحصل على الإنسان من مصائب وكوارث من أفعال، هي في الأصل من صنع يده ونتيجة لإهماله أو سوء تقديره أو جهله، أو نتيجةَ مخالفته لأوامر الله صراحة، ثم يضْفيها على خالقه أو على القضاء والقدر والمكتوب، أو على غيره من الناس، أو على الحكام، أو على علماء السوء، أو على الزمان أو المكان .
فيجوع الناس ويموتون في بلاد ما، لأجل أنه لم يُطبّق حكم الله في الأنظمة الإقتصادية، ولأنه لم يتم تمكين الناس من ثروات الأرض بالكيفية التي أمر الله بها، ولم يتم توزيع الثروة عليهم، ولأنه إستحوذ عليها أصحاب القوة عندهم والسلطان فمنعوهم عنها . ثم يشتكي الناس القضاء أو القدر أو المكتوب، ويرفعوا أيديهم متضرعين إلى الله أن يرزقهم .
ولا نقول أن السبب في الفقر إذن هم الحكام وأصحاب السلطان، والناس بُرآء من الإثم، لا نقول ذلك لأن حكم الله قد نزل على الناس، وقد أرسل الله الرسل بالهدى والبينات، وأقام الحجة على الناس أجمعين، لذا فإن فقر الناس بهذه الكيفية ليس من قضاء الله أو قدره، أو لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ولكن السبب في ذلك لأنهم هم الذين صنعوا الفقر لأنفسهم برضاهم وبسكوتهم على الظلم وإعانتهم عليه، ومخالفتهم أمر الله.
والزوجة والزوج يظلم كلّ منهما الآخر، ويتعديان على حقوق بعضهما، ويأكل أحدهما حق الآخر، أو تعبث زوجة بعرضها أو بمال زوجها أو طاعته مخالفين أوامر الله ونواهيه، ثم يتطلقان فيقولان قضاء الله وقدره، أو لأنه كتب في اللوح المحفوظ ..
والناس تشكي زمانها وأهل زمانها وقد أهملوا أمر الدعوة والحقوق كما أمر الله ونهى، ثم يضفون ذلك على القضاء والقدر أو أنه مكتوب .
وأمريكا وأوروبا يهجمان على بلدان المسلمين فيعربدون فيها، ويسفكون الدماء ويهتكون الأعراض ويحرقون الحرث، ويلوثون البلاد بالأشعة النووية، وقد ترك الناس الدعوة للحكم بالإسلام والدعوة لإقامة الجهاد، وجيوش المسلمين نائمة، ويرى الناس ذلك من قضاء الله أو قدره، وليس لأنهم هم الذين بأيديهم تسببوا في هذا الوضع المريع، ثم يصلون ويصومون، ويرفعون أكفهم بالدعاء بأن يزيل عنهم هذا الكرب، الذي صنعوه بأيديهم .
قال الله تعالى في سورة يس 12
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصينه في إمام مبين
وقال الله تعالى في سورة الأنعام 3
وهو الله في السموات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون
وقال الله تعالى في سورة 60
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون