اللعبة الماكرة !
د.عدنان علي رضا النحوي
باستعراض تاريخ منطقة العالم الإسلامي ، خلال القرنين الأخيرين ، ومتابعة بروز زعامات هنا وزعامات هناك ، وتكتلات هنا وتكتلات هناك ، زعامات تظهر وأخرى تختفي في جوّ يكون فيه المجرمون المعتدون هم المسيطرين في الديار سيطرة احتلال عسكريّ طاغ أو سيطرة انتداب ماكر ، أو سيطرة نفوذ وتسلُّل .
ولا تقف سيطرة هؤلاء المجرمين عند مجرد الاحتلال ولكنها تمتدُّ إلى الإدارة والاقتصاد والإعلام والاجتماع والتربية وسائر نواحي الحياة ، حتى تسيطر عليها أو تمدُّ فيها شباكها الناعمة اللينة ، أو حبالها المتينة الغليظة ، أو سلاحها الفتاك .
وعندما تكون الأمَّة المحتلة واهية ضعيفة ، فاقدة القدرة على مجابهة ما يحوكه لها المجرمون . فإنها تستسلم حيناً ، وإذا هبَّتْ أو ثارت فقد يكون ذلك تحت عين المجرمين الذين يوجّهون بأسلوب مباشر أو غير مباشر أو يسيطرون على نفوس تطلب الدنيا وتتبع هواها تحت شعارات مختلفة !
في كثير من هذه الحالات ، وليس في جميعها ، تكون الأمة الواهية ، قد بدأ التفكك فيها وبدأ التفرّق ، وأخذت تظهر فيهم العصبيات العائلية أو القبلية أو الشخصية ، ومختلف الأهواء المتصارعة والمصالح الدنيوية المتصارعة، وتنافس الدنيا ، وذلك كلُّهُ ينفث في عروقهم الخدر ويُدير الصراع ، يُقطّع الأرحام !
في هذا الجوّ ، وقد فقدت الأمة سلاحها الأول وحصنها الحصين ، وهو صفاء الإيمان والتوحيد ، وصدق العلم بمنهاج الله ، والسعي إلى الدار الآخرة . تطلب الجنّة والدار الآخرة ، لا شعاراً تتغنَّى به ، ولكن حقيقة تمثّل جوهر حياتها، في هذا الجو تكون الأمة قد فُتّحت أبوابها كلها للمجرمين ، ليدخلوا إلى مختلف ساحاتها وميادينها ويحكمون السيطرة عليها بأساليب متعددة ، تتفتَّق عنها عقولُ شياطين الإنس والجنّ .
إن أول هدف يسعى إليه المجرمون المعتدون هو تمزيق الأمة شيعاً وأحزاباً ، ومصالح وأهواء . ثمَّ يديرون الصراع بين هذه الفئات صراعاً لا يقف بل يتجدّد ، والناس غافلون عما يكاد لهم ، يندفعون في هذا الصراع تقودهم العواطف الهائجة والمصالح الرائجة ، والعصبيات المغروسة في النفوس ، والأيادي الخفيّة الممتدّة من هنا وهناك .
تصبح الأمة في هذه الحالة مفككة العرا ، يسهل على هؤلاء المجرمين التحكم في جميع الاتجاهات والعصبيات والمصالح والنوازع ، ويوجهونها بأيديهم الخفيّة على النحو الذي يريدونه والذي يضمن استمرار الصراع وبقاءه وامتداده . وإذا مال إلى الهدوء لحظة فما أسرع تلك القوى الخفيّة أن تؤجّج لهيب الصراع ثانية ، وهي ممسكة بجميع الخيوط تدير بها التحركات دون أن يشعر أحد بذلك ، وإذا حدث وشعر أحدهم بدور هذه القوى فإنك تراه قد أصبح راضياً بذلك حريصاً على بقائه . إنها مصلحته الشخصية التي هو حريص عليها أو مصلحته العائلية أو مصلحته الحزبية ، أو أيّ لون من ألوان العصبيات الجاهلية المتأججة في النفوس.
وفي هذه الأجواء تبرز قيادات تحرّك الجماهير وتدفع في هذا الاتجاه أو ذاك ، وقد يظنُّ هؤلاء أنهم الأبطال الحقيقيون الذين يحرّكون الجماهير . وإذا بقيادة أخرى تظهر تنافس الأولى على الزعامة والقيادة ، ويثور الصراع بينهما . وقد تظهر قيادة ثالثة ورابعة وهكذا .
ولو نظر هؤلاء كلهم إلى ما يتصارعون عليه لوجدوه شيئاً تافهاً لا يستحقُّ أن يدور عليه صراع ولا تنافس .
وإذا أرادت هذه القوى المجرمة المتحكمة في الساحة والميدان أن تظهر رجلاً ليكون بطلاً جماهيرياً ، فلذلك أساليب متعددة ، أهمها أن يبدأ الإعلام يشنّ عليه حملة غاضبة من المجرمين ، يكون صداها لدى الشارع في صالح ذلك الرجل وفي سبيل إبرازه . وقد يسجن فترة من الزمن ، ثمَّ يخرج من السجن لتتلقاه الهتافات والاحتفالات ، ثمَّ يكون زعيماً وبطلاً وقد يسمح له أن يقوم ببعض أعمال الوطنية التي تشدّ الجماهير إليه على أن يكون هذا كلّه بحساب وتقدير .
وإذا أرادت هذه القوى المجرمة المعتدية أن تقضي على رجل بارز أو حركة فيمكن أن تعلن تلك القوى المجرمة تأييدها له أو مساعدتها له ، ويتحرّك الإعلام بقدر محسوب بدقة ، ليكون صدى ذلك أن يصبح هذا الرجل خائناً وعميلاً، وليخسر جماهيره . وتستغلّ هذه القوى الأخطاء من هنا أو هناك لتتابع خطتها في إبراز ما تشاء وتحطيم من تشاء وفي استمرار الصراع .
والأمر الغريب أنك ترى وسائل الإعلام المختلفة تنطلق بهذا الاتجاه ، أو ذاك ، في وقت واحد وبأساليب متعددة تغذِّي الاتجاه المطلوب وتؤجج الصراع .
وتستطيع هذه القوى المجرمة أن تقضيَ على هذا وترفعَ ذاك ، أو تثيرَ المعركة بينهما ، أو تغدرَ بهذا حيناً غدراً مكشوفاً ، أو تغدرَ بذاك غدراً مكشوفاً ، وتُخِلَّ بكل عهودها ومواثيقها وتترك فريستها ملقاة جثة هامدة .
تتصرف هذه القوى المجرمة بسهولة ويُسْر لأنَّ الخيوط كلها بيدها ، تستطيع أن تتحكم بها .
إلا أنَّ ذلك كله يتمُّ على قدر من الله نافذٍ وقضاء غالب ، وحكمة بالغة ، ويحسب المجرمون أنهم هم العباقرة الذين يديرون الأحداث ، ذلك لأنهم لا يعلمون أنَّ لله سنناً ربانية ثابتة ماضية ، تحكم كلَّ صغيرة وكبيرة في هذه الحياة الدنيا وفي الكون كله . وقضاء الله حقٌّ عادل لا يظلم أحداً .
وتجرى الأمور على سنن ربانية ثابتة ابتلاءً منه سبحانه وتعالى لعباده وتمحيصاً لهم ، حتى تكون الحجّة يوم القيامة لهم أو عليهم . ولا تتأثّر هذه السنن الربّانية بقدرة الناس أو عدم قدرتهم على إدراك الحكمة الربّانية الغالبة ، فمنها ما بيّنه الله لنا ، ومنها ما لم يبيّنه .
ولا ينجو من خيوط هذه القوى المجرمة وحبالها إلا من أخلص نيّته لله وخطا على نور من منهاج الله ، يردُّ كل صغيرة وكبيرة إليه ، و من اعتصم بالله صادقاً أميناً ، يطلب الدار الآخرة ويؤثرها على الدنيا ، و من جاهد نفسه على طاعة الله عن إيمان ويقين ، وعلمٍ صادقٍ بمنهاج الله ، ووعيٍ للواقع ، لا يطلب الدنيا بشعار الإسلام ، ولا يخدع ولا يكذب ولا يخون ، ولا يبدّل المواقف حسب مصالح الدنيا ، ولا يتاجر بدين وعقيدة ، ولا بوطن ودار .
هذه هي الطائفة الظاهرة التي حدّثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف فعن ثوبان رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )
[ رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ](1)
ويأتي هذا الحديث الشريف على عشر روايات ، كل رواية تُضِيف صفة من صفات هذه الطائفة الظاهرة ، ورأس الصفات كلها أنها تطلب الآخرة حقَّاً !
وهذه الطائفة الظاهرة ليست ظاهرة بالإعلام وضجيج الشعارات ، فلن تسمح تلك القوى المجرمة لها بفسحة من الإعلام ، أو بقوّة مادية تسندها ، أو بسلاح تفيض به عليها ، أو بمال وفير يُصَبُّ بين يديها .
وقد تختلط الأمور على الناس أحياناً ، فلا يرون الحق ظاهراً ، وقد يخدعهم الباطل بزخرفه ، خاصة وأنَّ الناس بعامّة لا تردّ الأمور إلى منهاج الله ، ولا يكون بين يديها ميزان المؤمن . والزخرف والزينة ومظاهر القوة والحشود ، كل ذلك قد يُغْري ويفتن .
لقد رأينا نماذج من جميع هذه الحالات في تاريخ ديار المسلمين . ففي فلسطين مثلاً كم شغل الانتداب العائلات كلها بالصراع على انتخابات " رئاسة البلدية " في كل مدينة ، ووضح أن الانتداب قادر على أن يتحكم بنتائج الانتخابات، وراغب بشراء أكبر عدد من الناس ، حتى إذا تبيّن له إصرار فريق على معاداته خذله بطريقة من طرقه المتعددة ، ثمَّ يدور الصراع بين الناس ويمتدُّ، فإذا الانتداب قد حقّق أهدافه ، وأقام دولة إسرائيل ، وشرَّد أهل فلسطين من ديارهم ! ونماذج أخرى كثيرة في تاريخنا !
وانظر إلى ما يجري اليوم في أفغانستان والعراق والصومال وسائر ديار المسلمين ، آيات لله بيّنات لمن أراد أن يتذكّر ويبصر . واقرأ ما كتبه " بوب ودورد " في كتابه : " Bush at War " لترى كيف تُشْترى النفوس بالدولارات وغيرها ، حتى صار هذا شيئاً يُعْلن عنه بعد أن كان قبل سِرَّاً .
هذه هي اللعبة الماكرة التي يلعبها أعداء الله في العالم الإسلامي ، يلعبها المجرمون الظالمون ، وقد أمسكوا بكثير من الخيوط . انظر وتفكر فيما ترى ! حشود هنا وحشود هناك ، تدخل ميادين السياسة أو ميادين القتال ، أو غيرها من الميادين . وكلٌّ يحتاج إلى المال الوفير لينفق على حشوده ونشاطه ، وكلٌّ يحتاج إلى السلاح وسائر أنواع العتاد . وذلك كله له مصادره المحدّدة المعروفة ، التي تفيض على من يواليها ، وتغدق عليه بذلك كله وبالإعلام .
يستحيل على الفرد العاديّ أن يوفّر ذلك كله إذا أراد أن ينطلق مستقلاً عن هذه المصادر ، إلا في حالة واحدة فقط . تلك الحالة عندما يتوكل على الله حقَّ توكله ، ألا يشرك به شيئاً ، ولا يطلب شيئاً من زينة الدنيا وزخرفها ومناصبها ، ويمضي على نور من منهاج الله إيماناً وعلماً وعملاً ، وهو يعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى قد خلقه ليوفي بمهمة عظيمة في الحياة الدنيا هي مدار العبادة والأمانة والخلافة والعمارة ، وهي مدار الحساب يوم القيامة عندما يُرْجَعُ الخلق كلهم إلى الله ربّهم وخالقهم :
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) [ المؤمنون : 115]
هذه المهمّة هي التي نسيها كثير من المسلمين ، فَشُغِلوا بألف قضية دونها وقضيّة ، حتى طوتهم الحياة الدنيا وهم يصارعون هنا ، ثمَّ هناك ، كأنّهم في تيه يَجذبهم البرّق الخُلَّب الذي سرعان ما يختفي ، حتى يدركهم الموت ولات ساعة توبة أو مندم !
هذه المهمة هي تبليغ رسالة الله ودينه إلى النّاس كافّة كما أُنْزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وتعهُّدهم عليها حتى تكون كلمة الله هي العليا .
تحوّلت جهود كثير من المسلمين إلى أحلام الوطنية والديمقراطية والعلمانية والعولمة تحت شعار الإسلام ، ودُفِعُوا إلى ذلك أو استدرجوا أو استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا ، ثمَّ دوَّت الشعارات وغلب ضجيجها على كل عقل وروية ونهج. ثمَّ يدور الصراع هنا وهناك ليشغلوا بمزيد من الأمور ، كلما أوشك أمر أن ينتهي أُخْرج لهم أمر جديد ليمتدَّ الصراع ، وتغيب الأهداف شيئاً فشيئاً ، أو توضع أهداف آنية كاذبة ليشغل بها المسلمون .
لا بدَّ أن نوضّح أنَّ هذه المهمّة التي خلقنا الله للوفاء بها كما ذكرناها لا تعني مجرد الدعوة والتبليغ ثمَّ الاسترخاء والاستكانة . إنَّ هذه الدعوة التي يجب أن تمضي على صراط مستقيم تشمل كافة ميادين الحياة من سياسة واقتصاد واجتماع وغير ذلك ، ليكون كل ميدان من هذه الميادين باباً إلى الدعوة والبلاغ والبيان ، ولتكون الميادين كلها مترابطة متماسكة حتى لا يشغل عنها المؤمن بزخرف أو زينة يبتلى بها في طريقه .
يريد الله سبحانه وتعالى أن يتفرّغ المؤمنون الصادقون إلى هذه المهمّة بصورتها الشاملة التطبيقية ، لا يشغلهم عنها شيءٌ ولا طلب الرزق.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( لو أنَّكم تتوكّلون على الله حقَّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً )
[ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم ](2)
ولا يعني التوكل الكسل والاسترخاء وعدم السعي ، ولكنه يعني أن يكون رجاؤه كاملاً بالله سبحانه وتعالى وحده ، وهو ماضٍ في سعيه وتبليغه وبيانه ، وطلب رزقه دون أن يعطله طلب الرزق عن المهمة التي خلقه الله للوفاء بها .
إنَّ الذي يحدث في واقع الناس أنهم لا يتوكلون على الله حق التوكل بسبب الخشية من الفقر ، وبسبب الطمع المتنامي في طلب المال ، وبسبب الفتنة بزخرف الحياة الدنيا وزينتها .
وكذلك الحديث الشريف الذي يرويه عبد الله بن محصن رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه ، معافى في جسمه ، عنده قوت يومه ، فكأنَّما حيزت له الدنيا بحذافيرها )
[ رواه البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي ، وابن ماجه ](3)
ولكن المشكلة في واقع الناس أنهم لا يقنعون برزق يومهم ، ولا يطمئنون إلى رزق الله سبحانه وتعالى أنه آتيهم لا محالة على قدر ما كتبه الله لهم .
ولو أيقن المؤمنون بأنَّ الله خلقهم للوفاء بالمهمة التي ذكرناها فنهضوا إليها وصدقوا الله بالوفاء بها ، ولو أنهم آمنوا بأنَّ الله هو الرزاق ذو القوّة المتين ، ولو أنهم توكلوا على الله حق توكله من أجل أن يوفوا بالمهمّة التي يريدها الله سبحانه وتعالى ، لو تمَّ ذلك لكان المؤمنون أعزَّ الناس في الأرض ، ولسادوا ومكّن الله لهم ، وكسبوا الدنيا والآخرة .
بعد هذه الأحداث المتكرّرة في تاريخ طويل ، ألا يتَّعظ المسلمون بها ويفيقون ولا يظلُّون ضحيَّة هذه اللعبة الماكرة التي ما زالت تتكرَّر وما زلنا نخسر الكثير بسببها ؟!
ألا نرى كيف أنَّ العدوّ يستطيع أن يستفيد من جهود أعوانه ومن جهود خصومه ، لتصبَّ كلها في مصلحته هو ؟! ولِمَ ذلك ؟! لأنَّ العدوّ له خطته والذين أمامه لا خطة لهم يدفعهم الارتجال والعاطفة .
ألا نرى كيف أنَّ معظم قضايانا خسرنا فيها كثيراً جداً بالرغم من كثرة الضحايا وكثرة الإنفاق والبذل ؟! ألا ترى أنَّ إسرائيل كان لها من فلسطين بحدود 56% ، وبعد هذه السنين الطويلة والانتفاضات والشعارات المدويَّة أصبح لها أكثر من 90% من أرض فلسطين . إلى أين نتجه مع شدّة اختلافاتنا وصراعنا فيما بيننا ، ومع كثرة التمسك بالغرب ومبادئه من ديمقراطية وعلمانية وعولمة ؟!
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته ، حديث رقم : ( 7289) .
(2) المرجع السابق ، حديث رقم : ( 5254) .
(3) المرجع السابق ، حديث رقم : ( 6042) .