مرثية كاتب سُلطة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

ذهب ولم يعد !

وكلنا سيذهب ولن يعود ، ولكن الذهاب سيكون إلى حيث العدالة المطلقة التى لا تستطيع السلطة نفسها ، أن تصنع شيئاً يُنقذها مما صنعت يداها إثماً وشراً وظلماً وطغياناً .. العدالة المطلقة تحاسب على كل كبيرة وصغيرة .." فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " ( الزلزلة :8،7) !

كان فى أوج قوته ، يستخدم قلمه للترويج للباطل ، وطمس الحقائق ، وتسويغ الظلم ، والتدليس على الناس .. لم يكن يهمه أبداً أن يقول كلمة حق عند سلطان جائر ، أو موظف فاسد ، أو مسئول مجرم .. كان كل همه أن يُوالى السلطة الغشوم ، بكل أطيافها ودرجاتها على حساب الحق والعدل والضمير .. فقد مات ضميره منذ زمان !

لا بأس أن يكون المرء فقيراً . ولا بأس أن يكون الإنسان من بيئة متواضعة ، ولا بأس أن يكون الكاتب قادماً من قوم بسطاء .. فالفقر ليس عيباً وكلنا فقراء إلى الله حتى لو ملكنا كنوز الأرض ، وكلنا من بيئة متواضعة ، فنحن فلاحون قهرهم الظلم وأذلهم الطغيان ، وكلنا بسطاء بساطة الحياة الريفية التى تجعل من الواقع – مهما اشتدت قسوته – أمراً ميسوراً بالقناعة والرضا أما أن يتحول الفقر والتواضع والبساطة إلى حال من الإجرام في حق المجتمع ، وتزييف الحقائق ، ..والانتقام من جموع الناس الذين يحتاجون إلى من يقف إلى جانبهم يدفع عنهم الشرّ والظلم والطغيان ، ويتحول الفقر إلى شهوة اكتناز تدوس كل القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة ، ويصير التواضع وضاعة لا تتورع عن مقارفة أخسّ أنواع الدجل والبهتان والكذب ، وتصبح البساطة طريقاً إلى الوجاهة المريضة والكسب الحرام ، فهو مالا يقبل به أحد ولا ترضاه الفطرة ، ولا يسجله التاريخ إلا فى صفحاته السود !

ليس عيباً أن يكافح الفقير ليصير غنياً ووجيها وصاحب سلطان .. شريطة أن يكون ذلك عن طريق مشروع حلال .. لكن أن يكون هذا الكفاح عن طريق النفاق والتدليس ، وتغيير المواقف والاتجاهات وفقا لبوصلة الطغيان والاستبداد ، فهذا هو الحرام بعينه . وهذه هى الخسّة بذاتها ..

صاحبنا قضى عمره يؤيد الحكم الناصرى ، ويشيد به ، ويتغزل في محاسنه ومميزاته كما يراها ‘ حتى إذا انتهى الحكم الناصرى وذهب زمانه ودالت دولته ، فإذا به يتقرب إلى النظام الساداتى ، ويلعن النظام الناصرى الذى آواه ، ونقله من الوضاعة إلى الوضعية ، ومنحه فرصة النمو الاجتماعى والانتقال من حال كان فيها صورة للامتهان والابتذال ، إلى شخص آخر له مكانة مرموقة ووضعا ملموساً يُشير إليه الناس بالبنان ، ولكنه انقلب على نظام الأمس الذى كان يكيل له المدائح والمطولات ؛ ويقرظ أعماله ولو كانت تحويل البلاد إلى سجن كبير ، يُجلد فيه الشرفاء ، ويُمتهن المثقفون ، ويُعلق فيه المعارضون على المشانق والعرائس !

وفى النظام الجديد الذى وارب  باب الكلام والتعبير ، تطوح فى حلقة الذكر مع الدراويش الجدد ، وراح يُسيغ عليه كل صفات الشرف والنبل والرفعة ، حتى كاد يؤله صاحب النظام .. والمفارقة أنه لم يجد غضاضة فى العمل فى حزب معارض اعتقل السادات رئيسه ورماه فى السجن مع من رأى أنهم مرميون فى السجن " زى الكلاب " ..! كان فى الحزب المعارض يمدح رئيسه ويكتب عن تاريخه ويتخذ من صحيفته ميداناً لتصفية حساباته مع من يكشفون عن انتهازيته ونفاقه الرخيص وأسلوبه المتدنى !

وبعد أن ذهب السادات إلى لقاء ربه ، صار نجما فى جوقة النظام الذى خلفه ، أى النظام الحالى ، وكان قد جرّب كيف تفتح الأبواب على مصراعيها لكتاب السلطة وخدامها .. الصحافة القومية على اتساع صفحاتها فى أقوى جرائدها ومجلاتها ، برامج التلفزة والإذاعة على تعدد أنواعها واختلاف ألوانها ، الندوات والمؤتمرات والمعارض ولجان المجالس العليا والسفلى فى الثقافة والإعلام والتعليم ، عضوية المجالس النيابية الصورية بالتعيين وليس بالانتخاب ، لجان كتابة التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية ... كل ما تتخيل أن الدولة البوليسية الفاشية تصنعه وتخترعه لإلهاء الناس عن واقعهم المرير وممارساتهم الاستبدادية تجده قائماً فيه وموجوداً بداخله ، ورابضاً على بابه ..

وكل الغثاء الذى كان يسطره ويقوله ، يظهر فى الحال ضمن كتب ضخمة ومجلدات كبيرة ويُنشر على الشعب البائس المسكين ، الذى كان-  للإنصاف – يُقاطعه ولا يرى فيه إلا حالة من الانحراف التى يعالجها الشعب بالتجاهل ، ولكن صاحبنا فى كل الأحوال كان يتقاضى من دم هذا الشعب المغلوب على أمره ، الظالم لنفسه ، مكافآت ضخمة ، وتتزايد أرصدته فى البنوك وتنمو وتكبر لدرجة أنه لم يكن يعرف الرقم الذى وصلت إليه.

كان الشىء الوحيد الذى يلح عليه ، ويلعب به ، ويتقرب به إلى السلطة البوليسية الفاشية هو هجاء الإسلام والمسلمين .. على اعتبار أن الإسلام لا بواكى له والمسلمين حائطاً واطيا يقفز عليه كل من يسعى إلى الجاه والثروة والتمتع بمزايا النظام الحاكم .

ولكنه ذهب .. وبقى الإسلام والمسلمون ! وتلك إرادة الله .

ترى هل كان وفياً لأستاذه الذى فتح له صدره وبيته وساعده على الحصول على أرقى الشهادات العليا ؟ لقد انقلب عليه ، وأساء إليه ، ولم يجد فى ذلك حرجا أو غضاضة ..

من ينقلب على أستاذه ، لا يجد غضاضة فى الوشاية الكاذبة بزميل له في الجامعة لا يعرفه ، ليتقرب إلى النظام الفاسد الذى يغدق عليه ، ويمنحه مالا يستحق من أموال الشعب البائس الظالم لنفسه ..

أذكر أن حواراً دار بين هذا الزميل الأستاذ الجامعي ؛ وبين رئيس تحرير صحيفة حزبية حول إحدى القضايا المتعلقة بشخصية وطنية . فإذا بصاحبنا يقحم نفسه فى الحوار ليتقرب إلى الحزب ورئيسه ، ويكتب أن الزميل المذكور من الإرهابيين ( الإسلاميين ) الذين ينشرون الإرهاب بين طلابهم ، وهو بلاغ رخيص لمن يعنيهم الأمر فى النظام البوليسى الفاشى لإيذاء الزميل ، الذى لم يسكت وأنصفه القضاء إنصافاً تاريخيا نشرته معظم الصحف غير الحكومية .. والطريف أن الزميل لم يستطع أن ينفذ عليه الحكم ، لأن صاحبنا كان يسكن فى أربعة أو ثلاثة بيوت ، كل بيت فيه زوجة فى عمر بناته أو أحفاده باستثناء " أم العيال " ، وكلما ذهب رجال التنفيذ إلى بيت ، قالوا : إنه لا يُقيم هنا ، مع أنه كان عضواً فى مجلس نيابى ويملك حصانة ويظهر اسمه فى أكثر من صحيفة طوال الأسبوع !

لقد لاحظت أن كتاب السلطة من زملائه القدامى والجدد لم يذكروه بكلمة ‘ باستثناء الخبر الذى نشرته إحدى الصحف الحكومية .. وهذه آخرة خدمة الغزّ .. وآخر أخلاق العبيد .. فاللهم ارحمنا من العبيد وسادتهم الظالمين .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.